مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 311 ـ 320
(311)
ولا كتابتها ، إلاّ أنّ ذلك الاطلاق لا يثبت كون الاُمّي موضوعاً على من لا يعرف اللغة السامية كما حسبه الدكتور. بل لمّا كان محور البحث في الآية أهل الكتاب وانقسامهم إلى طائفة عالمة بما في كتابهم ، وطائفة جاهلة به ، اُمّية لا تعلم من الكتاب شيئاً ، صار ذلك كالقرينة على أنّ المقصود من الاُمّيين فيها ، هي الطائفة الجاهلة بالمتون السامية واللغة التي اُنزلت بها كتبهم.
    وهذا الوجه لا يشمل « الاُمّي » في غير هذه الآية ولا على الموارد العارية عن هذه القرينة ولا يثبت كونه موضوعاً لمن يكون جاهلاً بالمتون السامية ، كما ادعاه القائل.
    إذا وقفت على ما ذكرناه وقوف المستشف للحقيقة ، لأذعنت أنّه ليس للاُمّي إلاّ مفاد واحد وهو الباقي على الحالة التي ولد عليها. ولو اطلق في مورد أو موارد على من لا يعرف المتون السامية ، فلأجل قرينة دلّت عليه ، فهو من باب تطبيق الكلي على فرده الخاص لا أنّه موضوع على ذلك الخاص.

بحث وتنقيب :
    لقد بان الحق بأجلى مظاهره بحيث لم تبق لمجادل شبهة في دلالة الذكر الحكيم على أنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كان اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب قبل أن يختاره اللّه تعالى للتبشير والانذار ، وظهر ما هو الحق الصراح في معنى الاُمّي الذي وصف اللّه به نبيّه الأكرم ، نعم روي عن بعض أئمّة أهل البيت في تفسير الاُمّي ما يتراءى منه خلاف ما أوضحناه وحققناه ودونك ما روي عنهم في هذا الباب (1).
    1 ـ أخرج الصدوق في علل الشرائع ومعاني الأخبار عن أبيه عن سعد (2) عن ابن
    1 ـ سوف نرجع في آخر البحث إلى تحقيق القول في الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت وغيرهم في المقام والغرض هنا عرض ما يرجع إلى خصوص تفسير لفظ الاُمّي فقط.
    2 ـ سعد بن عبد اللّه القمي ترجمه شيخ الطائفة في باب أصحاب العسكري ( عليها السَّلام ).


(312)
عيسى (1) عن محمد البرقي عن جعفر بن محمد الصوفي قال : سألت أبا جعفر محمد بن علي بن موسى الرضا ( عليها السَّلام ) فقلت : يا بن رسول اللّه لم سمّي النبي الاُمّي؟ فقال : ما يقول الناس؟ قلت : يزعمون أنّه سمّي الاُمّي لأنّه لا يحسن أن يكتب ، فقال : كذبوا عليهم لعنة اللّه في ذلك ، واللّه يقول في محكم كتابه : ( هو الذي بعث في الاُمّيّين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكت ـ ب والحكمة ) فكيف كان يعلّمهم ما لا يحسن ، واللّه لقد كان رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يقرأ ويكتب باثنين وسبعين أو قال : بثلاثة وسبعين لساناً وإنّما سمّي الاُمّي لأنّه كان من أهل مكة ، ومكة من اُمّهات القرى وذلك قول اللّه عزّ وجلّ : ( وَ لِتُنْذِرَ اُمَّ القُرَى وَ مَنْ حَوْلَهَا ) ( الأنعام ـ 92 ) (2).
    وأخرج الشيخ الأقدم محمد بن الحسن الصفار المتوفّى عام 290 في بصائر الدرجات عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد البرقي عن جعفر بن محمد الصوفي مثله.
    ونقله الشيخ المفيد معلّم الاُمّة في « اختصاصه » بهذا السند أيضاً.
    والحديث على كل تقدير ينتهي إلى محمد البرقي وهو مختلف فيه جداً لاستناده إلى المراسيل والضعاف ، وهو يروي عن جعفر بن محمد الصوفي الذي أهمله أصحاب المعاجم فالحديث ساقط عن الحجية.
    أضف إليه ما في متنه من الشذوذ ، وفيه جهات من النظر :
    أوّلاً : قوله إنّ النبي يقرأ ويكتب باثنين وسبعين لساناً ، يعطي أنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كان مشغولاً بقراءتها والكتابة بها في عامة حياته أو رسالته فقط ، وحمله على الإمكان والتعليق وأنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كان قادراً عليهما باثنين وسبعين لساناً لو شاء وأراد ، ولكنّه لم يشأ ويقرأ ولم يكتب بها أصلاً ، خلاف الظاهر ، وعلى ما استظهرناه فالرواية تخالف ماهو المتواتر من حياة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).
    1 ـ أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري ، ثقة جليل.
    2 ـ علل الشرائع ص 53 ، ومعاني الأخبار ص 20.


(313)
    إذ لو كان النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) على النحو الذي تصفه الرواية لذاع ذكره وطار صيته بهذا الوصف ولا يكاد يخفى على الناس أمره. على أنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في البيئة العربية الاُمية كان في منتأى عن سماع الألسنة أو رؤية أصحابها فلم يكن في موطنه ولا دار هجرته من يعرفها أو يتكلم بها فكيف يتكلم بهذه اللغات ، وهو لا يجد من يشافهه بها ، ولم تكن تحضره صحيفة أو صحائف كتبت بغير اللغة العربية.
    ثانياً : إنّ تفسير الاُمّي بكونه منسوباً إلى اُمّ القرى ، يخالف ما اتفقت عليه أئمّة الأدب ، وجهابذة اللغة ، وأعلام التفسير بل يخالف القرآن الكريم حيث فسّر سبحانه بغير ذلك وقال : ( ومنهم اُمّيّون لا يعلمون الكتاب ) فلا يصح الركون في هذه المسألة إلى حديث ينتهي إلى من اختلف في وثاقته ، إلى من أهمله علماء الرجال في كتبهم.
    ولسنا من الفئة التي تعرض القرآن والحديث الصحيح على القواعد العربية المدوّنة بعد أجيال من نزول القرآن ونشر الحديث ، بيد علماء الأدب ، فإنّ تلك الفئة ضالّة مضلّة مستحقة للرد والطعن. إذ الصحيح عرض القواعد على القرآن والحديث دون العكس ، فإنّ المقياس الوحيد لتمييز الصحيح عن غيره ، إنّما هو كلام أهل اللسان والأساليب الدارجة بينهم ، لا القواعد المدوّنة إذا لم ترجع إلى مصدر وثيق.
    وعلى هذا فلو وجدنا القاعدة الأدبية المصطادة من تتبع بعض الموارد ومن كلام العرب ، مخالفة للقرآن الكريم أو الحديث الثابت عنهم ، أو الكلام الصادر عن عربي صميم ، وجب علينا هدم القاعدة ، ورميها بالخطأ والغلط ، لا تأويل الذكر الحكيم والحديث الصحيح ، والكلام المنقول عن أهل اللسان إذ القرآن سواء أقلنا إنّه كلام إلهي اُوحي إلى نبيّنا الأكرم أم قلنا إنّه من منشآته ومبدعاته ( وأجل النبي عن هذه الفرية الشائنة ) كلام صحيح ، صادر أمّا عن اللّه سبحانه أو عن عربي صميم شب وترعرع بين الاُمّة العربية وقضى عمره وحياته بين ظهرانيهم.
    وعلى أي تقدير فهو الحجة في تدوين القاعدة وتأسيسها دون العكس ومثله الآثار المنقولة عنه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).


(314)
    ونحن مع هذا الاعتراف الصريح لا نقر بما جاء في الحديث حول تفسير الاُمي وأنّه منسوب إلى اُم القرى ولا نرمي أئمّة الأدب بالخطأ والاشتباه ، إذ الحديث قاصر سنداً وينتهي إلى من اختلفت فيه كلمة أهل الجرح والتعديل ، إلى من لم تتضح حاله ووثاقته ، ولو ثبت صدوره عن أئمّة أهل البيت ، لهدمنا القاعدة النحوية في باب النسب وأخذنا بما فيه.
    ثالثاً : إنّ الحديث لا ينسجم مع مضمون ما سيوافيك من الحديثين (1) ، فإنّ مفادهما هو كون النبي يقرأ ولا يكتب أصلاً ، وهذا يثبت له القراءة والكتابة باثنين وسبعين لساناً ، فلا مناص في مقام الترجيح عن الأخذ بهما وطرح ذاك ، لقوة اسنادهما وصحتهما على ما عرفت.
    2 ـ أخرج الصدوق في معاني الأخبار عن ابن الوليد عن سعد عن الخشاب عن علي بن حسان وعلي بن أسباط وغيره رفعه إلى أبي جعفر ( عليها السَّلام ) قال : قلت : إنّ الناس يزعمون أنّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يكتب ولم يقرأ؟ فقال : كذبوا لعنهم اللّه أنّى يكون ذلك وقال اللّه عزّ وجلّ : ( هو الذي بعث في الاُمّيّين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكت ـ ب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) ، فيكون يعلّمهم الكتاب والحكمة وليس يحسن أن يقرأ أو يكتب به؟ قال : قلت : فلم سمّي النبي الاُمي؟ قال : نسب إلى مكة وذلك قول اللّه عزّ وجلّ : ( ولتنذر اُم القرى ومن حولها ) فاُم القرى مكة فقيل اُمّي لذلك (2).
    ونقله صاحب البصائر عن عبد اللّه بن محمد عن الخشاب عن علي بن حسان وعلي بن أسباط وغيره رفعه إلى أبي جعفر (3).
    1 ـ راجع البحث الآتي تحت عنوان « عرض وتحقيق » والمقصود من الصحيحين ما رواه هشام بن سالم ، والحسن الصيقل عن الصادق ( عليها السَّلام ).
    2 ـ علل الشرائع ص 542.
    3 ـ بصائر الدرجات ص 62 ، بحار الأنوار ج 16 ص 133.


(315)
    ويؤسفنا أنّ الحديث مع ما في متنه من العلات ، غير موصول السند إلى الإمام ، فالرواية مرفوعة وهو نوع من المرسل الذي لا يعتمد عليه.
    وفي هذا المقال يلمس القارئ حقيقة ناصعة هي من أجلى الحقائق الدينية ألا وهي مغزى كون النبي لا يحسن القراءة والكتابة قبل أن يختاره اللّه تعالى للتبشير والانذار.
    نعم بقي الكلام في أمره ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بعد البعثة ولأجل ذلك عقدنا لتحقيقه الفصل التالي :


(316)
أمر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم )
بعد بزوغ دعوته
    قد اهتدينا بهدى القرآن وساقتنا الأدلّة إلى القول بأنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كان قبل البعثة اُمياً لا يقرأ ولا يكتب ولم يسجل التاريخ له ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في ذلك العهد قراءة لوح أو كتباة صحيفة ، ولم يكن ذلك اختلافاً تواطأ عليه المسلمون لهدف خاص كما حسبه الدكتور في مقاله (1) بل كان تقريراً للواقع وقد قابلنا التفكير السطحي الخاطئ بالرد والنقد.
    غير أنّنا طلباً لوضوح الحقيقة ، واكمالاً للبحث ، نردف المقال بالبحث عن وضع النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بعد بزوغ دعوته وبعثته إلى الناس ، وأنّه هل بقي على ما كان عليه من الاُمية ، لنفس المصلحة التي اُوجبت اُميته قبل أن يبعث إلى هداية الناس ، أو لم يبق عليه ، بل كشف الحجاب عن ضميره الحي وعقله الواعي ، وقلبه الواسع ، عندما بزغت دعوته وبعث رسولاً إلى الناس ولا يمكن القضاء البات إلاّ بعد الوقوف على ما ذكره الفطاحل من رواة الحديث وأعلام التفسير.
    وقد اختار ثلة جليلة من المحققين القول الثاني أنّ تمكن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) باذنه سبحانه
    1 ـ زعم الدكتور في مقاله أنّ اُمية النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فكرة حديثة بين المسلمين ، لصيانة القرآن عن التحريف وحفظه عن حدوث الزيادة والنقيصة عليه من جانب النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فإنّ الاُمي يعكس كل ما اُلقي عليه بلا تغيير وتحريف ، ولا يقدر على تحويره بخلاف غيره ، فانظر ما أجرأ هذا الرجل على تحريف الكلم عن مواضعه.

(317)
من القراءة والكتابة بعد ما نزل عليه الوحي واستدلوا على ذلك بوجوه لا تخلو من مناقشات واشكلات ، ونحن نذكر تلكم الوجوه ، ثمّ نردفها بما هو المختار عندنا :

1 ـ الوجوه التي اعتمد عليها شيخنا المفيد :
    هذا هو الشيخ المفيد استدل بأدلة ووجوه اعتقد أنّها الحجج الكافية لاثبات ما يرتئيه من أنّ النبي كان عارفاً بالقراءة والكتابة بعد بعثته ودونك ما أفاده برمّته :
    1 ـ إنّ اللّه تعالى لما جعل نبيّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) جامعاً لخصال الكمال كلها ، وخلال المناقب بأسرها لم تنقصه منزلة بتمامها ، ليصح له الكمال ، ويجتمع فيه الفضل والكتابة فضيلة من منحها فضل ، ومن حرمها نقص.
    2 ـ إنّ اللّه تعالى جعل النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) حاكماً بين الخلق في جميع ما اختلفوا فيه ، فلا بد أن يعلمه الحكم في ذلك ، وقد ثبت أنّ اُمور الخلق قد يتعلق أكثرها بالكتابة فتثبت بها الحقوق ، وتبرأ بها الذمم ، وتقوم بها البيّنات ، وتحفظ بها الديون ، وتحاط بها الأنساب ، وأنّها فضل تشرف المتحلّي به على العاطل منه ، وإذا صح أنّ اللّه جلّ اسمه قد جعل نبيّه بحيث وصفناه من الحكم والفضل ثبت أنّه كان عالماً بالكتابة ، محسناً لها.
    3 ـ إنّ النبي لو كان لا يحسن الكتابة ولا يعرفها لكان محتاجاً في فهم ما تضمّنته الكتب من الحقوق وغير ذلك إلى بعض رعيته ، ولو جاز أن يحوجه اللّه في بعض ما كلّفه الحكم فيه إلى بعض رعيته لجاز أن يحوجه في جميع ما كلّفه الحكم فيه إلى سواه ، وذلك مناف لصفاته ومضاد لحكمة باعثه ، فثبت أنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كان يحسن الكتابة.
    4 ـ إنّ اللّه سبحانه يقول : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الاُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَ الحِكْمَةَ وَ إِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلال مُبِين ) ( سورة الجمعة ـ 2 ) ومحال أن يعلمهم الكتاب وهو لا يحسنه ، كما يستحيل يعلمهم الكتاب والحكمة وهو لا يعرفهما ، ولا معنى لقول من قال : إنّ الكتاب هو القرآن خاصة ، إذ اللفظ عام والعموم لا ينصرف عنه إلاّ بدليل ، لا سيما على قول المعتزلة وأكثر


(318)
أصحاب الحديث.
    5 ـ يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى : ( وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَاب وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاْرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( سورة العنكبوت ـ 48 ) فنفى عنه احسان الكتابة وخطه قبل النبوّة خاصة ، فأوجب احسانه بذلك لها بعد النبوّة ، ولولا أنّ ذلك كذلك لما كان لتخصيصه النفي معنى يعقل ، ولو كان حاله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في فقد العلم بالكتابة بعد النبوّة ، كحاله قبلها لوجب إذا أراد نفي ذلك عنه أن ينفيه بلفظ يفيده ، لا يتضمن خلافه فيقول له : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذ ذاك ولا في الحال ، أو يقول : لست تحسن الكتابة ولا يتأتى منك على كل حال ، كما أنّه لما أعدمه قول الشعر ومنعه منه نفاه بلفظ يعم الأوقات فقال اللّه تعالى : ( وَ مَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَ مَا يَنْبَغِي لَه ) ( يس ـ 69 ) وإذا كان الأمر على ما بيّناه ثبت أنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كان يحسن الكتابة بعد أن نبّأه اللّه تعالى ما وصفناه ، وهذا مذهب جماعة من الإمامية ويخالف فيه باقيهم وسائر أهل المذاهب والفرق يدفعونه وينكرونه (1).
    وفي ما ذكره رحمه اللّه مناقشات نشير إليها :
    أوّلاً : انّ الكتابة وإن كانت من الكمالات « ومن منحها له سبحانه فضل ومن حرمها نقص » غير أنّ ذلك يعد للعاديين الذين ينحصر طريق اكتسابهم للمعارف بها وحدها ، وأمّا من لا يحتاج إليها بل له طريق آخر لدرك الحقائق واكتساب المعارف كما هو الحال بالنسبة إلى نبيّنا ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فلا يعد التمكن من الكتابة والقراءة فضيلة له حتى يكون عدمهما نقصاً في حقه ، كيف وهو ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قد عرف الواجب جلّ اسمه وصفاته وأفعاله ووقف على حقائق الكون ودقائقه عن طريق الوحي الذي هو أوثق وأسدّ الطرق الممكنة ، لا يخطأ ولا يشتبه وعند ذاك لا حاجة له إلى هذه الطرق العادية غير المصونة عن الخطأ والاشتباه.
    أضف إليه لو فرضنا أنّ بقاء النبي على ما كان عليه من الاُمية كان يرفع الشك
    1 ـ أوائل المقالات ص 111 ـ 113 ط تبريز.

(319)
عن قلوب السذج من الناس ويؤكد ايمانهم واذعانهم بنبوّته وبما جاء به من الشريعة والكتاب وجب على المولى سبحانه ابقاءه على ما كان عليه من الصفات والنعوت ، طلباً للغاية التي بعثه لأجل احرازها وتحققها ، فإذا كان هو الملاك في اُمّيته قبل بزوغ دعوته فليكن هو الملاك في بقائه عليها فلا وجه لعد أحدهما نقصاً في حقه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) دون الآخر.
    ثانياً : إنّ ما ذكره « انّ الكتابة فضل تشرف المتحلي به على العاطل منه وإذا صح أنّ اللّه قد جعل نبيّه بحيث وصفناه من الحكم والفضل ثبت أنّه كان عالماً بالكتابة محسناً لها » صحيح جداً وقد فضّل اللّه سبحانه نبيّنا على جميع الأنبياء والرسل ومنحه من الفضائل ما لم يمنحه لغيره غير أنّه لما كانت هناك مصلحة أولى وأهم كما صرح اللّه بها سبحانه في كتابه وهي طرد الريب عن القلوب الضعيفة ، صرفه اللّه سبحانه عن تعلّم القراءة والكتابة طيلة عمره ، ولم يمكنه منها طلباً لهذه الغاية المهمة وترك المهم توخّياً للأهم لا يعد نقصاً لو لم يعد كمالاً.
    وإلى ذلك يشير الفاضل القنوي في تعليقه على « أنوار التنزيل » بقوله : ولذلك صارت الاُمية شرفاً وفخراً في شأنه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وصفة نقص في حق غيره.
    وبذلك نجيب عن ما أفاده رحمه اللّه :
    « لو كان لا يحسن الكتابة ولا يعرفها لكان محتاجاً في فهم ما تضمّنته الكتب من الحقوق وغير ذلك إلى بعض رعيته ، ولو جاز أن يحوجه اللّه في بعض ما كلّفه الحكم فيه إلى بعض رعيته لجاز أن يحوجه في جميع ما كلّفه الحكم فيه إلى سواه وذلك مناف لصفاته ومضاد لحكمته » لأنّه إذا جاز احتياج النبي الأعظم في مورد خاص إلى بعض رعيته توخياً لبعض المصالح المهمة ، لا يستلزم جواز احتياجه في الموارد الخالية عنها فإنّ الأوّل لا يعد نقصاً عند العقلاء ولأجل ذلك يرجّحون الأهم على المهم عند التزاحم ، بخلاف الثاني.
    ثالثاً : إنّ قوله سبحانه : ( وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَاَب وَالحِكْمَةَ ) لا يدل على ما رامه أمّا إذا قلنا إنّ المراد من الكتاب هو القرآن كما هو الظاهر المتبادر إلى الذهن فإنّ تلاوة الآية


(320)
لا تفتقر إلى معرفة الكتابة إذا تلقى التالي محفوظاته من وحي أو تلقين ، ومن الناس من يتعلّم القرآن من الصدور لا السطور ويتلوه كما حفظ بدون توقف على معرفة الخط ، وأمّا إذا قلنا إنّ المقصود منه الكتابة وإن كان بعيداً جداً فليس معناه تعليم النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لقومه الكتابة مباشرة إذ لم يعهد ولم ير بأسانيد صحيحة أنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) جلس مع أفراد اُمّته يعلّمهم نقوش الحروف الهجائية وتراكيبها الأبجدية قطعاً ، وإنّما المراد أنّه قام بأمر تعليم الاُمّة مهمة الكتابة ، فقد تواتر عنه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) اتّخاذه الأسرى يشترط عليهم أن يعلّموا أهل مدينته الخط والكتابة (1) فكان الأسير إذا علّم الكتابة عشرة من المسلمين أطلق النبي سراحه مكافأة لعمله وبهذه الوسيلة البسيطة عمّم في اتباعه صناعة الخط وأخرجهم من ظلمة الاُمّية وأصبح مقر الاسراء مدرسة يتعلّم فيها صبيان المدينة ما يحتاجون إليه من علوم ذلك العهد.
    وأمّا ما تمسك به من مفهوم الآية وأنّ لفظة : ( من قبله ) يفهم منها أنّه كان قارئاً وكاتباً بعد الوحي إليه فيوافيك نقده في البحث التالي :
    ثم إنّ للعلاّمة الشهرستاني كلمة قيمة في المقام يجري مجرى الجواب عن ما ذكره المفيد فلاحظه (2).

2 ـ الاستدلال بمفهوم الآية :
    نقل شيخ الطائفة استدلال القوم على اُمّية النبي الأعظم بقوله سبحانه : ( وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون ) ( العنكبوت ـ 48 ) ثم اعترض عليهم بما هذا ملخصه :
    1 ـ قال الاُستاذ عمر أبو النصر في كتابه « العرب ص 23 » : وكان فداء الأسرى الذين يعرفون القراءة والكتابة تلقين عشرة من صبيان المدينة الكتابة ، وكذلك أصبح مقر الأسرى مدرسة يتعلّم فيها صبيان المدينة.
    2 ـ راجع مجلة المرشد البغدادية لسنتها الرابعة ص 327 ـ 428 ما أفاده العلامة الحجة السيد هبة الدين الشهرستاني على ما نقله عنها العلامة المتتبع الجرندابي في تعاليقه على أوائل المقالات.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس