مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 301 ـ 310
(301)
    ترى أنّه سبحانه عندما رام أن يشير إلى هذه الكتب المعهودة عرفها باللام إشارة إلى معهوديتها.
    أضف إليه أنّ الهدف الأسمى للآية من نفي التلاوة والكتابة عنه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) هو قلع جذور الريب والشك من قلوب المبطلين ، ولا يتحصل ذلك إلاّ بكونه اُمّياً غير قارئ ولاكاتب قط ، ولا يحسن القراءة والكتابة أصلاً. ولو صح ما يرتئيه الدكتور لما نهضت الآية إلى رفع آثار الشك وغبار الريب بل كان باب اكتساب الشك في أمره ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) والقاء الريب في قلوب ضعفاء الناس بنبوّته مفتوحاً بمصراعيه. إذ كان للجاحد المبطل أن يقول انّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بمزاولته صحف والكتب العربية ، وقف على أحوال الماضين وأقاصيص الأوّلين ، فأودع نتائج أفكاره وما استحصل عليه منها بعد سبره لغورها ، في هذه الصحائف وفي ضمنها من هذه السور والآيات التي افتراها على اللّه ، وقد رماه بهذه الفرية الشائنة رؤوس الكفر والعناد فيما حكاه عزّ وجلّ : ( وَ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان ـ 5 ).
    وفي نفس الآية دليل بارز على أنّ الهدف منها هو نفي مطلق التلاوة والكتابة عنه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) حيث عطف على الجملة الأولى : ( وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ) قوله : ( ولا تخطّه بيمينك ) .
    بيانه : لو كان المراد من الآية سلب القدرة عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في خصوص ما يتعلّق بتلاوة الكتب الدينية النازلة باللغة العبرانية أو غيرها من اللغات غير الدارجة في الجزيرة العربية ، لكان له تعالى أن يقتصر عل الجملة الاُولى ، ولا يردفها بقوله : ( ولا تخطّه ) لوضوح الملازمة بين السلبين. فإذا كان الرجل لا يقدر على قراءة كتاب اُلّف بلغة خاصة ، فهو لا يقدر على خطها وترسيمها بتاتاً ، فعلى ذلك لماذا جيئ بالمعطوف مع امكان الاستغناء عنه بما تقدم عليها.
    ولكن لو كان الغرض هو التنبيه على اُمّية النبي بأوضح العبارات ، والاجهار بها بأصح الأساليب ، وأنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قبل بعثته لم يكن قارئاً ولا كاتباً بتاتاً ، بل كان بعيد عن ذلك


(302)
كل البعد ، لصح عطفها على ما تقدم عليها ، لأنّ العرف إذا حاول توصيف الرجل بالاُمّية يقول في حقه : إنّه لا يعرف القراءة والكتابة ، أو أنّه ليست بينه وبين التلاوة والكتابة أية صلة ، ولا يقتصر على نفي الاُولى بل يردفها بنفي الاُخرى أيضاً ، توضيحاً للمراد. واللّه سبحانه لمّا أراد التركيز على اُمّية النبي وأنّه طيلة عمره كان بعيداً عن مجالات العلم والدراسة ، أتى بما هو الدارج في لسان العرب ، إذا أرادوا توصيف الشخص بالاُمّية.
    والشاهد على ما ذكرنا : أنّك لو ألقيت هذه الآية على أي عربي عريق في لغته ولسانه ، يقضي بأنّ المقصد الأسنى منها نفي معرفته ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بالتلاوة والكتابة على الاطلاق. نعم الآية خاصة بما قبل البعثة ، لا تعم ما بعدها ولنا عودة إلى هذا الموضوع في الأبحاث الآتية فانتظر.
    وربما يقال (1) : إنّ الآية تنفي مطلق التلاوة والكتابة ولكنّه لا يدل على نفي احسانهما عنه : قلت : سيوافيك جوابه عند البحث عن وضع النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بعد البعثة.

النص الثاني من القرآن على كونه اُمّياً :
    يدل على ذلك قوله سبحانه :
    ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوراةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَ يَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي اُنْزِلَ مَعَهُ اُولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) .
    ( فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الاُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ كَلِمَاتِهِ وَ اتّبعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ( الأعراف : 157 ـ 158 ).
    قد وصف سبحانه نبيّه في هذه الآية بخصال عشر وهي : أنّه رسول ، نبي ، اُمّي ،
    1 ـ نقله الشيخ الطوسي في تبيانه راجع ج8 ص 216 ط بيروت.

(303)
مكتوب اسمه في التوراة والانجيل ، ومنعوت فيهما بأنّه يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، يحل لهم الطيبات ، يحرّم عليهم الخبائث ، يضع عنهم الإصر ، ويرفع عنهم الأغلال.
    وهذه الصفات التي تضمّنتها الآية في حق النبي الأكرم واضحة حتى الوصف الذي هو موضوع البحث ( الاُمّي ) إذ الاُمّي حسب تنصيص الكتاب المبين هو من لا يقدر على القراءة ولا يحسن الكتابة كما يقول سبحانه : ( وَ مِنْهُم اُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إِلاّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ ) ( البقرة ـ 78 ).
    قوله سبحانه : ( لا يعلمون الكتاب ) توضيح لقوله اُمّيون أي منهم اُمّة منقطعون عن كتابهم لا يعلمون منه إلاّ أوهاماً وظنوناً يتلوها عليهم علماؤهم ، الذين يحرفون كتاب اللّه وكلماته عن مواضعها ، ويحسب هؤلاء السذّج أنّه الكتاب المنزل إليهم من ربّهم. ولذلك قال سبحانه في الآية التالية : ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هِذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ ممّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ ممّا يَكْسِبُونَ ) ( البقرة ـ 79 ).
    فلو كانوا عارفين بالكتاب قادرين على قراءته وتلاوته لما اغتروا بعمل المحرّفين ، ولميّزوا الصحيح من الزائف غير أنّ اُمّيتهم وجهلهم به حالت بينهم وبين اُمنيتهم.
    قال الرازي : إنّه تعالى وصف محمداً في هذه الآية بصفات تسع (1) إلى أن قال : الصفة الثالثة كونه اُمّياً ، قال الزجّاج : معنى الاُمّي الذي هو على صفة اُمّة العرب ، قال عليه الصلاة والسلام : إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب (2) فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرأون ، والنبي كان كذلك فلهذا السبب وصفه بكونه اُمّياً (3).
    1 ـ لا ، بل عشر ، كما عرفت.
    2 ـ إيعاز إلى ما رواه البخاري في صحيحه ج1 ص 327 عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه قال : إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا أو هكذا ، مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين.
    3 ـ مفاتيح الغيب ج4 ص 309.


(304)
    وقال البيضاوي : الاُمّي لا يكتب ولا يقرأ ، وصفه به تنبيهاً على أنّ كمال علمه مع حاله هذا ، إحدى معجزاته (1).
    هذا وقد أصفقت على ما ذكرنا من المعنى للاُمّية معاجم اللغة المؤلّفة في العصور الزاهرة بأيدي الخبراء الأساطين وفي مقدّمهم : أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا المتوفّى عام 395 صاحب « مقاييس اللغة » (2) وغيرها من الكتب الممتعة ودونك كلامه :
    « اُم » له أصل واحد يتفرع منه أربعة أبواب وهي الأصل ، والمرجع والجماعة والدين ، قال الخليل : كل شيء تضم إليه ما سواه مما يليه ، فإنّ العرب تسمّي ذلك اُمّاً ومن ذلك اُم الرأس : وهو الدماغ ، اُم التنائف : أشدها وأبعدها ، اُم القرى : مكة وكل مدينة هي اُم ما حولها من القرى ، واُم القرآن : فاتحة الكتاب واُم الكتاب ما في اللوح المحفوظ ، واُم الرمح : لواؤه وما لف عليه ، وتقول العرب للمرأة التي ينزل عليها : اُم مثوى ، واُم كلبة : الحمى ، واُم النجوم : السماء ، واُم النجوم : المجرّه ... إلى أن عد كثيراً من هذه التراكيب فقال : الاُمّي في اللغة : المنسوب إلى ما عليه جبلة الناس لا يكتب ، فهو في أنّه لا يكتب على ما ولد عليه (3).
    ومحصل كلامه أنّه ليس للاُم إلاّ مادة واحدة وهي الأصل لغيرها ومنه يتفرع غيرها فاُم الانسان اُم لأنّها أصله وعرقه وهكذا ...
    وهذا الزمخشري إمام اللغة والبلاغة فسر قوله تعالى : ( ومنهم اُمّيّون لا يعلمون الكتاب إلاّ أماني وإن هم إلاّ يظنون ) بأنّهم لا يحسنون الكتاب فيطالعوا التوراة
    1 ـ أنوار التنزيل وأسرار التأويل ج3 ص 230 مع شرحه لاسماعيل القنوي.
    2 ـ بلغ ابن فارس الغاية في الحذق باللغة ، وكنه أسرارها وفهم اُصولها ، وقد حاول في تأليف هذا المعجم أن يوحّد المعاني المتعددة المفهومة من لفظ واحد وذلك بارجاعها إلى أصل واحد تفرّعت عنه تلك المعاني في الاستعمال ـ وقد إنفرد من بين اللغويين بهذا التأليف ولم يسبقه إلى مثله أحد ، ولم يخلفه غيره.
    3 ـ المقاييس ج1 ص 21 ـ 28 والكشاف ج1 ص 224.


(305)
ويتحققوا ما فيها (1).
    وقال أمين الإسلام في مجمع البيان : ذكروا للاُمّي معاني :
    أوّلها : أنّه الذي لا يكتب ولا يقرأ.
    ثانيها : أنّه منسوب للاُمّة والمعنى أنّه على جبلة الاُمّة قبل استفادة الكتاب.
    ثالثها : أنّه منسوب إلى الاُم والمعنى أنّه على ما ولدته اُمّه قبل تعلم الكتابة.
    قلت : هذه المعاني متقاربة تهدف إلى مفهوم واحد. وإنّما الاختلاف في انتسابه إلى الاُم أو الاُمّة وقد جمع ابن فارس في كلامه كلا الاحتمالين.
    هذه نصوص بعض أئمّة اللغة وأساطين التفسير ، إذا شئت فلاحظ كلمات الباقين منهم.

الآراء الشاذة في تفسير الاُمي :
    ربّما يجد القارئ في طيات بعض التفاسير معاني اُخر للاُمّي لا تتفق مع ما أصفقت عليه أئمّة اللغة والتفسير فلا بأس بذكرها ودحضها :
    1 ـ الاُمي منسوب إلى اُم القرى وهي علم من أعلام مكة كما يدل عليه قوله سبحانه : ( وَ كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً اُمَّ القُرَى وَ مَنْ حَوْلَهَا ) ( الشورى ـ 7 ) وعلى ذلك فالمراد من الاُمي أنّه مكي.

وفيه مواقع للنظر والنقد :
    أوّلاً : إنّ اُم القرى ليست من أعلام مكة ـ وإن كان يطلق عليها ـ غير أنّ الإطلاق لا يدل على كونه من أعلامها ، بل هو موضوع على معنى كلي وهي إحدى مصاديقه ولا تنس ما ذكره ابن فارس بقوله : « كل مدينة هي اُم ما حولها من القرى » فيعلم من ذلك
    1 ـ المقاييس ج1 ص 21 ـ 28 والكشاف ج1 ص 224.

(306)
أنّ اُم القرى مفهوم كلي يصح اطلاقه على أية بلدة تتصل بها قرى كثيرة بالتبعية ، وهذه القرى تعمتد عليها في اُمور حياتها ، ويعاضد ما ذكرناه ( كون اُم القرى كلياً ) قوله عزّ وجلّ : ( وَ مَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي اُمِّهَا رَسُولاً ) ( القصص ـ 59 ) فالآية ( بحكم رجوع الضمير في اُمها إلى القرى ) صريحة في أنّها ليست علماً لموضع خاص ، لأنّ مشيئته تعم الاُمم في هذا الأمر ( أهلاك الاُمم وإبادتهم بعد انذارهم ببعث الرسل ) ولا تختص باُمّة دون اُخرى ، أو نقطة دون نقطة ، وعلى هذا ، فمفاد الآية أنّ اللّه سبحانه يمهل أهل القرى من دون فرق بين قرية وقرية ، حتى يبعث في مركزها الذي هو مركز الثقل بالنسبة إليها ، والمجتمع لأكثر الناس ، وملتقى أفكارهم ، رسولاً يبشرّهم وينذرهم ، فإذا ضربوا عنه صفحاً وهجروا مناهجه ، يبيدهم ويهلكهم بألوان العذاب وهذه مشيئة اللّه وعادته في الاُمم السالفة البائدة جميعاً ، مكية كانت أم غيرها.
    وثناياً : لو صح كونه من أعلام مكة فالصحيح عند النسبة إليها هو القروي لا الاُمّي ، هذا ابن مالك يقول في ألفيته :
وانسب لصدر جملة وصدر ما اضافة مبدوة بابن وأب فيما سوى هذا انسبن للأول ركب مزجا ولثان تتما أو ما له التعريف بالثاني وجب مالم يخف للبس كعبد الأشهل
    قال ابن عقيل في شرحه : إذا نسب إلى الإسم المركب فإن كان مركباً تركيب جملة أو تركيب مزج ، حذف عجزه واُلحق صدره ياء النسب فتقول في تأبّط شراً : تأبطي ، وفي بعلبك : بعلي ، وإن كان مركب إضافة ، فإن كان صدره ابناً أو أباً أو كان معروفاً بعجزه ، حذف صدره واُلحق عجزه ياء النسبة ، فنقول في ابن الزبير : زبيري ، وفي أبي بكر : بكري ، وفي غلام زيد : زيدي ، وإن لم يكن كذلك ... (1).
    والاقتصار على الابن والأب من باب المثال والحكم يعم الاُم والابنة والأخ
    1 ـ شرح ابن عقيل ج2 ، ص391.

(307)
والاُخت ، لاشتراك الجميع معهما في المناط والملاك ـ وهو كونها مركبة تركيب اضافة وحصول الالتباس لو اُلحقت بصدرها.
    وثالثاً : إنّ اللّه وصف نبيّه في الآية بصفات تناسب موضوع النبوّة ، فلو كان الاُمّي فيها بالمعنى الذي أوضحناه ، لتلاءم الكلام ، وتكون تلك الصفة هادفة إلى آية نبوّته وبرهان رسالته ، لأنّه مع كونه اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب ، أتى بشريعة كافلة لسعادة الناس وسيادتهم وجاء بكتاب فيه هدى ونور ، وتضمن من الحقائق والمعارف ما لا يقف عليه حتى الأوحدي من الناس فضلاً عمّن لم يقرأ ولم يكتب ، وهذا برهان رسالته ودليل صلته باللّه وكونه مبعوثاً ومؤيداً منه تعالى.
    ولو كان المراد منه ما زعمه القائل من كونه مكياً وأنّه وليد ذلك البلد ، لكان الاتيان به في ثنايا تلك الأوصاف والخصال اقحاماً بلا وجه واقتضاباً بلا جهة.
    وإن شئت قلت : لو كان المراد من الاُمي ما ذكرناه لكان فيه إشارة إلى أنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) مع كونه باقياً على الحالة التي ولد عليها ، قد أتى بكتاب عجز الناس عن تحدّيه ، وكلّ البلغاء عن معارضته ، وخرس الفصحاء لديه ، مضافاً إلى ما فيه من المعارف الالهية والحقائق العلمية والدساتير والقوانين الاجتماعية والاقتصادية في شؤون الحياة الانسانية ومسائلها المعقدة ، وهذا دليل على صدق دعوته ، وأنّه مبعوث من عنده تعالى ، وهذه النكتة تفوتنا إذا فسرناه بأنّه مكي ووليد الحرم والبلد الأمين إذ ليس في كونه مكياً أي امتياز حتى ينوّه به.
    وإلى ما ذكرنا يشير قوله عزّ وجلّ : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الاُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَ الحِكْمَةَ وَ إِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلال مُبِين ) ( الجمعة ـ 2 ).
    فإنّ توصيف النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بأنّه منهم ( أي من الاُمّيين ) للاشارة إلى أنّه مع كونه اُمّياً مثلهم يعلّمهم الكتاب والحكمة ، وما ذلك إلاّ لكونه مؤيداً منه تعالى بروح تعاضده وموجهاً بتوجيهه لارتقاء تلكم المدارج ، فالآية من قبيل اتيان الشيء ببيّنته وبرهانه.


(308)
    نعم ورد في بعض المأثورات حول تفسير الاُمّي انتسابه إلى اُم القرى ، وسوف نرجع إلى هذه الروايات بالإيراد والمناقشة في اسنادها ومضامينها.

الرأي الثاني :
    2 ـ ما اختاره الدكتور عبد اللطيف الهندي في مقاله المومى إليه فقال : الاُمّي من لم يعرف المتون العتيقة السامية ، ولم ينتحل إلى ملّة أو كتاب من الكتب السماوية والشاهد عليه أنّ اللّه جعل الاُمّي في الكتاب العزيز ، مقابل أهل الكتاب فيستظهر منه أنّ المراد منه هي الاُمّة العربية الجاهلة بما في زبر الأوّلين من التوراة والانجيل غير منتحلة إلى دين أو ملة لا من لا يقدر على التلاوة والكتابة.
    أقول : ما ذكره الدكتور زلّة وعثرة لا تستقال فإنّ اطلاق الاُمّيين على العرب المشركين ليس « بسبب جهلهم بالمتون السامية ، وإن كانوا عارفين بلسان قومهم قادرين على تلاوته وكتابته » كما حسبه الدكتور ، بل بسبب جهلهم بقراءة لغتهم وكتابتها لأنّ الثقافة العربية بمعنى قراءة اللغة العربية وكتابتها ، كانت متدهورة في العصر الجاهلي وكانت الاُمّية هي السائدة ولا يسودهم في تلكم الظروف شيء غيرها وكانت القدرة على القراءة والكتابة محصورة في ثلّة قليلة لا يتجاوز أفرادها عدد الأصابع.
    فهذا الإمام البلاذري أتى « في فتوح بلدانه » بأسماء الذين كانوا عارفين بالقراءة والكتابة في العهد الجاهلي فما تجاوزت عدتهم عن سبعة عشر رجلاً في « مكة » وعن أحد عشر نفراً في « يثرب » وقال : اجتمع ثلاثة نفر من طي بـ « بقة » وهم مرامر بن مرة وأسلم بن سدرة ، وعامر بن جدرة فوضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية ، فتعلّمه منهم قوم من أهل الأنبار ثم تعلّمه أهل الحيرة من أهل الأنبار وكان بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن الكندي ، ثم السكوني صاحب دومة الجندل ، يأتي الحيرة فيقيم بها الحين وكان نصرانياً فتعلم « بشر » الخط العربي من أهل الحيرة ثمّ أتى مكة في بعض شأنه فرآه سفيان بن اُمية بن عبد شمس وأبو قيس بن عبد


(309)
مناف بن زهرة بن كلاب يكتب فسألاه أن يعلّمهما الخط فعلّمهما الهجاء ، ثمّ أراهما الخط فكتبا ، ثمّ إنّ بشراً وسفيان وأبا قيس أتوا الطائف في تجارة فصحبهم غيلان بن سلمة الثقفي فتعلّم الخط منهم وفارقهم بشر ، ومضى إلى ديار مضر ، فتعلّم الخط منه عمرو بن زرارة بن أعدس فسمّي عمرو الكاتب ، ثمّ أتى بشر الشام فتعلّم الخط منه ناس هناك وتعلّم الخط من الثلاثة الطائيين أيضاً رجل من طابخة كلب ، فعلّمه رجل من أهل وادي القرى فأتى الوادي يتردد فأقام بها وعلّم الخط قوماً من أهلها ـ إلى أن قال : ـ فدخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلاً كلّهم يكتب ، عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالبو ... (1).
    وهذا ابن خلدون يحكي في مقدمته ، أنّ عهد قريش بالكتابة والخط العربي لم يكن بعيداً بل كان حديثاً وقريباً بعهد الرسول فقد تعرفوا عليها قبيل ظهور الإسلام حيث قال في الفصل الذي عقده لبيان أنّ الخط والكتابة من عداد الصنايع الانساية :
    كان الخط العربي بالغاً مبالغه من الأحكام والاتقان والجودة في دولة التبابعة ، لما بلغت من الحضارة والترف وهو المسمّى بالخط الحميري وانتقل منها إلى الحيرة لما كان فيها دولة آل المنذر بسبأ التبابعة إلى أن قال : ومن الحيرة لقّنه أهل الطائف وقريش فيما ذكر ، يقال إنّ الذي تعلّم الكتابة من الحيرة هو سفيان بن اُمية ويقال حرب بن اُمية وأخذها من أسلم بن سدرة وهو قول ممكن وأقرب ممن ذهب إلى أنّهم تعلّموها من أياد أهل العراق وهو بعيد ، لأنّ اياداً وإن نزلوا ساحة العراق فلم يزالوا على شأنهم من البداوة ، والخط من الصنايع الحضرية فالقول بأن أهل الحجاز إنّما لقنوها من الحيرة ولقنها أهل الحيرة من التبابعة وحمير ، هو الأليق من الأقوال (2).
    فإذا كان هذا مبدأ تعرفهم بالكتابة والقراءة وكان هذا مقياس ثقافتهم وتعرفهم عليها في المنطقتين ( مكة والمدينة ) فما ظنك بهم في المناطق الاُخرى ، نعم كانت الربوع
    1 ـ فتوح البلدان ص 457.
    2 ـ مقدمة ابن خلدون ص418 ، طبع بيروت ، الطبعة الرابعة.


(310)
المختصة باليهود والنصارى ، تزدحم بأحبارهم وحفّاظ كتبهم ، فكانت القراءة والكتابة رائجتين بينهم ، لمسيس حاجتهم إلى معرفة كتابهم وما فيه من الطقوس والسنن.
    فإذا ألممت أيها الباحث ولو إلمامة عابرة بروح ذلك العصر ، ووقفت على ما كان يسود في تلكم الظروف والبيئات ، لقضيت بأنّ المراد من الاُمّي حتى في ما استعمل عند أهل الكتاب هو العاجز عن القراءة والكتابة بقول مطلق كقوله سبحانه : ( وَ قُلْ لِلَّذِينَ اُوتُوا الكِتبَ وَ الاُمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ ) ( آل عمران ـ 20 ) ويوضح ما ذكرناه قوله سبحانه : ( وَ مِنْهُمْ اُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إِلاّ أَمَانِيَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ ) ( البقرة ـ 78 ) (1) فالآية بحكم رجوع الضمير ( ومنهم ) إلى اليهود ، تقسم اليهود إلى طائفتين ، طائفة يعلمون الكتاب ، واُخرى طائفة اُمّية لا تعلم من الكتاب شيئاً بل تتخيله أمانياً فقد أطلق الاُمّي في هذه الآية على بعض أهل الكتاب بملاك جهله بكتابه ، قراءة وكتابة ، ولكن الجهل بالكتاب الذي نزل بلسانه ولسان قومه يلازم الجهل بسائر اللغات طبعاً.
    فهذا الكتابي بما أنّه لا يحسن القراءة والكتابة قط ، اُمّي كالعربي الاُمّي بلا تفاوت.
    وقصارى ما يمكن أن يقال : إنّه ليس للاُمّي إلاّ مفهوم واحد وضع له وضعاً واحداً ، غير أنّ مفهومه يختلف حسب اختلاف الظروف والبيئات ، حسب اختلاف الاضافات والنسب ، فالاُمّي في أجواء الكتابيين عبارة عمّن لا يعرف لغة كتابه فلو قيل : ذلك الكتابي اُمّي فالمقصود منه بقرينة لفظ « الكتابي » كونه اُمّياً بالنسبة إلى كتابه الذي ينتحل إليه ، كما أنّ الاُمّي في البيئات العربية عبارة عمّن لا يحسن العربية قراءة وكتابة وهكذا ...
    وبناء على ذلك فالاُمّيون في قوله سبحانه : ( ومنهم اُمّيون لا يعلمون الكتاب إلاّ أمانيّ ) عبارة عن الطائفة الجاهلة بالمتون السامية من أهل الكتاب ، لا يحسنون تلاوتها
    1 ـ هذه الآية بما أنّها تقسّم أهل الكتاب والمنتحلين إليه إلى طائفتين اُمّية وغير اُمّية ، تبطل ما ادعاه الدكتور من أنّ الاُمّي عبارة عن من لم ينتحل إلى الدين ولم ينسب إلى ملّة.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس