مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 391 ـ 400
(391)
رجالاً اُولي بأس شديد ، ينتقم منهم ، ودونك الآيات في سورة الإسراء :
    ( وَ قَضَيْنَا إِلى بَنِي إِسْرءِيلَ فِي الكِتبِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً ) .
    ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ اُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا اُولي بَأْس شَدِيد فَجَاسُوا خِللَ الدِّيَارِ وَ كَانَ وَعْداً مَفْعُولاً ).
    ( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوال وَ بَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً ).
    ( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لاَِنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّة وَ لِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوا تَتْبِيراً ) .
    ( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَ إِنْ عُدْتُّمْ عُدْنَا وَ جَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرينَ حَصِيراً ) ( الإسراء : 4 ـ 8 ).
    فإنّ الآيات تعرب عن افساد الطائفة المذكورة في الأرض مرتين وانتقام اللّه سبحانه منها بعد كل فساد تقوم به ، ويدل على الفساد الأوّل قوله سبحانه : ( فإذا جاء وعد اُولاهما ) وعلى الفساد الثاني قوله عزّ وجلّ : ( فإذا جاء وعد الآخرة ).
    أمّا الانتقام الأول فيدل عليه قوله سبحانه : ( بعثنا عليكم عباداً لنا اُولي بأس شديد فجاسوا خل ـ ل الديار ).
    أمّا الانتقام الثاني فيدل عليه قوله تعالى : ( ليسوءُوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا ) (1).
    ثمّ إنّ المفسرين مالوا يميناً وشمالاً في تفسير هذه الآيات ولم يأتوا بأمر مقنع تطمئن إليه النفس ودونك بعض ما ذكروه من الوجوه :
    1 ـ المراد من الفساد الأوّل قتل يحيى بن زكريا ، ومن الانتقام غلبة بخت نصر مع
    1 ـ الضمائر كلّها ترجع إلى « عباد اُولي بأس شديد » المحاربين لليهود.

(392)
النبطيين على بني اسرائيل ، والمراد من الفساد الثاني غلبة بني اسرائيل على النبطيين مرة ثانية ولم يذكروا المراد من الانتقام الثاني.
    2 ـ الفساد الأوّل هو قتل زكريا والثاني هو قتل يحيى بن زكريا ، والانتقام الأوّل تسلّط « سابور » ذي الاكتاف ، والانتقام الثاني هجوم « بخت نصر » على اليهود.
    3 ـ المراد من الفساد الأوّل قتل زكريا وغيره من الأنبياء وبالانتقام الأوّل تسلّط « بخت نصر » على اليهود ، والمراد من الفساد الثاني طغيان اليهود بعد اخذ استقلالهم على يد كوروش ، ومن الانتقام الثاني ما وقع بيد « انطياخوس » ملك الروم (1).
    وهذه الوجوه وأضرابها مما يحصل من تركيب بعضها مع بعض لا يمكن الركون إليها فإنّها منقولة عن اناس كانوا يأخذون ما يقولونه عن أحبار اليهود وعلمائهم فهي قصص اسرائيلية يجب تنزيه القرآن عنها.
    أضف إلى ذلك أنّ لفظي : ( بعثنا عليكم عباداً لنا ) يعرب عن مكانة المنتقمين عند اللّه وأنّهم مبعوثون من جانبه سبحانه وهم عباد ممدوحون له ، وهل يمكن عد نظراء بخت نصر ، ذلك الكافر السفّاك الأثيم الذي اقترف من الجرائم ما لا يعد ولا يحصى ، أو سابور ذي الاكتاف ذلك الرجل القاسي المجرم الذي فعل مع العرب ما فعل ، أو انطياخوس واضرابه ، من العباد الممدوحين وأنّهم كانوا مبعوثين من جانبه سبحانه.
    ويليه في الضعف ما يقال انّ المراد من الفساد الأوّل قتلهم أشعيا النبي ، والانتقام الأوّل تسلط جالوت على بني اسرائيل ، ومن الفساد الثاني هو غلبة بني اسرائيل على جالوت.
    أو ما يقال من أنّ المراد من أحد الانتقامين ما جرى بيد ادولف هتلر من الاُمور القاسية ، كما اختاره سيد قطب في ظلال القرآن.
    إذ كيف يمكن أن يقال أنّ جالوت وعملاق ألمانيا أو غيرهم من الجبابرة كانوا
    1 ـ تفسير الطبري ج15 ص 38 ، ومجلة الهادي العدد الثاني.

(393)
مبعوثين من جانبه سبحانه ، فقد حارب جالوت داود ومن معه من صالحي بني اسرائيل وكما حارب طالوت الذي بعثه اللّه ملكاً ، وأمّا عملاق ألمانيا فحدث عن جرائمه ولا حرج.
    وما يقال إنّه لما كان تسلّط بخت نصر وقهره لهم جزاء لهم على أعمالهم السيئة فأسنده سبحانه لنفسه وقال : بعثنا عليكم عباداً لنا (1) توجيه لا تركن إليه النفس ، ونضيف إلى ما ذكر أنّ كل هذه الوجوه لا تلائم ظاهر الآية لاستلزامها التفكيك بين مراجع الضمائر إذ الظاهر أنّ الضمائر الغائبة في : ( ثمّ رددنا لكم الكرّة عليهم ) وفي : ( ليسُوءُوا ) و : ( ليدخلوا ) و : ( دخلوا ) و : ( ليتبروا ) يرجع إلى من وصفهم اللّه بقوله ثم : ( بعثنا عليكم عباداً لنا اُولي بأس شديد ) ولازم ذلك اتحاد الفئة التي تحارب اليهود في المرة الاُولى مع الفئة المتغلبة عليهم في المرة الثانية ، وإن هناك حربين تقعان بين اليهود وجماعة خاصة ، لا أنّ كل واحد من الحربين تقع مع جماعة غير الجماعة الاُخرى.
    وهذا الأمر غير موجود في الوجوه التي ذكروها إذ لم يقع أي إشتباك مجدد بين اليهود وبخت نصر ، أو بينهم وبين سابور ، ولم تصدر كرّة منهم عليهم مجدداً ، أضف إلى ذلك أنّ ظاهر قوله سبحانه وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرة أنّ المحاربين لليهود يدخلون المسجد مرتين ويتسلّطون على المسجد الأقصى كما يستفاد من تعريفه باللام ، مرة بعد مرة ، مع أنّ بخت نصر وسابور لم يتسلّطا على المسجد أكثر من مرة ، وما دخلوه أكثر منها.
    وعلى الجملة : انّ هذه الوجوه لا تلائم ظاهر الآية ويحتمل أن تكون الآيات مشيرة إلى الأحداث الجارية في الأراضي المحتلة ، ويعلم اللّه سبحانه أنّ أي واحد من الوعدين تحقق ، وأنّ الوضع الحاضر يمثل أيّاً منهما ولا شك أنّهم مزوّدون بالأموال والبنين مضافاً إلى دعم الدول العالمية الكبرى لهم ، وبعد ذلك كلّه فما ذكرناه إنّما هو أحد الآراء
    1 ـ الميزان ج1 ص 40.

(394)
المذكورة حول الآية ، ولسنا حاكمين بواحد من هذه الوجوه ، واللّه سبحانه هو العالم.
    وعلى أي حال فالتوفيق سهل بين ضرب الذلّة والهوان عليهم ، وبين ما ترى فيهم من القوة والمنعة ، والأوّل من هذه الوجوه هو الأولى.

ختامه مسك :
    فلنختم البحث بتنبّؤات وردت في آية واحدة وهي قوله سبحانه : ( وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا اُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً ) .
    1 ـ ( وَ أَلْقَيْنَا يَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَ البَغْضَاءَ إِلى يَوْمِ القِيامَةِ ).
    2 ـ ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ ).
    3 ـ ( وَ يَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ ) ( المائدة ـ 64 ).
    ودونك بيانها على وجه الاجمال.
    1 ـ الظاهر أنّ الضمير في « بينهم » راجع إلى اليهود المذكورين في صدر الآية وما في المنار (1) من رجوعه إلى اليهود والنصارى المذكور في الآية الحادية والخمسين بعيد جداً بل كان الأولى له عندئذ أن يقول انّه راجع إلى أهل الكتاب الوارد ذكرهم في الآية التاسعة والخمسين ، أي قوله : ( قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إلاّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ ... ) فالآية حاكية عن تضارب اليهود بعضهم ببعض واختلافهم في المذاهب إلى يوم القيامة ، ويفسره قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الكِتَابَ وَ الحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَ رَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَ فَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العَالَمِينَ * وَ آتَيْنَاهُمْ بَيِّنَات مِنَ الأمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إلاّ مِنْ بَعْدِ
    1 ـ ج6 ص 457 ، ولو رجع الضمير إلى الاُمتين فلا مانع أيضاً أن يكون المراد تضارب بعض الفرق من كل اُمة مع الاُخرى كتضارب اليهود بعضهم ببعض وتضارب الفرقة الكاثوليكية مع البروتستانت ، أو النسطورية والملكانية واليعقوبية من اُمّة المسيح بعضهم مع بعض.

(395)
مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( الجاثية : 16 ـ 17 ).
    والفرق بين العداوة والبغضاء أنّ الاُولى عبارة عن البغض الذي يظهر أثره في الخارج ، وأمّا البغضاء فهو مطلق المنافرة وإن لم يستعقب شيئاً من العمل.
    هذا إذا قلنا برجوع الضمير إلى اليهود فقط ، وأمّا إذا قلنا بمقالة المنار من رجوعه إلى اليهود والنصارى فالعداوة بينهم غير منقطعة ، وأوضحه صاحب المنار بقوله : « العدواة على أشدها في بلاد روسيا على أقلها في انكلترا وفرنسا والمانيا واليهود أغنى أهلها والمديرون لأرحية أعظم الأعمال المالية فيها ، وهم على مكانتهم هذه مبغوضون في جماهير النصارى ، فكم اُلّفت كتب في فرنسا وغيرها في التحريض عليهم ، قال : « قد أخبرني ألماني من المستشرقين أنّهم لايعدون اليهودي من بلاده منهم بل يقولون هذه يهودي وهذا ألماني » (1).
    نعم تنبّأ القرآن في آية اُخرى باغراء اللّه سبحانه العداوة والبغضاء بين النصارى إلى يوم القيامة قال سبحانه : ( وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً ممّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاَء إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون ) ( المائدة ـ 14 ) والعداوة بين فرق النصارى أشد وأوضح لمن زاولهم وطالع كتبهم.
    وفي الوقت نفسه فإنّ الآيتان تنبئان عن بقاء دينهم إلى يوم القيامة وهو تنبّؤ آخر تضمّنته الآيتان ، فلاحظ.
    2 ـ قوله سبحانه : ( كلّما أوقدوا ناراً للحرب ... ) فالحرب ضد السلم وهو أعم من القتال والقتال يصدق بالاخلال بالأمن والنهب والسلب وتهييج الفتن والاغراء بالقتال ، وقد أغرى اليهود المشركين بالنبي والمؤمنين وهم الذين حزّبوا الأحزاب على
    1 ـ المنار ج 6 ص 457.

(396)
رسول اللّه ، حتى قدموا على قريش مكة وقالوا : إنّا سنكون معكم عليه ، حتى نستأصله ، فقالت لهم قريش : يا معشر يهود ، إنّكم أهل الكتاب الأوّل والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد أديننا خير أم دينه؟قالوا : بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه (1).
    بل منهم من سعى لتحريض الروم على غزوهم ومنهم من كان يقطع الطريق على المؤمنين ويأوي أعداءهم ويساعدهم ككعب الأشراف.
    ويمكن أن تكون الآية ناظرة إلى الأعمال الإجرامية التي كانوا يرتكبونها قبل الميلاد وبعده ثم ضد المسلمين.
    والمراد من الاطفاء خذلانهم في كل ما يكيدون لرسوله وللمؤمنين ، امّا بخيبتهم في ما يسعون إليه من الاغراء والتحريض ، وامّا بنصر اللّه رسوله والمؤمنين وعلى أي تقدير ، المراد خيبة مساعيهم في الحروب التي يوجهونها على دين اللّه ورسوله والمؤمنين ، بما هم متدينون ومؤمنون باللّه وآياته ، وأمّا الحروب والنيران التي يوقدونها لا لمحق الدين بل لأغراض سياسية ، أو تغلب جنسي ، فهي خارجة عن مساق الآية.
    قال الطبرسي : وفي هذا دلالة ومعجزة لأنّ اللّه أخبر فوافق خبره المخبر عنه ، فقد كانت اليهود أشد أهل الحجاز بأساً وأمنعهم داراً حتى أنّ قريشاً كانت تعتضد بهم والأوس والخزرج تستبق إلى محالفتهم وتتكثر بنصرتهم ، فأباد اللّه خضراءهم واستأصل شأفتهم واجتث أصلهم ، فأجلى النبي بني النضير وبني قينقاع وقتل بني قريظة وشرّد أهل خيبر وغلب على فدك ، ودان له أهل وادي القرى فمحى اللّه آثارهم صاغرين (2).
    3 ـ قوله سبحانه : ( ويسعون في الأرض فساداً ) فليس الهدف من تقلبهم في البلاد ، السعي وراء صالح الأعمال والأخلاق ، أو اصلاح شؤون الاجتماع ، بل لا
    1 ـ سيرة ابن هشام ج1 ، ص 54 و 55و214.
    2 ـ مجمع البيان ج2 ص 221.


(397)
يستهدفون إلاّ منع خروج المسلمين من الاُمية إلى العلم ، ومن الوثنية إلى التوحيد ، وهم يحسدونهم في ذلك حباً في دوام امتيازهم عليهم.
    وقد قرر القرآن هذه الحقيقة منذ أربعة عشر قرناً غير أنّا نحسها في يومنا هذا بوضوح ، فإنّ من مخططاتهم تقويض الأخلاق عند الغير ، لأضعافه والسيطرة عليه ، وهل الإباحية والخلاعة إلاّ أحد مخططاتهم التي تتجلى في الأفلام السينمائية والمرابع والحانات وحتى في الساحات العامة.
    وفسره سبحانه في آية اُخرى وقال : ( وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( المائدة ـ 62 ).
     ملاحظة :
    هذه هي الأخبار الغيبية الواردة في القرآن ولم نعرضها على وجه التفصيل والاستقصاء ، وإنّما جئنا بها على وجه الاجمال وفي ما ذكرناه غنى وكفاية.
    قل لي بربّك هل انخرم واحد من تلكم الأخبار أو تخلّف ، أو كلّها غيب تحققت في المستقبل ، كما أنّ ما سألوا عنه حول أصحاب الكهف وذي القرنين والروح غيب أما تحقق في الماضي أو جار فيه ، وفي الحال كما في السؤال عن الروح وقد أجابهم عن ما سألوه ولم يكن عنده شيء يستند إليه سوى الوحي ، ولم يكذّبوه فيما حدثهم.
    وكل واحد من هذه الانباء معجزة كبرى ولو عددت كل ما ورد في الكتاب من الانباء الغيبية على أقسامها ، تبين لك عدد تلكم المعجزات ، ويزيدك اعجاباً بها إذا وقفت على أنّ المتحدث بها اُمّي ربيب البادية لم يحضر على أحد في شيء من تلكم الأخبار والمغيبات.
    ويزيدك اعجاباً أكثر أنّ انجيل « متى » تنبّأ بأمر واحد حول المسيح وهو أنّه يبقى مدفوناً في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال ، ولكن ما برح انجيل « متى » أن كذّب في


(398)
أواخره هذا الإخبار فوافق الأناجيل الثلاثة الاُخر على أنّ المسيح في مساء ليلة السبت طلب بعض الناس جثته من بيلاطس فأنزلها عن الصليب وكفّنها ودفنها ، وقبل الفجر من يوم الأحد قام المسيح من الموت ، وخرج من قبره ، وعلى ذلك لا يكون المسيح بقي في القبر إلاّ ليلة السبت ونهاره وليلة الأحد ، وذلك نهار وليلتان (1).
    ( إنّ في ذلك لآيات لاُولى النهى ).
    1 ـ مقدمة آلاء الرحمن للعلامة البلاغي.

(399)
الفصل السابع
اختصاص العلم بالغيب
باللّه سبحانه
    لقد ورد لفظ الغيب في الذكر الحكيم ، مع بعض مشتقاته أربعاً وخمسين مرة ، وقد عرفت بما أسلفناه ما هو المراد من الغيب ، غير أنّا نريد في المقام أن نتحدث عن ناحية اُخرى لها تعلّق به ، وهي أنّه هل الغيب مختص باللّه سبحانه لا يعدو غيره أو غير مختص به ويتصف به سواه؟!
    والقول الفصل في المقام هو أنّ العلم بالغيب على ضربين :
    أحدهما : ما هو مختص باللّه سبحانه لا يشاركه فيه غيره ، ولا يتجاوز إلى سواه ، وأنّ ما جاء في الذكر الحكيم من الاشارة إلى علم الغيب ، لا يراد منه إلاّ هذا ، فقوله سبحانه : ( قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّموَاتِ وَالأرْضِ الغَيْبَ إِلاّ اللّهُ ) ( النمل ـ 65 ) لا يراد منه إلاّ هذا المعنى المختص به تعالى كسائر أوصافه ونعوته.
    ثانيهما : ما يتصف به غيره سبحانه من ملائكته ورسله ومن يظهره على غيبه ، وهذا لا يصح اطلاقه على اللّه سبحانه ، وهذا الانقسام كما يجري في علم الغيب كذلك


(400)
يجري في سائر نعوته وصفاته من قدرته وحياته و ... فما يجري منها على الواجب سبحانه لا يمكن تشريك الغير فيه ، ولا يصح اطلاقه عليه ، وما يجري على من سواه لا يصح اطلاقه عليه سبحانه ، ولا يطلق إلاّ على غيره من المخلوقين ، فلنذكر ما يدل على اختصاص العلم بالغيب بالمعنى الأول والذي يمكننا استفادته منه وجوه :

1 ـ قصره على اللّه سبحانه في بعض الآيات :
    فمن الآيات الدالّة على الحصر به قوله سبحانه : ( وَ عِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاّ هُوَ ) ( الانعام ـ 59 ) وقوله تعالى : ( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمواتِ وَ الأرْضِ الغَيبَ إلاّ اللّه ) ( النمل ـ 65 ).
    وأمّا قوله سبحانه : ( فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ للّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ المُنْتَظِرينَ ) ( يونس ـ 20 ).
    وقوله تعالى : ( وَ للّهِ غَيْبُ السَّموَاتِ وَ الأرْضِ وَ مَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاّ كَلَمْحِ البَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) ( النحل ـ 77 ) وقوله سبحانه : ( وَللّهِ غَيْبُ السَّموَاتِ وَالأرْضِ وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ ) ( هود ـ 123 ) ، فلا يدل على مانحن بصدده.
    إذ المقصود من قوله : ( إنّما الغيب للّه ) هي الآيات الباهرات والمعجزات التي يستدل بها على نبوّة المدعي وصلته به سبحانه ، وذلك ظاهر لمن أمعن النظر في سياق الآيات. وأمّا قوله سبحانه : ( وللّه غيب السموات والأرض ) فالمراد منه : أنّ الحكومة المطلقة في السماوات والأرض غيبهما وشهادتهما ، باطنهما وظاهرهما ، للّه سبحانه ، وأنّه تعالى يملك غيب السماوات والأرض ملكاً لا حدود له ، وله أن يتصرّف فيه كيف يشاء كما يملك شهادتهما ، وكيف لا وغيب الشيء لا يفارق شهادته وهو موجود ثابت معه ، وله الخلق والأمر؟!
    ويؤيده ذيل الآية ، وهو قوله : ( وَ مَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاّ كَلَمْحِ البَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَب ) والمعنى أنّ الساعة الموجودة ، ليست بأمر محال حتى لا تتعلّق بها قدرة ، بل هي من غيب
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس