مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 381 ـ 390
(381)
10 ـ التنبّؤ حول اليهود والنصارى :
    من عجائب التنبؤات القرآنية وغرائبها ، تحدّيه اليهود بأبسط الأشياء وأسهلها ومطالبته إيّاهم بما هو ميسور لهم في كلّ وقت وحين ، وفي متناول قدرتهم ، ودائرة استطاعتهم في كل زمان ، ومع ذلك عجزوا عن تكذيبه وانصرفوا عن مخالفته ، وهذا يدل قبل كلّ شيء على أنّ القرآن كلام من بيده القلوب والضمائر.
    قال سبحانه : ( قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوا المَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَوة وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَة وَ مَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَ اللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْلَمُونَ ) ( البقرة : 94 ـ 96 ).
    لما زعم اليهود أنّهم الشعب المختار عند اللّه ، وأنّ الدار الآخرة خالصة لهم كما تحكي عنه الآية ويدل عليه أيضاً قوله سبحانه : ( وَ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلاّ أَيَّاماً مَعْدُودَة ) ( البقرة ـ 80 ).
    عرض عليهم سبحانه ، رداً على مقالهم ( انّ نعيم الآخرة وقف على الشعب المختار ، وانّ الدار الآخرة خالصة لهم ) أن يتمنّوا الموت جناناً ولساناً وعملاً ، فإنّ الانسان بفطرته إذا خيّر بين العيش الخالص عن التعب والألم ، والعيش الممزوج بألوان العذب والكد ، يختار الأوّل ، ولا ريب أنّ عيش الآخرة هو العيش الخالص عن شائبة التعب ، فلو أنّهم يزعمون أنّهم صادقون في ما يقولون بألسنتهم من أنّ لهم الدار الآخرة ، وأنّهم الاُمّة المختارة من بين شعوب الناس بالحياة الدنيا ، يجب أن لا يكونوا أحرص الناس على الحياة الدنيا ، بل يلزم عليهم تمنّي الموت تمنّياً صادقاً ، تظهر آثاره في حياتهم وتقلبهم بين الناس.
    غير أنّ التاريخ والحس يقضيان بخلاف ما يدّعونه ، وأنّهم أحرص الناس على


(382)
الحياة وكل واحد منهم يودّ لو يعمّر ألف سنة ، وما تمنى ولن يتمنّى أحد منهم الموت أبداً تمنّياً تلوح منه آثار الصدق ، لا أقول إنّهم ما تمنّوا تلفّظاً ولقلقة باللسان ، بل تمنّياً من صميم الروح ، تظهر آثاره على الجوارح والأفعال ، ولذلك قال سبحانه :
    ( قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَولِياءُ للّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوا المَوتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللّهُ عَلَيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) ( الجمعة : 6 ـ 7 ).
    نعم إنّ الزرقاني فسّر الآية على وجه يشمل التمنّي باللسان وقال : « ولقد كان بمقدور اليهود في العادة أن يقولوا ولو بألسنتهم نحن نتمنّى الموت كي تنهض حجّتهم على محمد ويسكتوه ، لكنّهم صرفوا فلم يقولوا ولم يستطع أحد أن يقول : إنّي أتمنّى الموت » (1) ، غير أنّ ما ذكره خلاف ظاهر الآية فإنّ التمنّي حالة نفسانية للنفس ، واللفظ الدال عليه معبر عمّا في الضمير ، ولا يطلب القرآن منهم التمنّي الكاذب ولا يدعوهم إليه بل التمنّي الصادق الكاشف عن الإرادة الجدية والطلب الحقيقي له ، مع ظهور آثاره في حياة المتمنّي وسلوكه ...
    ثمّ إنّ القرآن تنبّأ بانهزام اليهود في مضمار الحرب والنضال مع النبي والمسلمين قال سبحانه :
    ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَ بِئِسَ المِهَاد ) ( آل عمران ـ 12 ).
    قال الطبرسي : روى محمد بن يسار عن رجاله : لما أصاب رسول اللّه قريشاً ببدر وقدم المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع فقال : يا معشر اليهود احذروا من اللّه مثلما نزل بقريش يوم بدر ، واسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم ، وقد عرفتم أنّي نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم ، فقالت اليهود : يا محمد لا يغرّنك أنّك لقيت قوماً اغماراً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة ، إنّا واللّه لو قاتلناك لعرفت إنّا نحن الناس فأنزل اللّه هذه
    1 ـ مناهل العرفان ج2 ص 276.

(383)
الآية (1) ، ولقد صدق الخبر ، الخبر ، فغلب النبي على من في الجزيرة من اليهود فضلاً عن خصوص القانطين منهم في المدينة.
    ثمّ إنّ في القرآن تنبّؤات بالمستقبل المظلم الأسود الذي لم يزل يواكب بعضها اليهود طيلة أربعة عشر قرناً من نزول القرآن إلى يومنا هذا ، لم ينخرم أي واحد منها أبداً ، وذلك قوله سبحانه : ( لَنْ يَضُرُّوكُمْ إلاَّ أَذىً وَ إِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُم الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ * ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إلاَّ بِحَبْل مِنَ اللّهِ وَ حَبْل مِنَ النَّاسِ وَ باءُو بِغَضَب مِنَ اللّهِ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ذِلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّهِ وَ يَقْتُلُونَ الأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَق ذِلِكَ بِمَا عَصَوا وَ كَانُوا يَعْتَدُونَ ) ( آل عمران : 111 ـ 112 ).
    وفي هاتين الآيتين تنبّؤات :
    1 ـ إنّ هذا الشعب الماكر اللئيم ، لا يمكنه القيام بحرب مواجهة ومقابلة الند للند ، وإنّما يقع ضررهم على المسلمين عن طريق الغدر والمكر.
    2 ـ ولو قاتلوا المسلمين لولّوهم الأدبار.
    3 ـ ضرب عليهم الذل كضرب السكة على الدينار والخيمة على الانسان ، نعم كتب عليهم الذل والهوان إلاّ إذا تمسّكوا بحبل من اللّه ودخلوا في عهد منه أو عهد من الناس يستعينون بهم ويستظلّون بظلالهم.
    4 ـ ضربت عليهم المسكنة وهي زي الفقر والخوف منه ، وفيهم من يملك آلاف الآلاف وليس فيه غنى النفس ، فهم أشد الشعوب خوفاً من الفقر ، وأشدها طمعاً وشرها في جمع الدنيا ، لا يعرفون القناعة وإن غرقوا في المال ، ولا يتورّعون عن الجري وراء الدنايا ، بأحط الوسائل.
    5 ـ حلول غضب اللّه عليهم كما يعطيه قوله : ( وباءو بغضب من اللّه ) .
    والمراد من الضمير المتصل من قوله : ( لا يضروكم ) وإن كان هو أهل الكتاب ،
    1 ـ مجمع البيان ج1 ص 413.

(384)
الوارد في الآية المتقدمة ، غير أنّ المقصود منه هم اليهود بلا كلام لما في ذيل الآية التالية من تعليل ضرب الذل والمسكنة عليهم بقتلهم الأنبياء وهو من فعل اليهود.
    ويؤيده قوله سبحانه ، في شأن اليهود : ( اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ المَسْكَنَةُ وَ بَاءُوا بِغَضَب مِنَ اللّهِ ذِلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيرِ الحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَ كَانُوا يَعْتَدُونَ ) ( البقرة ـ 61 ) وبذلك يظهر أنّ ما يقال من عمومية الآية ، لمطلق أهل الكتاب ، أخذاً بمفاد الضمير المتصل ، الراجع إلى أهل الكتاب ، المذكور في الآية السابقة ، ليس بسديد.
    وقد تنبأ سبحانه بقوله : ( لن يضرّوكم إلاّ أذى وإن يقاتلوكم يولّوكم الأدبار ) بما جرى بين المسلمين وطوائف من اليهود من « بني النضير وقريضة وقينقاع » فحاربوا المسلمين ولم يثبتوا بل استسلموا ، وهو تنبّؤ صادق شهد به التاريخ الصحيح ، بل يمكن أن يكون تنبّأ بعامة ما جرى بينه وبين اليهود أيام حياته ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فهو قد طهّر الجزيرة العربية من هذه العناصر الماكرة ، أعداء اللّه وأعداء الانسانية في مدة قليلة ولم ينصروا بعد قط.
    والمراد من الاستثناء في قوله سبحانه : ( لن يضرّوكم إلاّ أذى ) هو الضرر اليسير الذي ليس فيه كبير تأثير من سب باللسان وخوض في النبي ، وقد تحقق المخبر به كما أخبر في تطهير أرض المدينة وما حولها من الطوائف الثلاث الذي اسميناهم ، فلم ينالوا من المسلمين إلاّ سبّاً باللسان أو ضرراً قليلاً كما هو الحال في غزوة خيبر على ما هو مسطور في السير والتاريخ ، ومفاد الآية راجع إلى عصر الرسالة فقط كما أوضحنا ، ويفيده التدبر في الآية وفي الضمائر الواردة فيها من قوله : ( لن يضرّوكم و ... ) (1).
    وأما الآية الثانية المتضمّنة لضرب الذلة والمسكنة عليهم فربّما يحتمل اختصاص مفادها بعصر الرسالة غير أنّه محجوج بأمرين :
    1 ـ قال الطبرسي ففي هذه الآية دلالة على صحة نبوّة نبينا ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لوقوع مخبره على وفق خبره لأنّ يهود المدينة من بني قريضة والنضير وبني قينقاع ويهود خيبر الذين حاربوا النبي والمسلمين لم يثبتوا لهم قط وانهزموا ( مجمع البيان ج1 ص 488 ).

(385)
    الأوّل : إنّ المتبادر من قوله سبحانه : ( ضربت عليهم الذلّة ) في كلتا الآيتين هو العموم والشمول وكأنّه يريد أن يقول : عجنت طينتهم بالذل والهوان والمسكنة ولا تنفك عن تلكم الطائفة في أي جيل و زمان.
    الثاني : انّه سبحانه علّل ضرب الهوان والذل والمسكنة عليهم بأمرين : أحدهما : الكفر بآيات اللّه وهو مشترك بين الجميع. وثانيهما : وهو يرجع إلى أسلافهم وأجدادهم ، من قتل الأنبياء ولكن اليهود المعاصرين لعصر الرسالة لما رضوا بفعالهم وعملهم الشنيع ، صاروا مثلهم « فإنّ من رضي بفعل قوم فهو منهم » فأسند سبحانه الفعل إليهم أيضاً ، فضرب الذلة على جميعهم من أوّلهم إلى آخرهم. ولو كان هذا هو الملاك لضرب الذل على يهود عهد الرسالة فهو بعينه موجود في الباقين بعده إلى زماننا هذا ، ولا وجه لاختصاص الذل والمسكنة ببعضهم دون بعض ، إذ ليس الهوان أو المسكنة ، إلاّ جزاءً ونكالاً من اللّه سبحانه بالنسبة إلى هذه الطائفة ، فهم بين مقترف لأشد المعاصي وأهولها ، وبين راض بما ارتكبه قومه من الجنايات الموبقة ، فكل من الطائفتين يعاقب ويؤخذ بجزاء عمله كما قال سبحانه : ( لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَ قَتْلَهُمُ الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقّ وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيدِيكُمْ وَ أَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّم لِلْعَبِيد ) ( آل عمران : 181 ـ 182 ).
    وقد أثبتت القرون والأجيال صدق ما تنبّأ به القرآن من لدن نزوله إلى عصرنا ، ولكي نتحقق من ذلك لا بد من الرجوع إلى التاريخ : « فها هو « بخت نصر » دخل أورشليم وقاد أكثر أهلها أسرى وكان ذلك عام 587 ق.م وفي سنة 302 ق.م أثقل ملوك سوريا كواهل اليهود بالضرائب واضطهدوهم.
    وأمّا إضطهادهم بعد الإسلام فكثير ، فقد أجلى النبي « بني قينقاع » « وبني النضير » وقتل « بني قريظة » لما تآمروا عليه كما هاجمتهم جميع الاُمم المسيحية فلم يجدوا ملجأ إلاّ الأندلس حيث أحاطهم اُمراء الإسلام بعطف خاص ، لكن عندما احتل النصارى الأندلس أخذوا بتشريد اليهود وطردهم وإجبارهم على مغادرة البلاد الإسبانية ، وقد


(386)
وقع كثير منهم في أيدي القراصنة الذي انتشروا حول الشواطئ فجرّدوهم من أموالهم واتخذوهم عبيداً ارقّاء.
    هذا ما عدا الذين ماتوا جوعاً أو اُصيبوا بالطاعون فأهلكهم ثم لجأ ثمانون ألفاً إلى البرتغال ارتكاناً إلى وعد ملكها ، لكن القساوسة الأسبانيين أثاروا الرأي العام في تلك البلاد ضدهم ، وعمدوا إلى اقناع ملك البرتغال بعدم إيوائهم ، فأصدر أمراً يقضي بابعاد جميع اليهود البالغين ، أمّا الأولاد الذين لا تتجاوز سنهم أربعة عشر عاماً فقد انتزعوا من أحضان اُمّهاتهم لكي يربوا وينشأوا على مبادئ الدين المسيحي.
    ولم يقتصر الغربيون على طرد اليهود من أسبانيا والبرتغال فقط بل طردوا وشردوا من انجلترا ، فرنسا ، بلجيكا ، هولندا ، ايطاليا ، ألمانيا ، روسيا و ... » (1).
    أي ذل وهوان أوضح من هذا الذي صادفوه طيلة القرون الغابرة إلى يومنا هذا ، كل ذلك مضافاً إلى تنفّر الناس عن كل يهودي ماكر ، وإسرائيلي لئيم ، وابتعادهم عنهم في حلّهم وترحالهم ، لما هم عليه من الغدر والمكر والشره والطمع وعدم اندماجهم مع غيرهم وعدم وفائهم للذين استضافوهم وآزروهم ، لما يظنون أنّهم شعب يمتاز على الشعوب التي يعيشون بينها ، وأنّهم يحق لهم اغتصاب حقوق الغير أخذاً بتعاليم التلمود حيث يعبّر عن املاك غير اليهود بـ « أنّه كالمال المتروك الذي يحق لليهودي أن يملكه ».
    هذا وذاك أوجب بأن يعلن القرآن منذ أربعة عشر قرناً بأنّه سبحانه يبعث عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة حيث قال سبحانه : ( وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ العَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العِقَابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( الأعراف ـ 167 ).
    فقضى اللّه سبحانه أنّه ليسلّطنّ على بني اسرائيل إلى يوم القيامة من يذيقهم أشد العذاب ، جزاء لهم على أعمالهم ونكالاً بهم ، فكما هو سبحانه سريع الصفح عن ذنب التائب ، فهو أيضاً سريع العقاب.
    1 ـ راجع لمعرفة تفصيل ذلك كتاب « اليهود في القرآن » 94 ـ 96.

(387)
إجابة عن سؤال
    إلى هنا يكون قد تبيّن صحة تنبّؤ القرآن حول اليهود ، وأنّه ما تخلف طيلة أربعة عشر قرناً ، قدر شعرة غير أنّ هنا سؤالاً ، يوجهه الشباب حول الآية وهو أنّه كيف وصفهم اللّه بضرب الذل والهوان عليه مع أنّه استقرّت لهم السيادة في الأراضي المحتلة فجمعوا من العدة والعدد ما أوجب نجاحهم في هذه المعارك الرهيبة لا سيما في نكسة الخامس من حزيران ، وتمكن الاجابة عن هذا السؤال بوجوه :
     الجواب الأوّل :
    إنّ مشيئة اللّه سبحانه في خلقه وعباده تجري على وفق القوانين والسنّن الكونية ولا تختلف باختلاف الاُمم ، فالعارف بفن السباحة ـ مثلاً ـ يعوم ويصل إلى شاطئ الأمان والجاهل بها يرسب ويكون عرضة للهلاك ، ومن زرع حصد ومن لم يزرع لم يحصد ، والإيمان لا ينبت قمحاً والكفر لا ينبت شوكاً في هذه الحياة ، وكذلك من أعدّ العدّة لعدوّه واحتاط له ، ظفر به وإن كان ملحداً ، إذا لم يكن الآخر على حذر واستعداد ، ومن تقاعس وأهمل خسر ، وإن كان من الأولياء والصديقين ، قال تعالى مخاطباً أصحاب الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بالآية 46 من الآنفال : ( وَ لا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرينَ ) وقال الإمام علي ( عليها السَّلام ) : « إنّ هؤلاء ـ يشير إلى أصحاب معاوية ـ قد انتصروا باجماعهم على باطلهم وخذلتم ـ الخطاب لأصحابه ـ بتفرّقكم عن حقّكم » ، إذن الحق لا ينتصر لمجرد أنّه حق ، والباطل لا يخذل لمجرد انّه باطل ، بل هناك سنن في هذه الحياة تسير المجتمع ، وتتحكّم به ، واللّه سبحانه لا يسقطها ولا يعطّل سيرها ، تماماً كما هو شأنه في سنن الطبيعة ، انّ اللّه سبحانه قد خلق الحياة وجعل لها قوانين تحكمها ، وتأبى هذه القوانين أن تمطر السماء نصراً على غير العاملين له.
    وعليه فلا عجب أن تغتال الصهيونية جزءً من أرضنا بمعونة الاستعمار مادمنا في


(388)
غفلة عنها وعن مقاصد أعوانها منقسمين إلى دويلات لا جامع بينها إلاّ لفظ العرب والعربية (1).
    إنّ للسعادة والشقاء والحضارة والتقدّم والتدهور والانحطاط ، قوانين وسنن لا تنفك عنها آثارها ومسبباتها ومن دق باباً ولج ولج ، من غير فرق بين اُمّة واُمّة أو طائفة دون اُخرى ، انّ نكسة الخامس من حزيران والاحتلال الصهيوني للأراضي المقدسة الإسلامية ، كان نتيجة عمل طويل واعداد متواصل من قبل اليهودية العالمية التي تلاقت أهدافها مع مصالح الاستعمار في الشرق الأوسط من جانب ، ومع الفساد السياسي الاجتماعي الشامل الذي كان المسلمون يعيشون فيه من جانب آخر ، فالعدوّ تمسّك بأقوى وسائل القهر والغلبة ، وأعد نفسه للتقابل مع المسلمين في معارك صعبة قرابة قرن ، وتحمّل في طريقه جهوداً وبذل من نفسه وماله الكثير ، وأمّا المسلمون ففي القرن الذي كان العدوّ يجمع العدة والعدد ، ويتجهّز بالعلم والصنعة وتربية الخبراء ومهرة الفن ، كانوا يعيشون في فرقة ونفاق ، يضطهد بعضهم بعضاً ، مضافاً إلى ما يعانون من ميوعة وخيانة وإنحلال في الأخلاق ، والمشي على المخططات التي رسمها لهم الأعداء المصبوغة بطابع الود والاحسان.
    وعلى ذلك فلا غرو في أن يحتل العدو الغاشم جزءً كبيراً من أرضنا ويترصد لأخذ جزء آخر ، وإذن الظهور والغلبة لهم والنكسة للعرب جاءت على وفق القوانين والسنن التي تحكم على الحياة.
    إذا عرفت ما ذكر ، فالجواب عن السؤال واضح بعد الإمعان في الآية التالية : ( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْل مِنَ اللّهِ وَ حَبْل مِنَ النَّاسِ وَ بَاءُو بِغَضَب مِنَ اللّهِ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المَسْكَنَةُ ) ( آل عمران ـ 112 ).
    ترى أنّه سبحانه حكم بضرب الذل والهوان عليهم ثمّ استثنى عنه بقوله : ( إلاّ بحبل من اللّه وحبل من الناس ) وفي الوقت نفسه حكم بضرب المسكنة عليهم بلا
    1 ـ من هنا وهناك ص 42 ـ 43.

(389)
استثناء.
    وبعبارة اُخرى : ترى أنّه سبحانه استثنى من احاطة الذل والهوان صورتين : إذا تمسّكوا بحبل من اللّه ، وإذا تمسّكوا بحبل من الناس ، وبهذين السببين يمكن أن يدفعوا عن أنفسهم الذل والهوان ، والمراد من الحبل هو العهد (1) فلو دخلوا في عهد اللّه وهو الإسلام ودفعوا الجزية وعملوا بشرائط الذمة وتركوا الغدر والحيلة مع المسلمين فسيعود لهم العز كسائر الذمّيين ، ويعاملون بالمساواة ، وتصان دماؤهم وأعراضهم وأموالهم ، ويذاد عنهم كما يذاد عن غيرهم ، ولو تمسّكوا بحبل من الناس واستعانوا باحدى الاُمم ممّن له منعة وقدرة يتيسر لهم بواسطتها أن يطردوا عن أنفسهم الذل والهوان ، ويستحصلوا على العز والقدرة ما داموا كذلك.
    ولا شك أنّ اُمّة اليهود ما احتلت أرضاً ، وما كسبت سلطاناً ، وما أدركت عزّاً إلاّ بحبل من الناس ومساعدة من الاُمم الكبرى ممّن توافقت أهدافهم العالمية مع مصالح العدو الطريد (2).
    « إنّ إسرائيل ليست سوى قاعدة عسكرية مزودة بكافة الأسلحة الحديثة ، اقامتها الولايات المتحدة ، لحماية مصالحها في بلاد العرب ، وأهمّها شركات البترول التي يحتاج بقاؤها والاحتفاظ بها ، إلى نصف مليون جندي امريكي لولا وجود اسرائيل ... فليس من المعقول أن تكون للولايات المتحدة شركات احتكارية في بلد من البلدان ولا يكون إلى جانبها قاعدة حربية أو حلف عسكري يحميها من الثورات والحركات الوطنية ، وقد وجدت في إسرائيل غنى عن القواعد والأحلاف » (3).
    أضف إلى ذلك أنّ إسرائيل وإن اُسّست باسم الدين وصبغت بالصبغة الشريعة
    1 ـ سمّي حبلاً لأنّه يعقد به الأمان كما يعقد الشيء بالحبل.
    2 ـ قال الطبرسي في تفسير قوله : ( إلاّ بحبل ) أي بعهد من اللّه وحبل من الناس أي وعهد من الناس على وجه الذمة وغيرها من وجوه الأمان ، مجمع البيان ج1 ص 488.
    3 ـ من هنا وهناك ص 99.


(390)
إلاّ أنّ كثيراً منهم لا يمتون إلى الدين بشيء ، ولا صلة بينهم وبين دين اليهود ، فحكومتهم حكومة ذات نزعة عنصرية طائفية ، مدفوعة بكونهم من أولاد إسرائيل واخلافهم سواء أكانوا مؤمنين بدينه أم كافرين به ، ملتزمين بأحكام التوراة أم لا ، وما تنبّأ به القرآن إنّما هو راجع إلى اليهود الذين آمنوا بشريعة اسرائيل وما بعده إلى موسى والتزموا باُصول دينهم وفروعه ، ووقفوا في وجه سائر الشرائع ، متنسّكين بشريعة ، وليست اسرائيل ومن يعيش في أرضها ، يمثلون هؤلاء ، فهي دولة مادية صبغة باسم الدين وطابعه كما هو واضح لمن لاحظ كتبهم وجرائدهم ومجلاّتهم ، وعلى كل حال فخذلان بني اسرائيل التي يحتّمها القرآن إنّما تكون حتمية فيما لو وقفوا تجاه المسلمين بما هم يدينون بدين اليهود ، لا بما أنّهم يتعصّبون إلى يهوديتهم تعصّباً عنصرياً أعمى من غير تدين.
     الجواب الثاني :
    ربّما يجاب عن الإشكال بوجه آخر وهو أنّ المراد من ضرب الذلة عليهم القضاء التشريعي بذلتهم ، والدليل على ذلك قوله : ( أين ما ثقفوا ) فإنّ ظاهر معناه أينما وجدهم المؤمنون أي تسلطوا عليهم ، وهو يناسب الذلة التشريعية التي من آثارها الجزية فيؤول معنى الآية إلى أنّهم أذلاّء ، بحسب حكم الشرع الإسلامي إلاّ أن يدخلوا تحت الذمّة أو أمان من الناس بنحو من الأنحاء (1).
    غير أنّ هذا الجواب لا يلائم ظهور الآية فإنّ القضاء التشريعي بذلتهم لا يختص بتلكم الطائفة بل يعم أهل الكتاب جميعاً ، وقد أوضحنا أنّ الآية مختصة باليهود.
     الجواب الثالث :
    إنّ القرآن وإن تنبّأ بضرب الذلّة والمسكنة على اليهود ، غير أنّه تنبّأ أيضاً بعود القدرة والمنعة إليهم في فترة من الزمن ، مرتين فيفسدون في الأرض ، إلى أن يقيّض اللّه
    1 ـ الميزان ج3 ص 384.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس