مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 291 ـ 300
(291)
إلى الروح ، ديناً وسطاً بين الماديّة البحتة والروحية المحضة ، فقد آلف بتعاليمه القيمة بينهما ، موالفة تفي بحق كل منهما ، بحيث يتيح للانسان أن يأخذ قسطه من كل منهما بقدر ما تقتضيه المصلحة.
    وذلك أنّ المسيحية غالت في التوجه إلى الناحية الروحية ، حتى كادت أن تجعل كل مظهر من مظاهر الحياة المادية خطيئة كبرى ، فدعت إلى الرهبانية والتعزّب وترك ملاذ الحياة والانعزال عن المجتمع ، والعيش في الأديرة وقلل الجبال ، وتحمل الظلم والرفق مع المعتدين ، كما غالت اليهودية في الانكباب على المادة حتى نسيت كل قيمة روحية ، وجعلت الحصول على المادة بأي وسيلة كانت ، المقصد الأسنى ، ودعت إلى القومية الغاشمة والطائفية الممقوتة.
    وهذه المبادئ سواء أصحت عن الكليم والمسيح ( عليهما السَّلام ) أم لم تصح ( ولن تصح إلاّ أن يكون لاصلاح انغمار الشعب الاسرائيلي في ملاذ الحياة يوم ذاك وانجائهم عن التوغل في الماديات وسحبهم إلى المعنويات بشدة وعنف ) وإن شئت قلت : « كانت تعاليمه اصلاحاً مؤقتاً لاسراف اليهود وغلوهم في عبادة المال حتى أفسد أخلاقهم وآثروا دنياهم على دينهم والغلو يقاوم موقتاً بضده » (1). لا تتماشى مع الحضارات الانسانية التقدمية ولا تسعدها في معترك الحياة ، ولا تتلائم مع حكم العقل ولا الفطرة السليمة.
    لكن الإسلام جاء لينظر إلى واقع الانسان ، بما هو كائن ، لا غنى له عن المادة ، ولا عن الحياة الروحية ، فأولاهما عنايته ، فدعا إلى المادة والالتذاذ بها بشكل لا يؤثر معه على الحياة الروحية ، كما دعا إلى الحياة الروحية بشكل لا يصادم فطرته وطبيعته.
    وحصيلة البحث : أنّه لم يعطل الفطرة في تشريعه وتقنينه ، بل جعلها مقياساً لحكمه بالوجوب والتحريم ، فإذا كان الحكم مطابقاً لطبع من شرعت له الأحكام حافظاً لكيانه ، لا يتعارض مع ما يحتاج إليه جسمه وروحه ، كان ماضياً ونافذاً حسب بقاء الفطرة ودوامها.
    1 ـ الوحي المحمدي ص 153.

(292)
    وأمّا تفصيل الآيات التي تمثل رأي الإسلام في الدعوة إلى الدين والدنيا ، إلى الروح والجسم ، إلى المادة والمعنى ، فليرجع فيه إلى الكتب المعدة لبيان ذلك.
    ونختم البحث بكلمة عن أمير المؤمنين ( عليها السَّلام ) حيث قال : للمؤمن ثلاث ساعات ، ساعة يناجي فيها ربّه ، وساعة يرم فيها معاشه ، وساعة يخلي بينه وبين نفسه ولذاتها (1).
    فقد قرن بين عبادة اللّه وطلب الرزق وترفيه النفس ، بحيث جعل الجميع في مستوى واحد ، فندب إلى عبادة اللّه ، كما ندب إلى طلب المعاش ، وتوخي اللذة بحكم واحد بلا مفاضلة.
    فلو كان أداء الصلاة والصوم والقيام بالحج وظيفة دينية ، فشق الطريق لطلب الرزق والمعاش ، والقيام بالنزهة بين الرياض أو سباحة في البحر والعمل الرياضي البدني ، وظيفة دينية للمؤمن ، كما نص الإمام ( عليها السَّلام ) .
    وهذا من الاُسس التي تنسجم مع الإسلام وتحول بينه وبين التصادم مع الحضارات المتواصلة ، إلى عصرنا هذا ، فإذا كان المنهج ، منهجاً متوسّطاً بين المادية والروحية ، مطابقاً لفطرة الانسان انقادت له مقاليد الحضارات الانسانية الصاعدة وارتفع التصادم.

2 ـ النظر إلى المعاني ، لا المظاهر :
    إنّ الإسلام ينظر إلى المعاني والحقائق ، لا المظاهر والقشور ، ولذلك لا تجد في الإسلام مظهراً خاصاً من مظاهر الحياة ، له من القداسة ما يمنع تغييره ، ويوجب حفظه إلى الأبد بشكله الخاص ، ولأجل ذلك لا يقع التصادم بين تعاليمه مع التقدم العلمي الهائل في مظاهره ، وأشكاله الخارجية.
    توضيحه : أنّه لا شك أنّه كان في زمن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) هندسة خاصة للمساكن
    1 ـ نهج البلاغة باب الحكم ، رقم 390.

(293)
والبيوت ، وشكل خاص في المأكل والملبس ، ونمط خاص لبث العلم والتربية ... غير أنّ الذي كان يهم الإسلام ـ في جميع الأزمنة ـ لم يكن تخطيط الحياة البشرية على تلك الأشكال والأنماط بل كان الحقيقة والجوهر من كل ذلك ، فإنّ الذي يبتغيه الدين الإسلامي هو وجود المسكن وتوفر الملبس وإشاعة العلم والتربية ، وكون الغذاء حلالاً طيباً طاهراً.
    وأمّا الكيفية والشكل والصورة فلا يهم الدين ولا يحدد شيئاً في مجاله ، فليكن البيت بأيّة هندسة كانت ، ولتصنع الملابس بأي شكل كان ، وليطبخ الناس طعامهم على النحو الذي يريدون ، وليشاع العلم بأيّة وسيلة كانت فليس كل ذلك مهماً ومطروحاً للدين.
    وهذا هو سر خاتمية الدين الإسلامي وهذا هو سر خلوده ، وتمشّيه مع تطور الحياة ، وتقدم الحضارات.
    والذي يوقفك على ذلك أنّ بيع الدم وشراءه كان من المعاملات المحرّمة ومصداقاً لقوله سبحانه :
    ( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِل ) ( البقرة ـ 188 ).
    وذلك لعدم وجود منفعة محلّلة للدم ولذلك قال الشيخ الأعظم الأنصاري في مكاسبه ( ص41 ) :
    « تحرم المعاوضة على الدم بلا خلاف » بل عن النهاية وشرح القواعد لفخر الدين والتنقيح : « الاجماع عليه ، وتدل عليه الأخبار ».
    بيد أنّ تقدم العلوم والحضارة أوجد للدم منفعة محلّلة كبيرة ، فعليها تقوم « العملية الجراحية » ومداوة الجرحى عن طريق الحقن الدموية.
    ولهذا عادت المعاملة بالدم ـ في هذا العصر ـ معاملة صحيحة ، لا بأس بصحّتها وجوازها ... وليس هذا من قبيل منسوخية الحكم بل لتبدّل الحكم بتبدّل موضوعه كتبدل الخمر إلى الخل.


(294)
    وقس على ذلك سائر الاُمور فللإسلام خاصية الاهتمام باللب والجوهر في عامة المجالات وهذا أحد العناصر التي تجعله يساير عامة الحضارات الإنسانية إلى قيام يوم الدين.

3 ـ الأحكام التي لها دور التحديد :
    من الأسباب الموجبة لمرونة هذا الدين وانطباقه على جميع الحضارات الانسانية تشريعه للقوانين الخاصة التي لها دور التحديد والرقابة بالنسبة إلى عامة تشريعاته وقد اصطلح عليها الفقهاء ، بالأدلّة الحاكمة ، لأجل حكومتها وتقدمها على كلّ حكم ثبت لموضوع بما هو هو. فهذه القوانين الحاكمة ، تعطي لهذا الدين مرونة يماشي بها كل حضارة انسانية ، مثلاً : قوله سبحانه :
    ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج ) ( الحج ـ 78 ) حاكم على كل تشريع استلزم العمل به حرجاً ، لا يتحمل عادة ، للمكلف ، فهو مرفوع ، في الظروف الحرجية ، ومثلاً قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « لا ضرر ولا ضرار » فكل حكم استتبع العمل به ضرراً شديداً ، فهو مرفوع في تلك الشرائط ، وقس عليهما غيرهما من القوانين الحاكمة.
    نعم تشخيص الحاكم عن المحكوم ، وما يرجع إلى العمل بالحاكم من الشرائط ، يحتاج إلى الدقة والامعان والتفقّه والاجتهاد ، ومن رأينا أنّ الموضوع يحتاج إلى التبسط أكثر من هذا ، فالى مجال آخر أيها القارئ الكريم.

خاتمة المطاف :
    إنّ بعض الكتّاب من الجدد طرح سؤالاً في المقام وجاء بجواب مبهم أوجد قلقاً واستياء في الأوساط العلمية ونحن ننقله بتعريب منّا :
    السؤال : إنّكم تذهبون إلى ضرورة التكامل حتى في وجود الشخص النبي وأثبتم أنّ كل موجود يحتاج إلى السير التكاملي ، إذن لماذا كان النبي محمد يقول : أنا خاتم النبيين؟


(295)
    الجواب : لقد أجاب على قسم من هذا الفيلسوف الإسلامي الكبير « محمد اقبال » وأضيف أنا الجواب على بقيته ، وهو ما أذهب إليه وأنا مسؤول عنه ، فأقول : عندما يقول النبي : « أنا خاتم الأنبياء » لا يريد أن يقول : « إنّ التشريعات التي أتيت بها تكفي البشرية إلى الأبد » بل الخاتمية تريد أن تقول : كان الانسان يحتاج حتى الآن ـ لاستمرار حياته إلى الهداية بما وراء ما يستمده من عقله وما توحيه تربيته البشرية ، والآن في هذا العصر ( القرن السابع الميلادي ) وبعد أن أوجدت المدنية اليونانية وحضارة روما والتمدّن الإسلامي ، وبعد أن اُنزل القرآن والإنجيل والتوراة ، بلغت التربية المذهبية إلى الحد الذي كان لابد منه. وبعد هذا العصر ـ وعلى ضوء هذا القسم من التربية ـ بإمكان الانسان أن يحيى ويتكامل من دون حاجة إلى وحي ونبوّة جديدة وعلى هذا ختمت النبوّة فشقّوا الطريق بأنفسكم.
    ولم يظهر لنا ماذا قصد من هذا الجواب وإليك بعض احتمالاته :
    1 ـ أن يقصد من قوله : « لا يريد أن يقول انّ التشريعات التي أتيت بها تكفي البشرية إلى الأبد » ما أوضحناه عند البحث عن السؤال الخامس ، من أنّه يجب على علماء الاُمّة وفقهائهم عندما يحدث شيء من المشكلات والأزمات في جميع مجالات الحياة من الحوادث التي لم تكن معهودة في عصر صاحب الرسالة ، استفراغ الوسع في استنباط أحكامها على ضوء الكتاب والسنّة واطار سائر المصادر الشرعية ، فلو أراد هذا فهو حق لا إشكال فيه غير أنّ تلك النظرية لا تختص به ولا بالفيلسوف الإسلامي « محمد اقبال » حتى يكون هو المسؤول فيما ذهب إليه واختار ، بل كل مسلم يؤمن بأنّ الإسلام شريعة اللّه الخالدة الدائمة الكاملة الوافية بحل جميع اُمور الحياة ومشاكلها من اُصولها إلى فروعها.
    2 ـ أن يكون المقصود منه الاعلام بختم النبوّة والرسالة دون ختم التشريع فهو مفتوح لم يوصد بعد ، فعلى الاُمّة أن تشرّع من القوانين حسب ما تحتاج إليه عبر الزمان.


(296)
غير أنّ تلك فكرة عليها مسحة مسيحية محجوجة بما دلّت الضرورة والأدلّة على أنّ التشريع من حقوق اللّه سبحانه على عباده لم يفوّضه لأحد من أفراد الاُمّة.
    3 ـ أن يكون المقصود أنّ هنا أحكاماً ثابتة ومقررات متغيّرة ، حسب مقتضيات الزمان ومصالح الوقت ، فلو أراد ذلك فقد أوضحنا حاله عند البحث عن السؤال الرابع فلاحظ.
     هذه هي الخاتمية ، ودلائلها المشرقة ، وشبهاتها الضئيلة ، وأسئلتها الهامة ، وأجوبتها الرصينة عرضناها للبحث والتنقيب ، ولم يكن رائدنا إلاّ تبنّي الحقيقة وكشف الغطاء عن وجهها ، متحررين من كل رأي سابق لا دليل عليه.


(297)
الفصل الخامس
النبي الاُمّي
في الذكر الحكيم
    لم يختلف اثنان من الاُمّة الإسلامية في أنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كان اُمّياً لا يحسن القراءة والكتابة قبل بزوغ دعوته لمصلحة صرّح اللّه بها في الكتاب العزيز وسوف يوافيك بيانها. وصحائف حياته البيضاء أوضح دليل على ذلك ، وقد أجمع أهل السير والتاريخ على أنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يدخل مدرسة ولم يحضر على أحد للدراسة وتعلّم الكتابة ، بل هو منذ نعومة أظفاره ، يوم كان في أحضان جده وعمّه إلى أن بلغ الأربعين ، لم يحم حول هذه الاُمور وقد تواترت على ذلك كلمات العلماء الأبرار والفطاحل من أئمّة الإسلام ، وقد اقتفوا في ذلك أثر كتاب اللّه العزيز ودونك نصوصه من مواضع مختلفة.
     النص الأوّل قوله سبحانه :
    ( وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَاب وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( العنكبوت ـ 48 ) سبحان اللّه ما أصرح كلامه وأوضح دلالته.


(298)
    هل تجد من نفسك ريباً في أنّه بصدد نفي تلاوة أي كتاب عن نبيّه الأكرم قبل نزول الوحي عليه ، وكتابة أي صحيفة عنه ، أوليس من القواعد الدارجة بين أئمّة الأدب ، أنّ النكرة في سياق النفي تفيد انتفاء الحكم عن كل أفرادها وتعطي شمول السلب كقوله سبحانه : ( وَمَنْ يُهِنِ اللّهُ فَمالَهُ مِنْ مُكْرِم ) ( الحج ـ 18 ) وقد قال سبحانه : ( وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ) فأدخل النفي على النكرة وجعلها في سياقه ، فإذن المراد من التلاوة المنفية تلاوة مطلق الكتاب كما أنّ المراد من الخط المنفى عنه تسطير أي كتاب وترسيم أي صحيفة تقع في ذهن السامع ، فالضمير المتصل بالفعل ( لاتخطه ) عائد إلى ( كتاب ) وكأنّه جل شأنه قال وما كنت تخط كتاباً. وقد وافاك أنّ مثل هذا الكلام لوقوع النكرة في سياق النفي يفيد عموم النفي فاللّه سبحانه نفى عن نبيه ، مطلق التلاوة والكتابة قبل بعثته.
    ثم إنّه عزّ اسمه ، علّل سلب هذا الأمر عن نبيّه بمصلحة أولى وألزم ، وهي نفي ريب المبطلين وشك المشككين ، إذ لو كان الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في برهة من عمره تالياً للكتب ، وممارساً للصحف ، لساغ للبسطاء من اُمّته والمعاندين منهم أن يرتابوا في رسالته وقرآنه ، ويلوكوا في أشداقهم بأنّ ما جاء به من الصحف والزبر والسور والآيات ، إنّما تلقّاها من الصحف الدينية وقد صاغها وسبكها في قوالب فصيحة ، تهتز منها النفوس وترتاحإليها القلوب ، فليست لما يدّعيه من نزول الوحي على قلبه ، مسحة حق أو لمسة صدق.
    وقد حكى سبحانه هذه الفرية الشائنة عن بعض المشركين فقال سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُو ظُلْماً وَزُوراً * وَ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان : 4 ـ 5 ) فاللّه سبحانه لقلع جذور الشك عن قلوب السذج من الاُمّة ، والمبطلين منهم ، صرفه عن تعلّم الكتابة حتى يصبح لنبيّه أن يتلو على رؤوس الاشهاد قوله سبحانه : ( قُلْ لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( يونس ـ 16 ).


(299)
    يعني يا معشر العرب : أنتم تحيطون خبراً بتاريخ حياتي فإنّي تربيّت بين ظهرانيكم ولبثت فيكم عمراً يناهز الأربعين ، فهل رأيتموني أتلو كتاباً أو اخط صحيفة ، فكيف ترمونني بالافك الشائن : بأنّه أساطير الأوّلين اكتتبتها ، ثم افتريتها على اللّه ، وأعانني على ذلك قوم آخرون.
    فلو لم يكن النبي اُمّياً لا يحسن القراءة والكتابة بل كان قارئاً وكاتباً وممارساً لهما على رؤوس الأشهاد ، لما أمكن له أن يتحدى الاُمّة العربية وفي مقدمتهم صناديد قريش بقوله : ( قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّموَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً ) ( الفرقان ـ 6 ). فلأجل تحقيق هذه المصلحة المهمة ، نشأ النبي في أحضان قومه وشب وترعرع إلى أن ناهز الأربعين وهو اُمّي لا يحسن القراءة والكتابة ، ولو كان وقتئذ قارئاً وكاتباً وهم اُمّيون لراجت شبهتهم في أنّ ما جاء به نتيجة اطلاع ودرس وأثر نظر في الكتب.
    وجاء المفسرون في المقام بكلمات درية وجمل موضحة للمراد فقال أمين الإسلام في تفسير الآية : « اللام » في قوله : ( إذاً لارتاب المبطلون ) للقسم وفي الكلام حذف ، تقديره : ولو خططته بيمينك أو تلوت قبله كتاباً إذاً واللّه لارتابوا ، والمعنى لو كنت تقرأ كتاباً أو تكتبه لوجد المبطلون طريقاً إلى إيجاد الشك في أمرك والقاء الريبة لضعفة الناس في نبوّتك ولقالوا : إنّما تقرأ علينا ما جمعته من كتب الأوّلين فلما ساويتهم في المولد والمنشأ ثمّ أتيت بما عجزوا عنه وجب أن يعلموا أنّه من عند اللّه تعالى وليس من عندك ، إذ لم تجر العادة أن ينشأ الانسان بين قوم يشاهدون أحواله من صغره إلى كبره ، ويرونه في سفره وحضره ، لا يتعلّم شيئاً من غيره ، ثم يأتي من عنده بشيء يعجز الكل عنه وعن بعضه ويقرأ عليهم أقاصيص الأوّلين (1).
    1 ـ مجمع البيان ج 4 ص 287.

(300)
نظريات شاذة للدكتور الهندي
    ثم إنّ الدكتور عبد اللطيف الهندي المعاصر ـ في مقال خاص له حول اُمّية النبي الأعظم ـ رأياً شاذاً وقد ألقى مقاله هذا باللغة الانكيلزية في المؤتمر الإسلامي المنعقد في حيدر آباد عام ( 1964 ) فخرق الاجماع المسلّم بين طوائف المسلمين على أنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كان اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب ، وخالف الرأي العام وقال إنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يكن اُمّياً لا يحسن القراءة والكتابة بل كان يقرأ ويكتب في حداثة سنّه إلى اُخريات أيّامه (1) ولما رأى أنّ تلك النظرية تخالف النص الصريح في القرآن الكريم جاء يتأوّل ظاهر الآية تأويلاً بارداً وقال ما هذا حاصله :
    المراد من الكتاب في قوله : ( وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ) إنّما هو الكتب السماوية نظائر التوراة والانجيل النازلة بغير اللغة العربية فلم يكن النبي عارفاً بتلكم اللغات ولا قادراً على تلاوتها وهو غير القول بأنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يكن قارئاً ولا كاتباً حتى باللغة العربية التي هي لسان قومه وبيته.
    ولا أدري ماذا حمل الكاتب على هذا التأويل إذ لو كان المراد نفي معرفته بهذه الكتب المعينة ، لما صح له أن يقول : ( من كتاب ) بل كان عليه أن يقول : ما كنت تتلو من قبله الكتاب أو الكتب مشيراً باللام إلى الكتاب أو الكتب المعهودة وقد أتى باللام فيما قصد نفي العرفان بالكتب السماوية عنه فقال تعالى : ( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَ لا الإِيمَانُ وَلكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِرَاط مُسْتَقِيم ) ( الشورى ـ 52 ).
    وقال عزّ شأنه : ( وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مِنْ هَؤلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ ) ( العنكبوت ـ 47 ).
    1 ـ وقد تأثر في نظره عن رجال الكنيسة والتبشير ، قال الحداد في كتابه ـ القرآن والكتاب ـ ص 410 محمد لم يكن اُمّياً بل تاجراً دولياً ومثقفاً ومطّلعاً وبحاثة دينياً ...
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس