مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 331 ـ 340
(331)
    منها : البخوع للعبادة ، والعكوف على المجاهدات النفسانية والرياضات التي لا تنازع الفطرة ، بل تعدل الميول والغرائز وتهديها سبيل الرشاد والسلام.
    منها : التفكير في آثار صنعه وعجائب خلقه وبدائع كونه بتعمّق وتدبّر حتى يهديه التفكير في جمال الطبيعة إلى معرفة بارئها معرفة تامة تليق بحال نبيّه.
    منها : أن يكون في رعاية أكبر ملك يهديه إلى طرق المكارم ومحاسن الأخلاق كما أشار إليه مولانا أمير المؤمنين في الخطبة القاصعة : « لقد قرن به ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من لدن ان كان فطيماً ، أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره ، ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل أثر اُمّه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري. ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشم ريح النبوّة ، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه فقلت : يا رسول اللّه ما هذه الرنّة؟ فقال : هذا الشيطان آيس من عبادته إنّك تسمع ما أسمع ، وترى ما أرى إلاّ أنّك لست بنبي ولكنّك وزير ، وأنّك لعلى خير » (1).
    هذا البيان الضافي من أمير الإسلام والبيان ( عليها السَّلام ) يؤمي إلى كثير مما ذكرناه من المقدمات ، ويرسم لنا صورة اجمالية من حياة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) الأكرم قبل بعثته وأنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) منذ نعومة أظفاره ، ومنذ أن فطم من الرضاع ، وقع تحت كفالة أكبر ملك يسلك به طريق المكارم ، ويرشده إلى معالم الهداية ومدارج الكمال ، ويصونه طيلة حياته من طفولته إلى شبابه وإلى كهولته من كل سوء.
    هذا البيان يفيدنا بأنّ نفس أي انسان لا تستعد لقبول الوحي إلاّ بعد اقتحام عقبات وطي مراحل ، وأنّ الملك الأكبر لم يزل يواصل نبي الإسلام ليله ونهاره حتى استعدت نفسه لقبول الوحي ، وتمثّل أمينه بين يديه ، والقاء كلام ربّه إليه ووعيه له منه ، بانطباعه في لوح نفسه ، وإذا اقتحم تلكم العقبات وتحققت تلكم المقدمات والمعدات
    1 ـ نهج البلاغة الخطبة القاصعة ص 374 طبع عبده.

(332)
وتم الاستعداد ، ارتقت نفسه إلى ذلك الحد الأسمى فانحسرت عن قلبه الأغطية وارتفعت عنه الحجب ، حيث أخذ يعاين الأشياء على ما هي عليه ، ويقف على الحقائق على النحو الذي يليق به ويقدر على تلاوة ما لم يكن قادراً عليها.
    وقد تحققت تلك الغاية وبلغت نفسه الشريفة إلى ذلك الحد في الشهر الذي اختاره اللّه تعالى فيه رسولاً إلى الناس ، فجاءه أمين الوحي بلوح برزخي يحتوي على آيات من القرآن الكريم فعرضه على النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وطلبه منه أن يقرأه فأبى وتجافى عن قراءته قائلاً بأنّه اُمّي لا يقرأ ولا يكتب ، وأنّه ماقرأ وما كتب طيلة عمره فغطه الأمين ثلاث مرات فإذا به يقرأ.
    نحن لا نعلم كنه هذا الغط ولا نستطيع إدراكه ، وليس هو إلاّ أثراً مادّياً لأمر معنوي كاماطة الستر عن روحه وقلبه ، وهذا أمر طبيعي في مثل هذا الموقف العظيم الجليل الذي تنوء به أجسام وأرواح البشر ، فإنّ لكل عمل روحي ولا سيما لمثل كشف الغطاء أثراً خاصاً في أبداننا ، والأثر البارز المادي لكشف الغطاء عن قلب النبي ونفسه ، هو الغط الذي أحسّه في ذلك الحين ، وإلاّ فالغط المادي لا مدخلية له في القدرة على القراءة والتلاوة.
    هكذا كانت هذه اللحظة الحاسمة من حياته ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) منعطفاً رائعاً إلى مرحلة جديدة ، فكشف عنه الغطاء آن الغط ، فقدر على قراءة ما لم يقدر عليه فعرف الحروف والنقوش ، بل الحقائق فصار أكمل إنسان يطأ الأرض بقدميه ، ويعيش في اديمها ويتظلّل بسمائها.
    وهذا البيان منضمّاً إلى ما سمعته من حديث بدء الوحي يدفعنا إلى القول بأنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قد انقلبت حاله بعد البعثة بإعجاز من اللّه سبحانه واقدار منه تعالى. غير أنّ ما ذكرنا مبني على صحة الحديث واتصال سنده إلى النبي ولكنّك عرفت أنّ الحديث مقطوع غير موصول بالنبي الأكرم فلاحظ.


(333)
منها : حديث المطالبة بالقلم والدواة :
    أخرجه أصحاب الصحاح والسنن ونقلها أهل السير والأخبار كافة ويكفيك ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال : لما حضر رسول اللّه وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب قال النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : هلم اكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده ، فقال عمر : إنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب اللّه ، فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول قربوا يكتب لكم النبي كتاباً لن تضلّوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال لهم رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : قوموا ، فكان ابن عباس يقول : إنّ الرزية ما حال بين رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم (1).
    أخذ المستدل بظاهر الحديث وقال : النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) طلب أن يكتب كتاباً ، وظاهره كون الكاتب نفسه لا غير ، لكنّه نسى أو تناسى أنّ في الإسناد مجازاً وأنّه من باب كتب الأمير ، أو كتب الملك وليس معناه أنّه كتب بنفسه ، بل السيرة على أنّ الملك أو الأمير يمليان والكاتب يكتب وينفّذانه بخاتمهما ، وكان رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يملي والكاتب يكتب ولا يكتب بيده ، وهكذا كانت سيرة الخلفاء من بعده ، ما كانوا يكتبون إلاّ في مواقف خاصة.

منها قصة الحديبية :
    ملخّصه : لما اعتمر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في ذي القعدة فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام ، فلما كتبوا الكتاب ، هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قالوا : لا نقر بهذا ، لو نعلم أنّك رسول للّه ما منعناك شيئاً ولكن أنت محمد بن عبد اللّه ، فقال : أنا رسول اللّه وأنا محمد بن عبد اللّه ، ثمّ قال لعلي ( عليها السَّلام ) :
    1 ـ صحيح البخاري ج2 ص 22 كتاب العلم ، وأخرجه مسلم في آخر الوصايا في صحيحه ج2 ص 14 ، وأحمد في مسنده ج1 ص 325 وغيرهم من أعلام الاُمّة.

(334)
امح رسول اللّه ، قال علي : لا واللّه لا أمحوك أبداً ، فأخذ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) الكتاب وليس يحسن يكتب ، فكتب هذا ما قاضى محمد بن عبد اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لا يدخل مكة السلاح إلاّ السيف في القراب الخ (1).
    وقد تمسك بظاهر الرواية « أبو الوليد الباجي » فادّعى أنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كتب بيده بعد أن لم يكن يكتب ، فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه ورموه بالزندقة وانّ الذي قاله يخالف القرآن حتى قال قائلهم :
برئت ممّن شرى دنيا بآخرة وقال إنّ رسول اللّه قد كتبا
    فجمعهم الأمير فاستظهر « الباجي » عليهم بما لديه من المعرفة وقال للأمير : هذا لا ينافي القرآن بل يؤخذ من مفهوم القرآن ، لأنّه قيد النفي بما قبل ورود القرآن ، فقال : ( وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون ) وبعد أن تحققت اُمنيته وتقررت بذلك معجزته ، وأمن الارتياب في ذلك ، لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم فتكون معجزة اُخرى.
    وذكر « ابن دحية » أنّ جماعة من العلماء وافقوا الباجي في ذلك منهم شيخه ابن أبي شيبة وعمر بن شبة من طريق مجاهد ، عن عون بن عبد اللّه ، قال : ما مات رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) حتى كتب وقرأ ، قال مجاهد : فذكرته للشعبي فقال : صدق قد سمعت من يذكر ذلك (2).

الجواب عن الاستدلال بالرواية :
    إنّ ما رواه البخاري وغيره ممّن جنح إليه على خلاف ما يرتئيه المستدل أدل ، فإنّ
    1 ـ صحيح البخاري ج5 باب عمرة القضاء ص 141 ، الكامل ج2 ص 138 ، مسند أحمد ج4 ص 298 ولفظه هكذا : فكتب مكان رسول اللّه ، هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد اللّه ألاّ يدخل مكة السلاح إلاّ في القراب.
    2 ـ فتح الباري ج9 ص 44 وأضاف الباجي بأنّ في معرفة الكتاب بعد اُمّيته ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) معجزة اُخرى لكونها من غير تعليم ، لاحظ مناهل العرفان ج1 ص 358.


(335)
قوله : « وأخذ الكتاب وليس يحسن أن يكتب » أصدق شاهد على اُميته.
    أضف إلى ذلك ما ورد في بعض الروايات من قول النبي الأعظم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لعلي : « أرني إيّاها » أو قوله : « فضع يدي عليها » فهو شاهد صدق على بقائه على ما كان عليه من الاُمّية.
    ولأعلام الحديث والتاريخ كلمات ضافية حول الرواية تميط الستر عن وجه الحقيقة ، فلنأت بما وقفنا عليه.
    1 ـ قال ابن حجر : إنّ النكتة في قوله : « فأخذ الكتاب وليس يحسن أن يكتب » هو بيان قوله : « أرني إيّاها » فإنّه ما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التي امتنع علي ( عليها السَّلام ) من محوها ، إلاّ لكونه لا يحسن الكتابة.
    على أنّ قوله بعد ذلك « فكتب » فيه حذف تقدير ، أي فمحاها لعلي فكتب وبهذا جزم ابن التين وأطلق « كتب » بمعنى أمر بالكتابة ، وهو كثير كقوله : كتب إلى قيصر وكتب إلى كسرى.
    وعلى تقدير حمله على ظاهره فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم وهو لا يحسن الكتابة ، أن يصير عالماً بالكتابة ويخرج عن كونه اُمّياً فإنّ كثيراً ممّن لا يحسن الكتابة ، يعرف تصوير بعض الكلمات ، ويحسن وضعها بيده وخصوصاً الأسماء ولا يخرج بذلك عن كونه اُمّياً.
    واحتمل أن يكون المراد : جرت يده بالكتابة حينئذ وهو لا يحسنها فخرج الكتاب على وفق المراد ، فيكون معجزة اُخرى في ذلك الوقت خاصة ، ولا يخرج بذلك عن كونه اُمّياً وبهذا أجاب أبو جعفر السمناني أحد أئمّة الاُصول من الأشاعرة وتبعه « ابن الجوزي » وتعقب ذلك السهيلي وغيره بأنّ هذا وإن كان ممكناً ويكون آية اُخرى لكنّه يناقض كونه اُمّياً لا يكتب وهي الآية التي قامت بها الحجة وأفحم الجاحد وان حسمت الشبهة ، فلو جاز أن يصير يكتب بعد ذلك لعادت الشبهة ، وقال السهيلي والمعجزاتيستحيل أن يدفع بعضها بعضاً ، والحق أنّ معنى قوله فكتب : أي أمر علياً


(336)
أن يكتب (1).
    2 ـ قال الحلبي : تمسك بعضهم ب ـ ظاهر الحديث وقال : إنّ النبي كتب بيده يوم الحديبية معجزة له ، مع أنّه لا يقرأ ولا يكتب وجرى على ذلك أبو الوليد الباجي المالكي فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه وقالوا : هذا مخالف للقرآن.
     ـ إلى أن قال ـ : والجمهور على أنّ الروايات التي فيها « أنّه أخذ الكتاب بيده فكتب » محمول على المجاز أي أمر أن يكتب الكاتب (2).
    أقول : إنّ لفظة « بيده » ليست في نسخ صحيح البخاري ونص على ذلك الحلبي أيضاً وقوله : « ليس يحسن أن يكتب » الوارد في صحيحه وغيره من المصادر الأصلية (3) دال على ما نرتئيه في هذا المقال.
    نعم رواه البخاري في كتاب الصلح بصورة اُخرى قال : « فلمّا كتبوا الكتاب كتبوا : هذا ما قاضى عليه محمد رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، فقالوا : لا نقرّ بها فلو نعلم أنّك رسول اللّه ما منعناك ـ إلى أن قال ـ : ثم قال لعلي : امح رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : لا واللّه لا أمحوك أبداً ، فأخذ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) الكتاب فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد اللّه لا يدخل مكة سلاح إلاّ في القراب » (4).
    إنّ تلك الواقعة قد رويت بصورتين اُخريين ، رواهما أعلام السير والتاريخ.
    الاُولى : إنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أمر علياً أن يمحو لفظ « رسول اللّه » فامتنع علي من محوه فقال رسول اللّه : أرنيه ، فأراه علي ، فمحاه بيده الشريفة ، ثم أمر علياً أن يكتب ودونك لفظ الرواية : أمر رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) علياً أن يكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم )
    1 ـ فتح الباري ج9 ص 45.
    2 ـ السيرة الحلبية ج3 ص 24 وسيرة زينى دحلان في هامش السيرة ج2 ص 214 ولكن اللفظ للأخير.
    3 ـ راجع الأموال ص 158 ونقله عن المجلسي في بحاره ج20 ص 371.
    4 ـ صحيح البخاري ج3 ص 185 فحذف قوله وليس يحسن يكتب.


(337)
سهيل بن عمرو ، فقال : فعلى مَ نقاتل؟ اكتب اسمك واسم أبيك ، فقال : أنا رسول اللّه وأنا محمد بن عبد اللّه ، فأمر بمحوها فعند ذلك كثر الضجيج واللغط وأشاروا إلى السيوف فقال علي ( عليها السَّلام ) ما أنا بالذي أمحوه ، فقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ستدعى إلى هذا وأنت مضطهد مقهور (1) إلى أن قال : وضج المسلمون وارتفعت الأصوات وجعلوا يقولون لا نعطي هذه الدنية ، وجعل رسول اللّه يخفضهم ويومي بيده إليهم أن اسكتوا ثمّ قال : أرنيه ، فأراه علي ( عليها السَّلام ) فمحاه بيده الشريفة ثمّ أمر علياً أن يكتبه.
    نعم يظهر من البخاري أنّ النبي محاه من دون أن يريه علي ( عليها السَّلام ) وربّما يستدل به على تمكّنه من القراءة ، فروى في كتاب الصلح : لما صالح رسول اللّه أهل الحديبية ـ إلى أن قال : ـ فقال لعلي : أمحه ، فقال علي : ما أنا بالذي أمحاه ، فمحاه رسول اللّه بيده وصالحهم على أن يدخل ... (2).
    ويحتمل أنّه تركه للاختصار ، اعتماداً على ما نقله في كتاب « الجزية والموادعة مع أهل الحرب » وقد نقل القصة فيه عن « البراء » هكذا ... فقالوا : لو علمنا أنّك رسول اللّه لم نمنعك ولبايعناك ولكن اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد اللّه ـ إلى أن قال : ـ فقال لعلي : امح رسول اللّه ، فقال علي : لا أمحاه أبداً ، قال : فأرنيه؟ قال : فأراه إيّاه ، فمحاه النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بيده (3).
    ومع هذا التصريح لا يعبأ بما نقله من دون هذه الزيادة.
    1 ـ هذا من أعلام النبوّة فلاقى علي أمير المؤمنين يوم صفين عندما رضوا بالحكمين ما لاقاه رسول اللّه في هذا اليوم ، روى أهل السير والتاريخ أنّ علياً أمر لكاتبه أن يكتب : هذا ما اصطلح عليه أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ( عليها السَّلام ) ومعاوية بن أبي سفيان ، فقال عمرو بن العاص : لو علمنا أنّك أمير المؤمنين ما حاربناك ولكن أكتب : هذا ما اصطلح عليه علي بن أبي طالب ، فقال أمير المؤمنين ( عليها السَّلام ) : صدق اللّه وصدق رسوله أخبرني رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بذلك ثم كتب الكتاب ، راجع السيرة الحلبية ج3 ص 23.
    2 ـ صحيح البخاري كتاب الصلح ج3 ص 184.
    3 ـ صحيح البخاري كتاب الجزية ج4 ص 104.


(338)
    وروى الشيخ الأكبر المفيد أنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال لعلي : فضع يدي عليها ، فمحاه رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بيده وقال لأمير المؤمنين ( عليها السَّلام ) ستدعى إلى مثلها فتجيب وأنت على مضض ثم تمم أمير المؤمنين ( عليها السَّلام ) الكتاب (1).
    وفي اعلام الورى : قال النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : امحها يا علي ، فقال له : يا رسول اللّه إنّ يدي لا تنطلق لمحو اسمك من النبوّة. قال : فضع يدي عليها فمحاها رسول اللّه بيده وقال لعلي : ستدعى إلى مثلها فتجيب وأنت على مضض (2).
    روى أمين الإسلام الطبرسي القصة بطولها وقال : ثمّ قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) امح رسول اللّه ، فقال : يا رسول اللّه إنّ يدي لا تنطلق لمحو اسمك من النبوّة ، فأخذ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فمحاه ، ثم قال : اكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد اللّه (3).
    وعلى هذه الصورة من الرواية : أنّ رسول اللّه نفسه محا لفظة رسول اللّه ، لكن علياً كتب الكتاب بأمره دون رسول اللّه.
    الثانية : وهي تشترك مع الاُولى في التصريح بأنّ الكتاب كتبه علي ( عليها السَّلام ) من بدئه إلى ختمه بأمر رسول اللّه واملاء منه وتفترق عنها بأنّه ليس فيها عن محو لفظة رسول اللّه عين ولا أثر.
    خلاصتها : أنّه عندما أحسّ الهدوء وانخفضت الأصوات بإيماء منه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أمر رسول اللّه علياً أن يكتب هذا ما صالح أو قاضى عليه محمد بن عبد اللّه ... فكتب على حسب ما املاه عليه رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ودونك نقل ما رواه الطبري في تاريخه.
    قال سهيل : لو شهدت أنّك رسول اللّه لم اقاتلك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، قال : فقال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم )
    1 ـ السيرة الحلبية ج3 ص 24 وسيرة زيني دحلان ج2 ص 212 ، والارشاد ص 6 واللفظ للأخير.
    2 ـ اعلام الورى ص 106.
    3 ـ مجمع البيان ج9 ص 118 راجع تفسير القمي ص 634.


(339)
وسهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب (1) وقريب منه ما رواه البخاري نفسه في موضع آخر (2) واليعقوبي في تاريخه (3) والواقدي في مغازيه (4) وابن هشام في سيرته (5) وغيرهم من أساطين التاريخ والحديث (6) ويقرب منه ما رواه الكليني في روضته حيث قال : قال رسول اللّه لعلي : اكتب : هذا ما قاضى رسول اللّه وسهيل بن عمرو ، فقال سهيل : فعلى مَ نقاتلك يا محمد؟ فقال ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : أنا رسول اللّه وأنا محمد بن عبد اللّه ، فقال له الناس أنت رسول اللّه ، قال : اكتب فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد اللّه ، فقال له الناس : أنت رسول اللّه (7).
    فبعد هذا الاتفاق والاصفاق من أعلام التاريخ والحديث والتفسير على أنّ الكتاب كتبه علي باملاء من النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من أوّله إلى آخره فهل يصح الركون إلى ما تفرد به البخاري وأحمد واعتمد عليهما الجزري في كامله ، مع أنّ البخاري نقض ما نقله في باب « عمرة القضاء » في كتاب الصلح على ما عرّفناك.
    على أنّ التضارب الصريح الذي نشاهده في نقل البخاري في المقام يمنع النفس عن الركون إليه ، فقد اضطرب نقله وكلامه من وجوه :
    1 ـ تراه أنّه نقل القصة في موضع هكذا « أخذ رسول اللّه الكتاب وليس يحسن يكتب ، فكتب هذا ما قاضى محمد بن عبد اللّه » (8) ، وفي الوقت نفسه ساقها في موضع آخر من كتابه بنفس اللفظ السابق ، ولكنه حذف قوله : « وليس يحسن يكتب » (9).
    2 ـ تراه أنّه يصرح بأنّ النبي أمحا لقبه بإراءة علي ( عليها السَّلام ) حيث يقول : فقال لعلي : امحه ، فقال علي ( عليها السَّلام ) لا أمحاه أبداً ، قال : فأرينه؟ قال : فأراه إيّاه فمحاه النبي بيده (10).
    1 ـ تاريخ الطبري ج 2 ص 281.
    2 ـ صحيح البخاري كتاب الصلح ج3 ص 195.
    3 ـ تاريخ اليعقوبي ج2 ص 45.
    4 ـ المغازي ج2 ص 610.
    5 ـ السيرة ج2 ص 317.
    6 ـ راجع صحيح مسلم ج5 ص 174.
    7 ـ روضة الكافي ص 326.
    8 ـ صحيح البخاري ج5 ص 141.
    9 ـ نفس المصدر ج3 ص 185.
    10 ـ صحيح البخاري ج4 ص 104.


(340)
    ومع ذلك تراه ينقل امحاء النبي ، من دون أن يشير بأنّه كان بإراءة من علي حيث قال : « فقال لعلي : امح رسول اللّه ، فقال : ما أنا بالذي امحاه ، فمحاه رسول اللّه بيده » (1).
    3 ـ يظهر منه في موضع أنّ علياً هو الذي كتب اسم النبي بعد امحائه ما امحاه حيث قال : « فقال النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : واللّه إنّي لرسول اللّه وإن كذّبتموني ، اكتب محمد بن عبد اللّه » (2).

منها كتاب النبي إلى العذار :
    روى البخاري عن العذار بن خالد قال كتب لي النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : هذا ما اشترى محمد رسول اللّه من العذار بن خالد بيع المسلم المسلم لا داء ولا خبيئة ولا غائلة (3).
    ودلالته على أنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، كتب الكتاب بنفسه ضعيفة ، لا يمكن الركون إليه في هذه المسألة إذ كثيراً ما يسند الفعل إلى الاُمراء والملوك ويراد منه التسبيب لا المباشرة.
    كما أنّ الاستدلال على بقاء النبي على ما كانت عليه قبل الدعوة بقوله في الحديث المروي : إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب ، ليس بسديد إذ يكفي في صدق مضمونه كون أكثر من بعث إليه اُمّيون لا يكتبون ولا يحسنون.

فذلكة البحث :
    ما سردناه لك من الأحاديث في هذه الصحائف ، قد رواه الجمهور في صحاحهم ، وقد وافاك عدم دلالة كثير منها على ما نرتئيه ، غير حديث بدء الوحي ولو صح سنده واعتمدنا على ما تفردت بنقله « عائشة » فإنّما يدل على أنّه سبحانه مكّن عبده من قراءة اللوح الذي كان بيد أمين الوحي ، ولم يكن ذاك اللوح ، لوحاً مادياً
    1 ـ المصدر السابق ج3 ص 185.
    2 ـ راجع المصدر السابق ج3 ص 195.
    3 ـ صحيح البخاري ج3 ص 7.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس