مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 321 ـ 330
(321)
    « إنّ الآية لا تدل على أنّ النبي كان اُمياً بل فيها أنّه لم يكن يكتب الكتاب وقد لا يكتب الكتاب من يحسنه كما لا يكتب من لا يحسنه ... ».
    « ولو دلّت الآية على أنّه لم يكن يحسن الكتابة قبل الايحاء إليه ، لدلّت بالمفهوم على أنّه كان يحسنها بعد الايحاء إليه ، حتى يكون فرقاً بين الحالتين ولا يكون الاتيان بالقيد ـ قبله ـ لغواً » (1).

وفي ما أفاده مواقع للنظر :
    أوّلاً : ففرق واضح بين من يحسن الكتابة ويتركها ، ومن لا يحسنها أصلاً ، فانّ من يحسن الكتابة ، لا يتركها دائماً ، بل يتركها مؤقتاً بسبب ظروف تلم به ولا يصح الاستدلال بتركه مؤقتاً ، على أنّه لا يحسنها ولا يستكشف حاله منه ، وأمّا من لم يكتب منذ نعومة أظفاره إلى أن بلغ الأربعين بل ناهز الخمسين كما هو الحال بالنسبة إلى نبيّنا ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، فيعد ذلك دليلاً عند العرف على أنّه لا يحسنها أصلاً وبتاتاً.
    فالآية حسب ما يفهم منها عرفاً ، تدل على أنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كان اُمياً لا يقدر على الكتابة ، وقوله سبحانه : ( ما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون ) بالن ـ ظر إلى ذيله وهو رفع الشك عن قلوب المبطلين ، كناية عن كونه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كان اُمّياً لا يحسن شيئاً من القراءة ، لا أنّه كان عارفاً بها ولكنّه تركها لمصلحة أو غيرها.
    وثانياً : إنّ استفادة المفهوم من الآية ودلالة القيد ـ من قبله ـ عليه مشكلة جداً وإن قلنا بدلالته على المفهوم في مقام آخر ، وذلك أنّ دلالة القيد عليه إنّما هي إذا كان بقاء الحكم وعدمه عند ارتفاع القيد سواسية ، فعند ذلك يستدل بأخذ القيد في موضوع الحكم على دخله في الغرض وفي الحكم المذكور في القضية ويكون مرجعه إلى ارتفاع الحكم السابق بارتفاع القيد كما إذا قيل : أكل زيد قبل طلوع الشمس ، وأمّا إذا كان بقاء
    1 ـ التبيان ج8 ص 216 ط لبنان ويظهر من الآلوسي في تفسيره الاعتماد على هذا الوجه.

(322)
الحكم عند ارتفاع القيد أولى في نظر السامع كما في المقام فلا يستنبط منه المفهوم فإنّ من بقى على اُميته حتى ناهز الأربعين بل الخمسين أولى بأن يبقى على تلك الحالة في ما بقي من عمره ، فإنّ الرجل إذا لم يحصل على ملكة الكتابة إلى أن ورد في العقد الخامس من عمره لا يحتمل في حقه عادة أن يعود إلى تحصيلها بعد هذه المراحل الطويلة ، وعلى ذلك فلا يمكن الاستدلال على رفع الحكم المستفاد من قوله : ( ما كنت تتلو من قبله ) وقوله : ( ولا تخطّه ) عند ارتفاع القيد ، أي لا يدل على أنّه كان قارئاً وكاتباً بعد بعثته كما هو المقصود.
    خلاصة القول : إنّ الآية غير دالة على وضع النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بعد بزوغ دعوته ولا يدل على شيء من الطرفين والتمسك بمفهوم القيد : ( من قبله ) إنّما يصح إذا سيق الكلام لأجل افادته والإيماء إلى اختلاف حاله في المقامين وأمّا إذا سيق الكلام لغير هذه الغاية فلا يدل على ما استظهره من المفهوم ، فانّ الغاية من الإتيان بالقيد هو الاستدلال باُمّيته قبل نزول الوحي عليه ، على صدق مقاله ودعوته فإنّ الاُمّي إذا أتى بكتاب أخرس بفصاحته فرسان البلاغة وقادة الخطابة وسادات القوافي وملوك البيان بل أدهش بقوانينه اساطين القوانين والنظام ، يعد كتابه هذا بهذه الأوصاف والنعوت آية على كونه وحياً إلهياً خارجاً عن طوق القدرة البشرية ، وأمّا أنّه هل بقي على الاُمّية بعد ما صار نبيّاً يوحى إليه أو لا ؟ فخارج عن هدف هذه الآية وليست له صلة بمرماها ومقصدها وعلى ذلك نظائر في اللغة والعرف.
    ولقد أحسن المرتضى ، فلم يجعل الآية دليلاً على تغيّر حاله بعد بعثته ، وسلك مسلكاً متوسطاً غير ما سلكه استاذه الشيخ المفيد وما قصده تلميذه شيخ الطائفة الطوسي ودونك نقل كلامه :
    هذه الآية : ( ما كنت تتلوا من قبله من كتب ) تدل على أنّ النبي ما كان يحسن الكتابة قبل النبوّة فأمّا ما بعدها فالذي نعتقده في ذلك ، التجويز لكونه عالماً بالقراءة والكتابة ، والتجويز لكونه غير عالم بهما من غير قطع بأحد الأمرين وظاهر الآية يقتضي


(323)
أنّ النفي قد تعلق بما قبل النبوّة دون ما بعدها ، ولأنّ التعليل في الآية يقتضي اختصاص النفي بما قبل النبوّة (1) لأنّ المبطلين إنّما يرتابون في نبوّته لو كان يحسن الكتابة قبل النبوّة فأمّا ما بعدها فلا تعلق له بالريبة والتهمة فيجوز أن يكون تعلّمها من جبرئيل بعد ال (2) نبوّة.
    وكلامه هذا يعرب عن توقفه في المسألة كما هو صريح قوله : « من غير قطع بأحد الأمرين » وما ذكره « ظاهر الآية يقتضي أنّ النفي قد تعلق بما قبل النبوّة دون ما بعدها » صحيح لو أراد بذلك نفي دلالة الآية على أحد الأمرين وأمّا لو أراد به دلالتها على كونه قارئاً وكاتباً بعد فموهون بما أوضحناه عند البحث عن كلام تلميذه الجليل شيخ الطائفة رحمه اللّه ، مع أنّه بعيد عن ظاهر كلامه.
    وأمّا ما أفاده من « إنّ المبطلون إنّما يرتابون في نبوّته لو كان يحسن الكتابة قبل النبوّة فأمّا ما بعدها فلا تعلّق له بالريبة والتهمة » غير ثابت ولاظاهر بل يمكن أن يتطرق الشك إلى نبوّته لو كان يحسنها بعد النبوّة إذا تظاهربها في مرآى ومسمع من الناس ، فلاحظ التعليقة السابقة.

3 ـ الاستدلال بقوله سبحانه : ( يتلوا صحفاً مطهرة )
    استدل الدكتور عبد اللطيف الهندي بقوله سبحانه : ( رَسُولٌ مِنَ اللّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَة ) ( البينة : 2 ـ 3 ) قال : « إنّه يدل على تحقق التلاوة منه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أيام رسالته وفي رحاب دعوته ».
    لكنّه لا يدل على ما رامه فإنّ التلاوة كما تصدق على التلاوة عن الكتاب ، تصدق
    1 ـ اختصاص التعليل بما قبل النبوّة غير ظاهر بل لو تظاهر النبي بالقراءة والكتابة بعد نبوته ، فهو وإن كان يعد معجزة ومفخرة له عند من خلصت نيته ، وطهر قلبه ، لكنّه يوجب تسلل الشك إلى اُمّيته قبل نبوته عند المبطلين والمشككين فيضلّون ويضلّون ، وينشرون الأوهام والأراجيف حول دعوته ورسالته ، نعم لو كان عارفاً بها غير متظاهر لصح اختصاص التعليل بما قبل النبوّة.
    2 ـ مجمع البيان ج8 ص 287 ، مناقب آل أبي طالب ج1 ص 161.


(324)
على التلاوة عن ظهر القلب ، ويؤيده أنّه لم يرو عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في أيام رسالته أنّه تلا القرآن عن غير ظهر قلبه ، أضف إلى ذلك ما ذكره المفسرون في « صحف مطهرة » من الاحتمالات التي تخرجها عن محيط هذه الصحف المادية التي يرومها المستدل ومن شاء الاحاطة بها فليرجع إلى التفاسير.
    ونظير ذلك قوله سبحانه : ( سَنُقْرِئُكَ فَلاتَنْسَى * إِلاّ مَا شَاءَ اللّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَ مَا يَخْفَى ) ( الأعلى : 7 ـ 8 ) إذ معناه : سنقرأ عليك القرآن فلا تنساه ونجعلك قارئاً باذن منه فلا تنسى ما تتلقاه من أمين الوحي ، إلاّ بمشيئة منه فإنّ الاقراء والانساء كليهما بيده سبحانه ، فلا يدل إلاّ على تلاوة القرآن وقراءته عن ظهر القلب فقط كما كان هو دأب النبي في تلاوة كل ما اُوحي إليه ، وهو غير ما يرومه الدكتور وأمثاله.
    قال الزمخشري : بشّر اللّه تعالى باعطاء آية بيّنة وهي أن يقرأ عليه جبرئيل ما يقرأ عليه من الوحي وهو اُمّي لا يكتب ولا يقرأ فيحفظه ولا ينساه.
    وأمّا الاستثناء فلا يدل على تحقق الانساء منه سبحانه بالنسبة إلى الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بل هو للتنبيه على أنّ الأمر كله بيده ، وإن منحت كرامة الحف ـ ظ إليه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فليس بمعنى تفويض الأمر إليه وخروجه عن يد اللّه سبحانه ، بل الأمر في كلا الحالين بيده ، فاللّه الذي جعله قارئاً لا ينسى ، قادر على أن يصيره ناسياً لا يحفظ شيئاً ، ولا يخطر على روعه شيء ، فوزان الاستثناء في هذه الآية وزان الاستثناء في قوله سبحانه : ( وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمواتُ وَ الأرْضُ إلاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ ) ( هود ـ 108 ).
    فلا يدل على تحقق المشيئة في المستقبل منه سبحانه حتى ينافي خلود المؤمنين في الجنة.

4 ـ الاستدلال بقوله سبحانه : ( اكتتبها )
    استدل بعض الأعلام بقوله سبحانه : ( وَ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً ) ( الفرقان ـ 5 ) وفسّره في الكشّاف بقوله : اكتتبها : اكتتبها لنفسه


(325)
وأخذها كما تقول : استكب الماء واصطبه : إذا سكبه وصبّه لنفسه وأخذه (1) وكأنّه يريد أن يفهم أنّ زيادة التاء في « اكتتبها » للدلالة على أنّ كتابته كانت لنفسه بخلاف المجرد عنها كقولنا « كتب فلان » فإنّه أعم من أن يكون ذلك لنفسه أو لغيره.
    وقال الشيخ الطوسي : اكتتبها هو وانتسخها فهي تملى عليه حتى ينسخها (2) وجه الاستدلال ، أنّ المشركين قالوا : إنّ القرآن أساطير كتبها محمد لا من تلقاء نفسه بل بالإملاء عليه من غير ، فقولهم : يكتب الأساطير بإملاء الغير عليه ، صريح في أنّه بعد الايحاء إليه كان كاتباً يكتب القرآن ، وبما أنّ الكتابة صفة كمال لا ينسبها إليه خصومه كذباً وافتراء فلا بد أن تكون ثابتة له في تلك الحال (3).
    ولكن ما أقامه من الدليل موهون جداً فإنّ الكتابة وإن كانت صفة كمال إلاّ أنّ شهادة الخصم إنّما تدل على اتصافه بها إذا كانت الشهادة صادرة عن خلوص وصفاء وأمّا إذا جعلها ذريعة لإنكار نبوّته ، فلا يعد رميه بها دليلاً على صدق النسبة فإنّ القوم لما عجزوا عن الوقيعة في قرآنه ولم يتمكنوا من معارضته ومباراته دخلوا من باب آخر ، حتى يفتحوا بذلك باب الريب على نبوّته وكتابه وقالوا إنّ هنا من يملي عليه القرآن بكرة وأصيلاً ، وهو يكتب ما يملى عليه ولا هدف لهم من تلك الفرية إلاّ التشكيك في نبوّته ونزول الوحي عليه ولولا ذلك لما وصفوه بها ولا بغيرها من الصفات ، فإنّ التوصيف ، بأدنى مراتب الكمال ، يخالف ما يرمون إليه من انتقاصة.
    على أنّ هنا في لفظة « اكتتبها » احتمالاً آخر وهو أنّه أمر بالكتابة والاستنساخ ، احتمله الرازي بل اختاره وقال : معنى « اكتتب » ههنا ، أنّه أمر أن يكتب له كما يقال : « احتجم » و « افتصد » إذا أمر بذلك (4).
    إلى هنا تم ما وقفنا عليه من الأدلّة القرآنية التي أقامها القائلون على أنّ النبي كان قارئاً وكاتباً بعد نزول الوحي عليه ، وقد عرفناك وهن الجميع ، ووقفت على ما فيها من
    1 ـ الكشاف ج2 ص 400.
    2 ـ التبيان ج7 ص 472.
    3 ـ تفسير الآيات المتشابهات ص 47 ـ 48.
    4 ـ مفاتيح الغيب ج6 ص 353.


(326)
المناقشات.
    نعم هناك وجوه عقلية واستحسانات ، اعتمد عليها بعض من اختار هذا النظر ، ونحن نأتي بها.

5 ـ الاستدلال بالأولوية :
    استدل بها المجلسي وقال إنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كان قادراً على التلاوة والكتابة بالاعجاز وكيف لا يعلم من كان عالماً بعلوم الأوّلين والآخرين ، انّ هذه النقوش موضوعة لهذه الحروف ، ومن كان قادراً باذن اللّه على شق القمر وأكبر منه ، كيف لا يقدر على نقش الحروف والكلمات على الصحائف والألواح واللّه تعالى يعلم (1).
    وما ذكره لا يخرج عن حدود الاستحسان إذ من الممكن أن لا يمكنه اللّه من القراءة والكتابة لمصلحة هو أعلم بها ، أو لأجل رفع الريب والشك عن جانب نبوّته كما هو غير بعيد حتى بالنسبة إلى ما بعد النبوّة ، إذا تظاهر بالقراءة والكتابة.

6 ـ التجارة تتوقّف على الكتابة :
    قال بعض من عاصرناه : « إنّ المشركين رموه بالكذب والسحر والجنون والفرية ولم ينسبوه إلى الاُمية مع كونها صفة نقص لا سيما للتجار ذوي رحلة الشتاء والصيف ، فإذا لم يعيبوه بالاُمّية كان ذلك دليلاً على أنّه كان بعد النبوّة قارئاً وكاتباً » (2).
    ونناقش ما أفاده :
    أوّلاً : إنّ عدم رميه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بالاُمّية ، فلعدم كونها عيباً عندهم ، كيف والقوم كانوا جماعة اُمّية وكانت تلك الصفة هي السائدة عليهم ، وكان الرامي بها والمرمى إليها في هذا الوصف سواسية.
    1 ـ بحار الأنوار ج16 ص 136.
    2 ـ تفسير الآيات المتشابهات ص 50.


(327)
    ثانياً : إنّ التجارة وإن كانت تتوقف على القراءة والكتابة في الأوساط المدنية غير أنّ الدارج في البيئات البعيدة عن الحضارات كان غير ذلك ، خصوصاً قريش الذين كانت لهم رحلة الشتاء والصيف ، فكانوا يبيعون أو يشترون ، ويرجعون ، من دون أن يبقى لهم أو عليهم شيء.
    هذا ما لدى القائلين من الأدلّة على كونه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قارئاً وكاتباً بعد بزوغ نبوّته ، هلم معي ندرس بعض ما وقفنا لهم في المقام من كلمات تؤكد من نقلناه عنهم.
    قال الشيخ : « إنّ الحاكم يجب أن يكون عالماً بالكتابة والنبي عليه وآله السلام كان يحسن الكتابة بعد النبوّة وإنّما لم يحسنها قبل البعثة » (1).
    وتبعه ابن ادريس الحلي في باب سماع البيّنات من كتاب القضاء وجاء بعين ما نقلناه عن الشيخ (2).
    واختاره العلامة الحلي في كتاب النكاح عن تذكرته عند البحث عن مختصات النبي الأكرم حيث قال : كان يحرم عليه الخط والشعر تأكيداً لحجته وبياناً لمعجزته قال اللّه تعالى : ( ولا تخطّه بيمينك ) وقال تعالى : ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشّعْرَ ) ( يس ـ 69 ).
    وقد اختلف في أنّه هل كان يحسنها أو لا : وأصح قولي الشافعي الثاني وإنّما يتجه التحريم عل الأول (3) أي على القول بأنّه كان يحسن الكتابة إذ على فرض عدم عرفانه بها ، فالتحريم يكون لغواً وتحصيلاً للحاصل.
    غير أنّ دلالة الآية على حرمة الكتابة عليه ، مبني على كون « لا » في قوله : ( ولا تخطّه ) ناهية وهو خلاف الظاهر ، خصوصاً بملاحظ ـ ة سياق الآية أي قوله تعالى : ( ما كنت تتلواْ من قبله من كتاب ) فإنّه جملة خبرية وهو يقتضي أن تكون الجملة التالية لها أيضاً خبرية لا انشائية.
    1 ـ المبسوط : كتاب القضاء ج8 ص 120.
    2 ـ السرائر : باب سماع البيّنات من كتاب القضاء وهو غير مرقم.
    3 ـ تذكرة الفقهاء ج 2 ص 566 الطبعة الجديدة المرقمة.


(328)
    وقد اقتفى في ذلك قول الشيخ في مبسوطه حيث قال : « وقد خصّ اللّه نبيّه محمداً بأشياء وميّزه بها عن خلقه أربعة : واجب ، ومحظور ، ومباح ، وكراهة ـ إلى أن قال : ـ وأمّا المحظورات فحظرت عليه الكتابة وقول الشعر وتعليم الشعر » (1).

اُمّية النبي في الأحاديث :
    لقد بان الحق وظهرت الحقيقة من هذا البحث الضافي حول هذه الآيات ، فلم نجد آية تدل على أنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بعد بزوغ دعوته ، صار قارئاً أو كاتباً.
    نعم وردت أحاديث وروايات ، رواها الفريقان ، ربّما يركن إلى بعضها ، ويستدل به على تمكنه من القراءة والكتابة بعد بعثته ، بإعجاز منه سبحانه ، وإن كان الكل لا يخلو من اشكال ونحن نورد هنا تلكم الأحاديث :

منها : حديث بدء الوحي
    ررى أصحاب السير والتفسير :
    كان رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يجاور في حراء من كل سنة شهراً حتى إذا كان الشهر الذي بعثه اللّه سبحانه فيه خرج رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) إلى حراء حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه اللّه فيها برسالته ، جاءه جبرئيل بأمر اللّه ، ولنترك وصف ذلك إلى ما ورد عن رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بقوله :
    « فجاءني جبرئيل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال : اقرأ ؟ قلت : ما أقرأ؟ فغتني به (2) حتى ظننت أنّه الموت ، ثمّ أرسلني فقال : اقرأ؟ قال : قلت : ما أقرأ؟ قال : فغتني
    1 ـ راجع المبسوط أوائل كتاب النكاح ج4 ص 152 ـ 153.
    2 ـ كذا في جامع الاُصول والطبري والغت : حبس النفس ، وفي صحيح البخاري والمواهب « غطني » وهي بمعنى الغت أيضاً.


(329)
به حتى ظننت أنّه الموت ، ثم أرسلني فقال : اقرأ؟ قال : قلت : ماذا أقرأ؟ فغتني به حتى ظننت أنّه الموت ، ثمّ أرسلني فقال : اقرأ؟ قال : قلت : ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلاّ افتداءاً منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي فقال : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَق * اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الأكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) قال : فقرأتها ثمّ انتهى ، فانصرف ، وهببت من نومي ، فكأنّما كتبت في قلبي ، قال : فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوت من السماء يقول : يا محمد أنت رسول اللّه وأنا جبرئيل ، قال : فرفعت رأسي إلى السماء انظر فإذا بجبرئيل في صورة رجل صف قدميه في افق السماء يقول : يا محمد أنت رسول اللّه وأنا جبرئيل ».
    ويظهر من البخاري من صحيحه أنّ جبرئيل نزل بسورة العلق حينما كان النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يقضاً لا نائماً ، وأنّه تحمّل بدء الوحي في حال اليقظة حيث قال : فجاءه الملك فقال : اقرأ؟ ما أنا بقارئ (1) قال : فأخذني فغطني حتى بلغ منّي الجهد ، ثمّ أرسلني فقال : اقرأ؟ قلت : ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ منّي الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ؟ فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة ، ثمّ أرسلني فقال : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الانسان من علق ) .

كلمة حول سند الحديث :
    إنّ سند الحديث ينتهي إلى أشخاص ثلاثة يستبعد سماعهم الحديث عن نفس الرسول الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ودونك أسمائهم.
    1 ـ عبيد بن عمير بن قتادة الليثي ، أخرج الحديث عنه ابن هشام في سيرته ج 1 ص 235 ، والطبري في تفسيره ج30 ص 162 ، وتاريخه ج2 ص 300 ، وقد ترجم الرجل ابن الاثير في اُسد الغابة ج3ص353 ، وقال ذكر البخاري أنّه رأى النبي وذكر مسلم أنّه ولد على عهد النبي ، وهو معدود في كبار التابعين يروي عن عمر وغيره من الصحابة.
    1 ـ وهذا شاهد على أنّ الملك لم يرد أن يلقنه الآيات ليتابعه في القراءة فإنّ ذلك أمر مقدور للقارئ والاُمّي ، ولو أراد هذا كان المناسب أن يقول ماذا أقرأ ، بل أراد أن يقرأه النبي بنفسه بلا متابعة.

(330)
    2 ـ عبد اللّه بن شداد ، أخرج الحديث عنه الطبري في تفسيره ج30 ص 162 وفي تاريخه ج2ص299. ترجمه ابن الأثير في اُسد الغابة ج4ص 183. وقال ولد على عهد النبي روى عن أبيه وعن عمر وعلي.
    وعلى ذين السندين فالحديث مرسل غير موصول السند إلى النبي الأكرم إذ من البعيد أن يرويا الحديث عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) نفسه.
    3 ـ عائشة اُمّ المؤمنين ، أخرج البخاري عنها الحديث في صحيحه ج1ص3 وج3 ص173 في تفسير سورة العلق والطبري في تفسيره ج30 ص 161. وعلى ذلك فقد تفردت هي بنقل هذا الحديث ، ومن البعيد جداً أن لا يحدث النبي هذا الحديث بغيرها ، مع اشتياق غيرها إلى سماع أمثال هذه الأحاديث عنه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ). وعند ذلك يشكل الاستدلال بالحديث جداً.
    نعم ورد مضمون الحديث في تفسير الإمام العسكري كما في البحار ج 18 ص 206 لكن كون التفسير من الإمام فيه كل الشك والريب ونقله من أعلام الطائفة ابن شهر آشوب في مناقبه ج1ص40 ـ 44 ، والمجلسي في بحاره ج 18 ص 196.

توضيح مفاد الرواية :
    إنّنا مهما جهلنا بشيء من الأشياء ، فلا يمكن أن نجهل بأنّ النبوّة منصب الهي لا يتحمله إلاّ الأمثل فالأمثل من الناس ، ولا يقوم بأعبائها إلاّ من عمر قلبه بالإيمان ، وزود بالخلوص والصفاء وغمره الطهر والقداسة ، واُعطي مقدرة روحية عظيمة لا يتهيب حين ما يتمثل له رسول ربّه وأمين وحيه ، ولا تأخذه الضراعة والخوف عند سماع كلامه ووحيه ، وتلك المقدرة لا تفاض من اللّه على عبد إلاّ بعد معدّات ومقدّمات :
    منها : شموخ أصلاب آبائه وطهارة أرحام اُمّهاته ، حتى ينتقل من صلب شامخ إلى صلب آخر مثله ، ومن رحم طيبة إلى اُخرى مثلها.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس