مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 341 ـ 350
(341)
وصحيفة جسمانية بل كان لوحاً برزخياً ، ومن قدر على قراءة نقوش ذاك اللوح وحروفه وجمله يقدر على قراءة ما كتب في الألواح والصحائف المادية ، ولكنّك قد وقفت على إرسال الرواية وأنّ الحديث غير موصول بالنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) إلاّ من ناحيتها.
    بقيت في المقام روايات ضعاف ومراسيل ، نقله بعض المتأخرين ، ولا يمكن الاستدلال بها في مثل هذه المسألة ، ودونك ما نقلوه :
    قال القاضي الحافظ أبو الفضل بن عياض بن موسى بن عياض : انّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كان لا يكتب ، ولكنّه اُوتي علم كل شيء حتى قد وردت آثار بمعرفته بالخط وحسن تصويرها ، كقوله لا تمدوا بسم اللّه الرحمن الرحيم (1) رواه ابن شعبان (2) من طريق ابن عباس ، وقوله في الحديث الآخر الذي يروى عن معاوية أنّه كان يكتب بين يديه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فقال له : الق الدواة (3) وحرف القلم (4) وأقم الباء (5) وفرق السين (6) إلى آخر ما نقله ... (7) والمظنون أنّ الحديث من ولائد النزعات الباطلة تزلّفاً للاُمويين.

عرض وتحقيق :
    لا بأس بإكمال البحث بما وصل إلينا من الروايات من أئمّة أهل البيت مع ترجمة رجال اسنادها وتوضيح مضامينها على وجه الاجمال وقد نقل المجلسي منها كثيراً في بحاره في الباب السادس من الجزء السادس عشر المختص بحياة نبيّنا ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) (8).
    1 ـ قال القارئ في شرحه : أي مد سينه من غير تبيّن روى الدارمي عن زيد بن السن إذا كتبت فبيّن السين.
    2 ـ هو أبو إسحاق العصري المالكي له ترجمة في الميزان مات سنة خمسة وستين وثلاثمائة.
    3 ـ أمر من الاق الدواة إذا جعل لها ليقة وأصلح لها مدادها.
    4 ـ أي اجعل شقه الأيمن أزيد من الطرف الآخر قليلاً لأنّه أسرع في الكتابة وأبدع في اللطافة.
    5 ـ أي طولها.
    6 ـ أسنانها.
    7 ـ راجع فتح الباري ج9 ص 44 ، شرح الشفاء ج1 ص 726 ـ 727.
    8 ـ بحار الأنوار ج16 ص 131 ـ 135.


(342)
    1 ـ أخرج الصدوق في علل الشرائع عن ابن الوليد عن سعد (1) عن ابن عيسى (2) عن الحسين بن سعيد ومحمد البرقي عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه ( عليها السَّلام ) قال : كان النبي يقرأ الكتاب ولا يكتب (3).
    والحديث صحيح رجاله كلهم ثقاة بالاتفاق ولكنّه ظاهر ، أو محمول على عهد الرسالة لما عرفت من تنصيص الكتاب العزيز على كونه اُمّياً قبل البعثة.
    2 ـ أخرج الصدوق في علله عن أبيه عن سعد (4) عن عيسى عن البزنطي عن أبان عن الحسن الصيقل قال : سمعت أبا عبد اللّه ( عليها السَّلام ) يقول : كان مما منّ اللّه على نبيّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه كان اُمّياً لا يكتب ولا يقرأ الكتاب (5) والسند صحيح إلى البزنطي ، نعم اختلفت كلماتهم في أبان ورمَوْه بالناووسية والنسبة غير محققة ، والرجل من أصحاب الاجماع ، والحسن الصيقل مهمل في كتب الرجال لم يوصف بالوثاقة ولم يرد فيه طعن ، والحديث وإن لم يكن صحيحاً لكنّه يعتبر خصوصاً لنقل « أبان » الذي هو أحد أصحاب الاجماع عنه ، والحديث نظير ما تقدم عليه في الحمل والظهور بل أظهر من سابقه في كونه راجعاً إلى أيام نبوّته وعهد رسالته ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بقرينة قوله : « كان ممّا منّ اللّه عزّ وجلّ به على نبيّه ».
    3 ـ أخرج الصدوق في علل الشرائع عن أبيه عن سعد عن معاوية بن الحكيم عن البزنطي عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه ( عليها السَّلام ) قال : كان ممّا منّ اللّه عزّ وجلّ على رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه كان يقرأ ولا يكتب ، فلما توجه أبو سفيان إلى « اُحد » كتب العباس إلى النبي فجاءه الكتاب وهو في بعض حيطان المدينة فقرأه ، ولم يخبر أصحابه وأمرهم أن يدخلوا المدينة ، فلما دخلوا المدينة أخبرهم (6) والخبر صحيح إلى البزنطي وهو
    1 ـ المراد سعد بن عبد اللّه.
    2 ـ أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي.
    3 ـ علل الشرائع ص 53.
    4 ـ قد أوضحنا المراد منه ومن بعده في الحديث المتقدم.
    5 ـ علل الشرائع ص 53 ومعاني الأخبار ص 20.
    6 ـ علل الشرائع ص 53.


(343)
من أصحاب الاجماع ورجاله كلهم ثقاة غير أنّ في آخره اجمالاً واهمالاً ، يلحقه بالمراسيل نعم لا بأس بمضمونه فهو يؤيد ما قدمناه من الصحيحين ، وأنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كان يقرأ أحياناً في عهد الرسالة لكن نقله زيني دحلان في سيرته بصورة اُخرى ودونك نصه : كتب العباس للنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وأخبره بجمعهم وخروجهم وراودوه على الخروج معهم فأبى واعتذر بما لحقه يوم بدر ولم يساعدهم بشيء من المال فجاء كتابه للنبي وهو بقبا وكان العباس أرسل الكتاب مع رجل من بني غفار استأجره وشرط عليه أن يأتي المدينة في ثلاثة أيام بلياليها ففعل ذلك ، فلما جاء الكتاب فك ختمه ودفعه لاُبي بن كعب فقرأه عليه فاستكتم اُبياً ثم نزل ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) على سعد بن الربيع فأخبره بكتاب العباس (1).
    4 ـ أخرج الشيخ الأقدم محمد بن الحسن الصفار عن الحسن بن علي عن أحمد بن هلال عن خلف بن حماد عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : قال أبو عبد اللّه ( عليها السَّلام ) : إنّ النبي كان يقرأ ويكتب ويقرأ ما لم يكتب (2) ويكفي في ضعف الحديث أنّه مروي عن أحمد بن هلال الذي خرج التوقيع عن الناحية المقدسة في لعنه ونقل الصدوق عن شيخه ابن الوليد عن سعد أنّه قال : ما سمعنا ورأينا بمتشيّع رجع عن تشيّعه إلى النصب إلاّ أحمد بن هلال.
    أضف إليه أنّه مخالف لما قدمناه من الصحيحين من أنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كان يقرأ ولا يكتب (3).
    فاتضح أنّ ما يصح من هذه المأثورات إنّما هو الحديث الأوّل والثاني ويؤيدهما الثالث وهي بمجموعها تهدف إلى أنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كان يقرأ ولا يكتب أيام رسالته ورحاب دعوته ولا ضير في الالتزام به خصوصاً إذا كان غير متظاهر بالقراءة ، مكتفياً بقدر الضرورة ، ويؤيدها حديث بدء الرسالة.
    1 ـ سيرة زيني دحلان على هامش السيرة الحلبية ج2 ص 24.
    2 ـ بصائر الدرجات ص 62.
    3 ـ راجع الحديث الأوّل والثاني.


(344)
    5 ـ أخرج الكليني في كتاب الحجة باسناده عن الحسن بن العباس الحريش عن أبي جعفر الثاني ( عليها السَّلام ) عن أبي عبد اللّه قال :
    كان علي ( عليها السَّلام ) كثيراً ما يقول : ما اجتمع التيمي والعدوي عند رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وهو يقرأ : ( إنّا أنزلناه ) بتخشّع وبكاء فيقولان : ما أشد رقّتك لهذه السورة؟ فيقول رسول اللّه لما رأت عيني ووعى قلبي ، ولما يرى قلب هذا من بعدي فيقولان : وما الذي رأيت وما الذي يرى؟ قال : فيكتب لهما في التراب : ( تَنَزَّلُ الملائِكَةُ وَ الروحُ فِيهَا بِإذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر ) قال : ثمّ يقول : هل بقى شيء بعد قوله عزّ وجلّ : ( كلّ أمر ) فيقولان : لا ، فيقول : هل تعلمان من المنزل إليه بذلك؟ فيقولان : أنت يا رسول اللّه ، فيقول : نعم ، فيقول : هل تكون ليلة القدر من بعدي؟ فيقولان : نعم ، قال : فيقول : فهل ينزل ذلك الأمر فيها؟ فيقولان : نعم ، قال : فيقول : إلى من؟ فيقولان : لا ندري ، فيأخذ برأسي ويقول : إن لم تدريا فادريا هو هذا من بعدي ، قال : فإن كانا ليعرفان تلك الليلة بعد رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من شدة ما يداخلهما من الرعب (1).
    وجه الدلالة : أنّ قوله ( عليها السَّلام ) : « فيكتب لهما في التراب » بصيغة المعلوم دال على أنّ النبي كان يكتب هذه الآيات في التراب.
    ويؤسفنا أنّ الحديث ضعيف للغاية.
    لأجل الحسن بن العباس بن الحريش ، قال النجاشي : « أبو علي روى عن أبي جعفر الثاني ضعيف جداً له كتاب « إنّا أنزلناه في ليلة القدر » وهو كتاب ردىء الحديث ، مضطرب الألفاظ (2).
    وقال الغضائري : « أبو محمد ضعيف جداً يروي عن أبي جعفر الثاني فضل « إنّا أنزلناه في ليلة القدر » وله كتاب مصنف فاسد الألفاظ ، تشهد مخائله على أنّه موضوع وهذا الرجل لا يلتفت إليه ولا يكتب من حديثه ».
    1 ـ الكافي كتاب الحجة باب « إنّا أنزلناه في ليلة القدر » وتفسيرها ص 249 طبع مكتبة الصدوق.
    2 ـ فهرست النجاشي ص 45 ط الهند.


(345)
    قال المحقق التستري : « إن أردت أن تقف على صحة ما قاله النجاشي والغضائري في حق الرجل فراجع باب « فضل إنّا أنزلناه » من الكافي تجد صحة كلامهما فترى أنّه روى في ذاك الباب تسعة أخبار بسند واحد كلها عن الحسن بن عباس بن الحريش عن الجواد ( عليها السَّلام ) فلفظها فاسد ومعناها كاسد وهكذا راجع تفسير القمي في أول سورة محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) (1).
    ثم نقل بعض أحاديثه ، ونقده نقداً نزيهاً.

حصيلة الكلام في اُمّية النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) :
    قد أصبحت اُمّية النبي الأعظم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قبل أن يختاره اللّه لإبلاغ رسالته أمراً واضحاً كوضوح شمس الضحى ، لا يشك فيها ذو مسكة ومن له أدنى إلمام بتاريخ الجزيرة وحياة الاُمّة العربية ، العائشة فيها وأمّا حديثها بعد البعثة فالامعان في ما نقلناه من حديث بدء الرسالة والصحيحين المرويين عن الإمام الصادق ( عليها السَّلام ) يعطي أنّه كان يقرأ ولا يكتب ، فلو جاز الركون في مثل المقام إلى هذه النقول المروية بصورة الآحاد من الأخبار ، فنحكم بمفادها ، وإلاّ فالحكم ببقائه على ما كان عليه من الاُمّية قبل البعثة أوثق وأسد ، ويؤيد الأخير ما نقلناه في قصة الحديبية في بعض صورها التي عرفناك ، والتعليل الوارد في الآية الكريمة أعني قوله سبحانه : ( إذاً لارتاب المبطلون ) خصوصاً لو كان مراد القائل تظاهره ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بصناعة القراءة والكتابة على أظهر الناس ، ورؤوس الأشهاد ، فإنّه يجر الشك إلى ما قبل الرسالة كما لايخفى.

نحن وقساوسة الغرب والمستغربة :
    بالرغم من شهادة تاريخ الحجاز في الدور الجاهلي ، ومحيطه البدوي على اُمّية النبي وعشيرته وأقربائه ، نجد مغالطات وتشكيكات أثارتها قساوسة الغرب حول
    1 ـ قاموس الرجال ج3 ص 182 ـ 183 ، راجع تنقيح المقال ج1 ص 286.

(346)
اُمّيته ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وتبعهم بعض المستغربة في الشرق ، الذين يتطفّلون على موائد الغربيين في كل شيء ، حتى فيما يرجع إلى الإسلام والمسلمين ، والشرق والشرقي ، غير واقفين على نواياهم وما تكنه صدورهم وضمائرهم ، من القضاء على الإسلام والمسلمين ، والحقد والعداء للنبي الأعظم ورسالته ، وما يستهدفون من بث هذه التشكيكات والمغالطات ، التي لها طابع التحقيق ، حول الرسول الأكرم واُمّيته.
    وفي الوقت نفسه ، لا مصدر لهم في انكار اُمّيته إلاّ مراسيل عن مجاهيل ، أو انتحالات أعداء الدين ، نظراء ابن أبي العوجاء و ... كل ذلك لبثّ الريب في قلوب البسطاء من المسلمين بالنسبة إلى رسالته ، ودينه ، وكتابه ، حتى يتخذوا ذلك ذريعة لانكار رسالته الالهية واتصاله بالعوالم الروحية حتى يصوّروا لهم ، أنّ النبي كان قارئاً وكاتباً وأنّ ما جاء به من المعارف والأحكام هي انتاج عبقريته الفذة وشخصيته اللامعة ، وسبره في الكتب وغوره فيها ، شأن كل باحث متتبع.
    غير أنّ جهلهم أو تجاهلهم الحقيقة ودعاياتهم الواسعة لا يؤثر شيئاً في قلوب المثقفين من الاُمّة ، كيف وقد تسالمت عليها الاُمّة منذ ألف وقرون لم ينبس أحد ببنت شفة على خلافه ، حتى جعل صاحب المنار وغيره « اُمّية » النبي أحد وجوه اعجاز القرآن وقالوا : إنّ الضمير في قوله سبحانه : ( فأْتُوا بِسُورَة مِنْ مِثْلِهِ ) يعود إلى ـ المبلغ ـ بكسر اللام أي الرسول نفسه لا إلى القرآن ، وقال في تفسير الآية : « فإن خفي عليكم الحق بذاته فهذه آية من أظهر آياته ، وهي عجزكم عن الإتيان بسورة من مثل سور القرآن ، من رجل اُمّي مثل الذي جاءكم به ، وهو عبدنا ورسولنا محمد وإن عجزتم عن الاتيان بسورة من مثله ، تساوي سورة في هدايتها وتضارعها في اسلوبها وبلاغتها ، وأنتم فرسان البلاغة وعصركم أرقى عصور الفصاحة فاعلموا ما جاء به ، بعد أربعين سنة فأعجزكم بعد سبقكم لم يكن إلاّ بوحي إلهي وامداد سماوي » (1).
    وما ذكره من رجوع الضمير إلى النبي وإن كان خلاف ظاهر الآية ، خصوصاً في
    1 ـ المنار ج1 ص 191.

(347)
قوله سبحانه : ( قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَ الجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيراً ) ( الإسراء ـ 88 ) وفي قوله سبحانه : ( فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَر مِثْلِهِ مُفْتَرَيَات ) ( هود ـ 13 ) إلاّ أنّه أحد وجوه اعجازه.
    قال العلاّمة الشهرستاني : « إنّ من وجوه اعجاز القرآن والاعجاب به صدوره من مثل محمد الاُمّي ربيب البادية ، البعيد عن حضاير الفنون ، البعيد عن حواضر الحكماء ومحاضر العلماء ـ إلى أن أوضح مقاله بمثال ـ وقال : الشعب الواثق بأنّ سفيره لا يقرأ ولا يكتب ولا يخون ، ولا يكذب ولم يعهد منه الشعر ففي وضع راهن كهذا لو يفاجئهم سفيرهم بكتاب فذ في الكتابة والإنشاء والإملاء ... وادعى أنّه مرسل به من ناحية السلطان ... فإنّ الشعب ضروري ايمانه واذعانه له ، وعدم اتهامه بأنّه المباشر لهذه الفرية ».


(348)

(349)
الفصل السادس
علم الغيب
في
الكتاب العزيز
    أظنّك أيّها القارئ الكريم في غنى عن بيان معنى « الغيب » ومفاده ، لغةً وعرفاً ، فإنّ للغيب « أصلاً صحيحاً يدل على تستر الشيء عن العيون ، ثم يقاس من ذلك الغيب ما غاب ، ممّا لا يعلمه إلاّ اللّه ».
    « ويقال : غابت الشمس تغيب غيبة وغيوباً وغيباً. وغاب الرجل عن بلده. وأغابت المرأة فهي مغيبة ، إذا غاب بعلها ، ووقعنا في غيبة وغيابة أي هبطة من الأرض يغاب فيها. قال اللّه تعالى في قصة يوسف ( عليها السَّلام ) : ( وأَلْقُوهُ في غَيَابَتِ الجُبِّ ) والغابة : الاجمة والجمع غابات وغاب ، وسمّيت لأنّه يغاب فيها » (1).
    وقال الراغب : « الغيب مصدر غابت الشمس وغيرها إذا استترت عن العين يقال : غاب عن كذا ، قال تعالى : ( أمْ كَانَ مِنَ الغَائِبين ) واستعمل في كل غائب عن
    1 ـ مقاييس اللغة ج4 ص 403.

(350)
الحاسة ، وعما يغيب عن علم الانسان بمعنى الغائب قال تعالء : ( ومَا مِنْ غَائِبَة في السماءِ والأرض إلاّ في كتب مبين ) ويقال : للشيء غيب وغائب باعتباره بالناس لا باللّه تعالى فإنّه لا يغيب عنه شيء كما لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وقوله : ( عالمُ الغَيبِ والشهادة ) أي ما يغيب عنكم وما تشهدونه والغيب في : ( يؤمنون بالغيب ) ما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بداية العقول وإنّما يعلم بخبر الأنبياء ( عليهم السَّلام ) (1).
    توضيحه : أنّ الغيب يقابل الشهود ، فما غاب عن حواسّنا وخرج عن حدودها ، فهو غيب ، سواء أكان أمراً مادياً ، قابلاً للإدارك بالحواس ، كالحوادث الواقعة في غابر الزمان ، والمتكوّنة حالياً ، الغائبة عن حواس المخبر ، أو بعد لاي من الدهر ، أم كان مما يمتنع إدراكه بالحس أو وقوعه في أفقه ، كذاته تعالى ، وحقيقة البعث والنشور ، والحساب ، ونفخ الصور ، والميزان ، وملائكة اللّه ، وجنته وناره ، ولقائه ، وحقيقة الحياة ، في النشأة الاُخرى ، والوحي والنبوّة إلى آخر ما يجب الإيمان به وتصديقه ، كما يدل عليه قوله سبحانه :
    ( الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّل ـ وةَ ... وبِالآخرةِ هُم يُوقِنُون ) ( البقرة : 3 ـ 4 ).
    وقد أوضحه بعض الأعلام بقوله :
    الغيب : في العرف العربي اسم لمعنى يقابل الحضور وضد الشهود ، كما في القرآن : ( عالمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) وفي الحديث النبوي : « ألا فليبلغن الشاهد الغائب » وفي كلام الإمام علي ( عليها السَّلام ) : « شهود كالغيب ».
    والشهود : كناية عن اتصال الحواس بالحاضر لديها وهو المراد من الحضور أيضاً فالغيب كالغائب ، ما لا يتصل به الحس ، وبه سمّي المسافر غائباً ، وخلافه حاضراً ، فالنبأ الغيبي ، بناء على ما عرفت ، هو النبأ الذي لا يتصل بالمحسوس لديك فعلاً ، وإن
    1 ـ مفردات الراغب ص 366 ـ 367.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس