مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 351 ـ 360
(351)
كان أصله محسوساً من قبل ، ثم غاب كالمسافر أو بالعكس كالمولود الذي كان في غيابة الرحم ، محجوباً عن الحواس ثمّ ولد بعد ، فصار محسوساً بين الناس.
    وربّ اُمم دوّخت الأقيال والأجيال في سالف الدهر ، كجرهم وأياد ، ثمّ بادت ، وهم اليوم غيب ، وأنباؤهم الخطيرة تعد في زوايا التاريخ من الغيوب ، وربّ جراثيم الأمراض كانت محجوبة ، أو لا تزال محجوبة عن الحواس ، ثمّ في مستقبل الأجيال تقوى الآلات على استكشافها ، فتصير محسوسة مشهودة ، وربّ طعام يقصر عن شمّه حسّ الانسان والحيوان ، إلاّ النمل الذي فاق حسّه على غيره ، فيهتدي إليه ولا يغيب عنها ، أو كحبة خردل لا تغيب عن الغراب ، لحدة بصره ، بينما هي غائبة عن غيره ، أو صوت متحرك في دياجير الظلام لا يغيب عن احساس الفرس ، لقوّة سمعه بينما يغيب عن غيره ... (1).
    وهذا البيان الضافي يوقفنا على أنّ الغيب على قسمين : مطلق واضافي ، فالمطلق منه ما لا يقع في اُفق الحس أبداً ويمتنع إدراكه بالآلات والأدوات المادية كذاته سبحانه وصفاته وغيرهما ممّا عدّدناه ، والاضافي ما يتفاوت بحسب الظروف والاشخاص ، فربما يكون غيباً في ظرف ، فجرثومة السل كانت غيباً في غابر الزمان ، قبل أن يقف عليها مكتشفوها ، ويروها تحت المجهر إلى أن عادت أمراً محسوساً في هذه الظروف التي كثرت فيها الأدوات العلمية ، وسهل الوقوف على صغار الموجودات التي لا يدركها الطرف مجرداً عن الآلات الحديثة ...
    وإلى ذلك يشير العلامة الطباطبائي بقوله : الأشياء المجهولة ، أي غير الواقعة تحت الحواس ، غيب ، ومن الحري أن نسمّيها عندئذ غيباً نسبياً ، لأنّ هذا الوصف الطارئ عليها ، وصف نسبي يختلف بالنسب والاضافات ، كما أنّ ما في الدار مثلاً ، من الشهادة بالنسبة إلى من فيها ، ومن قبيل الغيب بالنسبة إلى من هو في خارجها ، وكذا الأضواء والأكوان المحسوسة بحاسّة البصر ، من الشهادة بالنسبة إلى البصر ، ومن الغيب
    1 ـ المعجزة الخالدة ص 71 ـ 72.

(352)
بالنسبة إلى حاسّة السمع ، والمسموعات التي ينالها السمع ، شهادة بالنسبة إليه ، وغيب بالنسبة إلى البصر ، ومحسوساتهما جميعاً من الشهادة بالنسبة إلى الانسان الذي يملكهما في بدنه ومن الغيب بالنسبة إلى غيره من الاناسي (1).
    وبذلك يصح لنا أن نصطلح ونعبّر عن الغيب البحت (2) بـ « الغيب عن العالم المادي » وعن الغيب النسبي بـ « الغيب في العالم ».
    بما أنّ الغيب البحت ، لا يخرج عن تحت الخباء ، فلا يتفاوت حاله بحسب الظروف والأحوال ، فالواجب على الانسان ، الإيمان به ، إذا قام الدليل على وجوده لامتناع شهودها ، والتعرف على حقيقتها ما لم يخرق الانسان الحجب المادية ، ولم يلق الستار عن مشاعره ، حتى يتعرّف عليها كتعرّفه على المحسوسات ولا يحصل ذلك إلاّ بالموت ، والتحلل من الجسد ، والتحرر من المادة حتى يصدق عليه قوله سبحانه :
    ( وَ جَاءَتْ كُلُّ نَفْس مَعَهَا سَائِقٌ وَ شَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَة مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيد ) ( ق : 21 ـ 22 ).

أنواع المغيبات في القرآن :
    إنّ المغيبات الواردة في القرآن لا تزيد اُصولها على أقسام ثلاثة :
     الأوّل :
    الخبر عن اللّه سبحانه وأسمائه وصفاته ، والخبر عن الروحانيات وملائكته وتدبيره العوالم الأرضية ، والسماوية ، وشؤون الاحياء بعد الموت في البرزخ وحالة الأرواح قبل المعاد وبعده من نعيم أو جحيم ، والقرآن يموج بهذه المعاني الغيبية المطلقة التي لا
    1 ـ الميزان ج7 ص 128.
    2 ـ ما أسميناه غيباً بحتاً فإنّما هو مجرد اصطلاح ليحصل الفرق بين القسمين وإلاّ فإنّما هو غيب بحت بالنسبة إلى العالم المادي ، وأمّا بالنسبة إلى نفسه أو ما يسانخه من الموجودات أو الواجب سبحانه فليس غيباً أصلاً.


(353)
يتعرف عليها الحس ولا تقع في اُفقه في هذا الظرف.
     الثاني :
    الإخبار عن اُمم قد خلت من قبل وطويت حياتها ، فأصبحوا ممّا لا يرى حتى مساكنهم ومواطنهم ، من دون أن يرجع إلى كتب السير والتاريخ والكهنة والربانيين أو يطالع كتاباً أو باباً خاصاً في هذا الموضوع. ومثله الخبر عن شؤون البشر في مستقبل أدواره وأطواره ، والاشعار بملاحم وفتن وأحداث في مستقبل الزمن ، كإخبار القرآن عن إنّ ابا لهب وامرأته يموتان كافرين ، في قوله تعالى : ( تَبَّتْ يَدَا أَبِ ـ ى لَهِب وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَ ـ ى نَاراً ذَاتَ لَهَب * وَامْرَأتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ * في جِيدِهَا حَبْلٌ مِن مَّسَد ) ( المسد : 1 ـ 5 ) ، وإخباره عن غلبة الروم ، بعد بضع سنين في قوله سبحانه : ( آلم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِ ـ ى أَدْنى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعدِ غَلبِهِمْ سَيَغلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ... ) ( الروم : 1 ـ 4 ).
    وتلحق بذلك الاُمور التي قيل اختص علمه بها سبحانه ، كوقت الساعة : والمستور في ظلمات الارحام ، ... الواردة في قوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَ يَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَ مَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذا تَكْسِبُ غَداً وَ مَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْض تَمُوتُ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) ( لقمان ـ 34 ).
    وسوف نرجع إلى البحث عن هذه الآية وتقف على نظرنا فيها.
     الثالث :
    الإخبار عن بعض الموجودات أو النواميس السائدة في الكون ، وقد كان مغيباً عند نزول الوحي عن ادراك الحواس المجردة عن الأدوات المخترعة في هذا الزمان ، كإخباره سبحانه عن زوجية الأشياء عامة بقوله : ( وَ مِنْ كُلِّ شَيْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( الذاريات ـ 49 ) ووجود الدابة في السماوات بقوله : ( وَ مِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمواتِ وَ الأرْضِ وَ مَا بَثَّ فِيهِما مِنْ دَابّة وَ هُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إذا يَشَاءُ


(354)
قَدِير ) ( الشوري ـ 29 ).
    إلى غير ذلك من إخباراته عن الحقائق العلمية والنواميس المطردة في الكون.
    ثمّ إنّ الزرقاني أرجع اُصول أنباء الغيب الواردة في القرآن إلى اُمور ثلاثة على وجه يقرب ممّا ذكرناه ، قال : من ذلك قصص عن الماضي البعيد ، المتغلغل في أحشاء القدم ، وقصص عن الحاضر الذي لا سبيل لمحمد إلى رؤيته ومعرفته فضلاً عن التحدث به وقصص عن المستقبل الغامض الذي انقطعت دونه الأسباب وقصرت عن إدراكه الفراسة والألمعية والذكاء ـ إلى أن قال : ـ أمّا غيوب الماضي فكثيرة تتمثّل في تلك القصص الرائعة التي يفيض بها التنزيل ولم يكن لمحمد إليها من سبيل كقصة نوح ، وموسى ، ومريم ، وأمّا غيب الحاضر فنريد به ما يتصل باللّه تعالى والملائكة والجن والجنّة والنار ونحو ذلك ممّا لم يكن للرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) سبيل إلى رؤيته ولا العلم به ، فضلاً عن أن يتحدث عنه على هذا الوجه الواضح.
    ومن غيب الحاضر أو الماضي ما جاء في طي القرآن من حقائق ومنافع ومبادئ لم يكشف عنها إلاّ العلم الحديث ، وأمّا غيب المستقبل فهو تنبّأ بحوادث وقعت كما أخبر ... (1).
    نعم أرجع العلاّمة الشهرستاني أنواع المغيبات إلى ثمانية أقسام (2) ويرجع اُصولها إلى الوجوه الثلاثة التي أوضحناها.
    ثمّ إنّ هذا التقسيم ، إنّما هو بالنسبة إلى البشر المحدود ، الذي تغيب الأشياء عنه ، وأمّا بالنسبة إليه سبحانه فالأشياء كلّها حاضرة لديه ، بأعيانها الخارجية فالماضي والحال والمستقبل عنده سواسية : ( وَ مَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّة فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ) ( يونس : 61 ) فهو المحيط بكل ما دق وجل ، ولا يشذ عن محيط علمه خبر خطير ولا صغير ... إلاّ يعلم من خلق ، وهو اللطيف الخبير.
    1 ـ مناهل العرفان ج2 ص 263 ـ 264.
    2 ـ المعجزة الخالدة ص 72.


(355)
الإخبار عن الغيب أحد وجوه إعجازه :
    ثمّ إنّ المغيبات التي أشرنا إليها اجمالاً ، دلّت قبل كلّ شيء على كون القرآن كتاباً سماوياً ، أوحاه سبحانه إلى أحد سفرائه ، فإنّ الإخبار عن المغيبات الكونية ، والنواميس السائدة في الوجود ، أو الإخبار عن الاُمم البائدة على النحو الذي ذكرناه أو الإخبار عن شؤون البشر في مستقبل أدواره ، والإيماء إلى الملاحم والفتن ، والتي لا يدل عليها ولا يرشد إليها الحس ، أمر خارج عن طوق البشر ، فلا مصدر لها إلاّ كونها وحياً أو إلهاماً ، من خالقه إلى مخلوقه ورسوله الذي ارتضاه فهو عالم الغيب والشهادة فلا يطلع على غيبه أحداً إلاّ من ارتضاه من رسول ، فمستند النبي في مثل هذه المغيبات هو اللّه علام الغيوب.
    وقد عرفت أنّ الإخبار عن الغيب بأقسامه الثلاثة كثير في القرآن المجيد ، وأنّ استقصاء الموضوع بعامّة نواحيه ، يحوج الباحث إلى تأليف مفرد. وقد قام عدة من الفضلاء في عصرنا بجمع الآيات التي أخبرت عن النواميس السائدة على الكون من أسرار الخلقة ونواميس الطبيعة ، مما كانت مختفية في عصر نزول القرآن ، ولم يكن سبيل إلى استكشافها إلاّ من طريق الوحي ففسرّوها وأوضحوا مداليلها (1) وبذلك أغنونا عن أفاضة القول في هذا القسم من الغيب ، وأمّا غير هذا القسم من أقسام المغيبات التي جاءت في القرآن فمجمل القول فيه :
    إنّ المتفحّص في ما أخبر القرآن به من أحوال الاُمم والحوادث الماضية ، يجد من نفسه أنّ المصدر الوحيد لبيان تلك الحوادث هو الوحي الالهي ليس غير وأنّ النبي الأعظم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يتلقها من مثقفي عصره ولا من الكتب الدارجة في عهده ، التي تنسب إلى الوحي وتعزى إلى الأنبياء ، إذ لو فرضنا أنّه أخذ ما أتى به من القصص من أحبار اليهود وأساقفة النصارى وقسيسيهم وكهنة العرب والكتب الدينية الرائجة من التوراة
    1 ـ راجع كتاب العلوم الطبيعية والقرآن ، والقرآن والعلوم الحديثة وغيرهما.

(356)
والانجيل ، لوجب أن تنعكس على كتابه ظلال مصادر علمه ، ومآخذ نقله ، ونحن نرى مخالفة القرآن لكتب العهدين في جميع النواحي عامة وفي ناحية القصص خاصة.
    إنّ القرآن اشترك في بعض القصص مع التوراة الرائجة التي اتفق اليهود والنصارى على أنّها كتاب اللّه المنزل على رسوله « موسى » ( عليها السَّلام ) فأوردت التوراة الدارجة تلك القصص مملوءة بالخرافات وجاء في بيانها بجمل تشابه كلام المبتلى بالهذيان.
    غير أنّ القرآن الكريم لما كان كلام اللّه القدوس ، ووحيه ، قد نقل كثيراً من قصص الاُمم وتواريخها ، بأبلغ العبارات وأحسنها ، وأنصع الجمل وأسدّها نزيهة عمّا يمس كرامة اللّه سبحانه وكرامة أنبيائه ورسله ، ولو صح ما ذكر من اختلاق النبي الأكرم للقرآن من جانب نفسه يجب أن يتأثر بمصادر نقلها ، وامتنع حسب العادة أن لا يذكر شيئاً من محتوياتها مع ما فيها من القعقعة التاريخية ، والناقل لقصص العهدين يستحيل أن لا ينعكس على أفكاره وكلامه ، ما يجده فيهما.
    يجب على علماء المسلمين ولاسيما الاخصائيين منهم في علم السير والتاريخ القيام بتأليف موسوعة كبيرة (1) تتضمن عرض ما جاء في العهدين من القصص والحوادث على ما جاء في القرآن ثمّ القضاء الصحيح بين النقلين حتى يتبيّن أنّ ما يحتوي عليه القرآن من سمّو المعارف ورصانة التعليم ، لا يمكن أن يعزى إلاّ إلى الوحي السماوي ، وأنّ ما تشتمل عليه كتب العهدين من قصص الخرافة وأباطيل الأحاديث لا تلتئم مع البرهان ، ولا تتمشّى مع المنطق الصحيح ، وأنّ هذه الكتب قد دست وزورت
    1 ـ نعم ، قد قام لفيف من الفطاحل الأعلام فألّفوا في هذا المضمار كتباً ورسائل تسد جوع القارئ بعض السد فعالجوا بعض النواحي من هذه الاطروحة شكر اللّه مساعيهم ، فراجع إلى « الهدى إلى دين المصطفى » و « الرحلة المدرسية » للعلامة الحجة البلاغي و « نفحات الاعجاز » و « البيان في تفسير القرآن » لآية اللّه الخوئي و « الميزان في تفسير القرآن » ج3 تأليف المفكر الإسلامي الكبير السيد محمد حسين الطباطبائي ، ثمّ حكّم عقلك ووجدانك هل ترى أنّ النبي الأعظم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أخذ معارف كتابه واقتبس معارف قرآنه وقصصه من هذه الكتب.

(357)
وتطرّق إليها التحريف بيد اُناس لا خلاق لهم من الدين ولا الشرف الانساني.
    بقي من أقسام الغيب الوارد في الكتاب العزيز أمران :
    1 ـ ما يرجع إلى الإخبار عن اللّه سبحانه وأسمائه وصفاته والعوالم الروحية وغيرها التي يموج بها القرآن ، فقد خصصنا لبيان هذه المعارف القسم الأوّل من كتابنا هذا فشرحنا لك هذه المعارف وما فيها من سمو ورصانة واحداً بعد واحد حسب الترتيب الذي وقفت عليه في مقدمة الكتاب.
    2 ـ ما يرجع إلى الخبر عن شؤون البشر في مستقبل أدواره وأطواره وما يلم به من ملاحم وفتن ، فهذا هو الذي نبحث عنه في المقام على وجه الاختصار فنقول :
    إنّ القرآن قد أخبر عن الحوادث التي كان التكهّن والفراسة يقتضيان خلافه من حيث النظر إلى الحال الحاضر وطغيان الشرك وضعف الدعوة الإسلامية ، وما يجري من النكال والتشريد ، والجفاء على ملبيها ، مع أنّه صار صادقاً في جميع ما اخبر به ولم يخالف الواقع في شيء منها ، ولا شك أنّه لم يكن له طريق في الإخبار بهذه المغيبات إلاّ الوحي ، هب أنّه تكهّن أو تفرّس في بعض إخباراته ـ وأجل نبي العظ ـ مة عن هذه الفرية الشائنة ، فهل يمكن القول بأنّه تفرس في جميع ما اخبر به ، وأنّه تنبأ معتمداً على علائم وإمارات كانت ترشده إليها ، مع أنّ المفروض أنّ الأحوال الحاضرة في بعض إخباراته كانت تقتضي خلاف ما اخبر به كما سيوافيك بيانه ، ونحن نأتي في المقام بكثير من الآيات التي تتضمن الإخبار عن الحوادث المستقبلية التي تحققت بعد إخبارها في زمن الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أو بعد لحوقه بالرفيق الأعلى بيسير ، وأمّا الاستقصاء في ذلك فلنتركه إلى من أراد الغور أكثر من ذلك.
    نقول : هناك مغيبات عن ملاحم أحداث وفتن اخبر بها القرآن وظهر صدقها في عصر الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أو بعده بقليل ، فهذه الأخبار تدل قبل كل شيء على صحة نبوّته وأنّ القرآن منزّل من عنده سبحانه ، ولا يمكن حملها على ما يحدث بالمصادفة أو القرائن أحياناً من أقوال الكهنة أو العرّافين والمنجمين فإنّ كذب هؤلاء أكثر من صدقهم


(358)
والناس لا يحصون عليهم أقوالهم ، ولا يبحثون عن حيلهم وتلبيساتهم ، وإنّما يذكرون بعض ذلك إذا اقتضته الحال ، كتشنيع أبي تمام على المنجمين في زعمهم أنّ عمورية لا تفتح إلاّ عند نضج التين والعنب في قصيدته المعروفة التي مطلعها :
    
السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
    إلى أن يقول :
سبعون ألفاً كآساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب
    على أنّ دأب المنجمين هو أن يعبّروا عمّا يتوقعون من أحداث المستقبل بآرائهم وبقرائن الأحوال وأخبار الصحف الدورية ، برموز وكنايات واشارات يفسرون بها الوقائع بأهوائهم ، وأمّا ما يعرفه الفلكيون بالحساب كالخسوف والكسوف ومطالع الكواكب ومغاربها فليس من التنجيم المحرم ولا من علم الغيب في شيء (1).
    1 ـ راجع المنار ج1 ص 204 ـ 205.

(359)
مغيبات القرآن
وأخباره الغيبية
1 ـ تنبؤ القرآن بعجز البشر عن معارضته بمثله :
    لقد تحدى القرآن في مواضع عديدة من آيات سوره تحدّياً يثير روح المنافسة على أشدها في نفوس من يتحداهم ، وتحققت نبوءة القرآن ولا تزال متحققة حيث انقرضت طبقة المخاطبين ومضت أجيال من عرب وأعجام ، وكلهم اعترفوا بالعجز عن المعارضة مع كثرة من تتطاول أعناقهم إلى هدم بناء الدين ، وإبطال معجزة الإسلام الخالدة.
    إنّ المتأخرين من الناقدين لا يعييهم في العادة أن يستدركوا على السابقين إمّا نقصاً يعالجوه بالكمال أو كمالاً يعالجونه بما هو أكمل منه ، وإذا فرضنا أنّ واحداً قد عجز عن هذا ، فمن البعيد أن تعجز عنه جماعة ، وإذا عجزت جماعة فمن البعيد أن تعجز اُمّة ، وإذا عجزت اُمّة ، فمن البعيد أن يعجز جيل ، وإذا عجز جيل فمن البعيد أن تعجز أجيال ، فكيف يصدر إذن مثل هذا التحدّي عن رجل يعرف ما يقول فضلاً عن رجل عظيم ، فضلاً عن محمد أفضل المرسلين؟ وهل يمكن أن يفسر هذا التحدّي الجريء الطويل العريض ، إلاّ بأنّه استمداد من وحي السماء واستناد إلى من يملك السمع والأبصار ، وحديث عن من بيده ملكوت كل شيء ، وهو يجير ولا يجار عليه (1).
    1 ـ مناهل العرفان ج2 ص 268.

(360)
    وقد نص بذلك التحدّي في موارد من آيات سوره.
    منها قوله سبحانه :
    ( وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْب ممّا نَزَّلْنَا عَلى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَة مِنْ مِثْلهِ وَ ادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين * فَإِنْ لَم تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الحِجَارَةُ اُعِدَّتْ لِلكَافِرينَ ) ( البقرة : 23 ـ 24 ).
    أخبر القرآن في بداية أمر النبي بمكة عن عجز البشر عن مباراة القرآن ومعارضته إلى يوم القيامة ، وأنّ الناس لا يسعهم الاتيان بمثل هذا القرآن ، مهما تظاهروا وتناصروا وحتى اليوم تنقضي على هذا التحدي والتنبؤ قرون وهو صادق في وعده وعهده وسيبقى التحدّي قائماً مادام القرآن ، ويستمر عجز البشر عن مجابهة هذا التحدي.
    قال الطبرسي : « ولن » في قوله : ( ولن تفعلوا ) تنفي على التأبيد في المستقبل وفيه دلالة على صحة نبوّة نبيّنا ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لأنّه يتضمن الإخبار عن حالهم في مستقبل الأوقات بأنّهم لا يأتون بمثله ، فوافق المخبر عنه الخبر (1).
    ويليها في التنبؤ بعجز البشر والجن عن معارضة القرآن ، قوله سبحانه :
    ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَ الجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيراً ) ( الإسراء ـ 88 ).
    وقد بلغ في تحدّيه إلى أن اكتفى من المتحدّي بإتيان عشر سور مثله ، بل سورة واحدة من سوره.
    قال سبحانه : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْر سُوَر مِثْلِهِ مُفْتَرَيَات وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ
    1 ـ مجمع البيان ج1 ص 63.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس