مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 401 ـ 410
(401)
السماوات والأرض ، وحقيقتهما المستورة عن الافهام ، في هذا الزمان ، فهي مما استقر عليه ملكه تعالى ، وله أن يتصرف فيه بالاخفاء تارة وبالاظهار اُخرى ، وليست بصعبة عليه تعالى ، فإنّما أمرها كلمح البصر أو أقرب من ذلك لأنّ اللّه على كل شيء قدير.
    ومن ذلك يظهر المقصود من قوله سبحانه : ( وللّه غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كلّه ) فإنّ الآيتين متقاربتان في المعنى والمقصد ، ومفاد صدر الآية : يعني كونه سبحانه مالكاً لغيب السماوات ، علّة لذيلها أعني قوله سبحانه : ( وإليه يرجع الأمر كلّه ) ورجوع الكل إليه ، من غيب السماوات والأرض ، ومن يملك غيبهما قادر على إرجاع الاُمور إليه.
    ونظيره قوله سبحانه : ( قُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّموَاتِ وَ الأرْضِ ) ( الكهف ـ 26 ) والمعنى إذا كان سبحانه مالكاً لغيب السماوات والأرض بحقيقة معنى الملك ، وله كمال البصر والسمع ، فهو أعلم بما لبثوا!!.

2 ـ ما يستفاد منه الحصر بمعونة القرائن :
    وهناك آيات يستفاد منها الحصر بمعونة القرائن وهي كثيرة مثل قوله في بدء الخليقة عند تفنيد مزعم الملائكة : ( أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّموَاتِ وَ الأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) ( البقرة ـ 33 ) فالآية بصدد تنزيهه سبحانه عن الجهل وترفيعه على من سواه بصفة تختص به سبحانه ولا يشاركه فيها غيره ، وقوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّموَاتِ وَ الأرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور ) ( فاطر ـ 38 ) وقوله سبحانه : ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ ) ( المائدة ـ 109 ) والصيغة في المقام للتكثير لا للمبالغة نظير قوله سبحانه : ( ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّم لِلْعَبِيد ) ( آل عمران ـ 182 ) والمراد من اللفظين في كلا الموردين هو الانتساب إلى المبدأ أعني الغيب والظلم فيؤول المعنى إلى أنّه المنسوب إلى علم الغيب فقط دون غيره ، أو أنّه لا صلة بينه وبين الظلم.


(402)
    كقول امرؤ القيس :
وليس بذي رمح فيطعنني به وليس بذي سيف وليس بنبال
    أي وليس بصاحب نبل ، ولا صلة ونسبة بينه وبين النبل أبداً.
    وقد ورد توصيفه سبحانه بهذا اللفظ في الذكر الحكيم أربع مرات (1) ووزان هذا القسم من الآيات ، وزان قوله سبحانه : ( عَالِمُ الغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ وَ هُوَ الحَكِيمُ الخَبِير ) ( الأنعام ـ 73 ) وقوله : ( ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالمِ الغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ ) ( التوبة ـ 94 ) وقوله : ( وَ سَتُرَدُّونَ إِلَى عَالمِ الغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( التوبة ـ 105 ) إلى غير ذلك مما يبلغ توصيفه في الذكر بهذا النحو عش (2) ر مرات ، فإنّ الظاهر من هذا التوصيف بهذه الكثرة هو اختصاصه سبحانه بالعلم بالغيب والشهادة ، على نحو لا يشاركه غيره.

3 ـ سلب العلم بالغيب عن غيره :
    هذا القسم من الآيات يدل بالملازمة العرفية على اختصاصه به سبحانه ، مثل قوله سبحانه : ( وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَ مَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إلاَّ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ لِقَوم يُؤْمِنُونَ ) ( الأعراف ـ 188 ) ، ( وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْب ) ( هود ـ 31 ) (3).
    ومن هذه الوجوه الثلاثة يستفاد اختصاص العلم بالغيب به سبحانه وأنّه لا يشاركه فيه غيره ، غير أنّ اختصاصه به سبحانه على الوجه اللائق بساحته لا ينافي إمكان إطلاع الغير على الغيب باذن منه سبحانه.
    1 ـ المائدة 109 و116 ، التوبة 78 ، سبأ 48.
    2 ـ الأنعام 73 ، التوبة 94 ، و 105 ، الرعد 9 ، المؤمنون 92 ، السجدة 6 ، الزمر 46 ، الحشر 22 ، الجمعة 8 ، التغابن 18.
     3 ـ سيوافيك توضيح مفاد الآية وما يماثلها التي تسلب العلم بالغيب عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) عن قريب فانتظر.


(403)
    توضيحه : أنّ ما يجري على اللّه سبحانه من صفات ونعوت تختلف عمّا يجري على غيره سبحانه لا بمعنى أنّ للعلم معنيين مختلفين بأحدهما يجري على الواجب وبالمعنى الآخر يجري على الممكن ، فإنّ ذلك باطل بالضرورة إذ ليس للعلم ولا لسائر أوصافه في اللغة والعرف إلاّ معنى واحداً وهو في العلم انكشاف المعلوم لدى العالم بطريق من الطرق ، وكذا الحياة والقدرة والسمع والبصر بل المراد اختلاف المحمول عند الجري على الواجب والممكن من جانب آخر. وهو الاختلاف في كيفية الجري والاتصاف ، فإنّ العلم : منه واجب ، ومنه ممكن منه ذاتي ومنه اكتسابي ، منه مطلق ومرسل عن القيود ، ومنه مقيّد محدود ، منه ما هو عين الذات بلا تعدد بين الوصف والموصوف ، ومنه زائد على الذات وعارض عليه ، وهكذا واللائق من هذه الأقسام بساحته تعالى هو القسم الأوّل.
    كما أنّ الصحيح عند الحمل على الموجود الممكن هو الثاني لما تحقق وثبت بالبراهين العلمية أنّ علمه سبحانه مطلقاً بذاته أو غيره ، ذاتي له لا عرضي ، مطلق لا مقيّد. مرسل لا محدود.
    وعلى ذلك ـ فعلمه سبحانه بكل شيء ، عين ذاته ، لا عارض عليه ، فالذات هو نفس العلم والعلم هو عين الذات بلا تعدد ولا اثنينية بين الذات وعلمه ونظير المقام اطلاق علمه ، فعلمه سبحانه مطلق عن القيود ، مرسل عن الحدود ، فلا يحدده كيف ولا يقيّده أين ، مجرد عن الامكان وأحكامه ، منزّه عن التجزئة والمقدار وآثاره إلى غير ذلك من أحكام الممكنات ولوازمها.
    فهذه الآيات الدالة على اختصاص العلم بالغيب به سبحانه لا تهدف إلاّ إلى ما يناسب ساحته وهو العلم الواجب الذاتي المرسل المطلق عن الحدود ، الذي لا يشاركه غيره ، لا ما يمكن أن ينعت به الممكن ويتصف به غير الواجب واتصاف الغير بالعلم الامكاني الكسبي منه سبحانه ، المحدود بالزمان والمكان وغيرها من الحدود ، الزائد على ذات الموصوف ، والعارض عليه ، لا يعد نقضاً للحصر ، بل لا يستلزم استثناء عن الحكم


(404)
استثناء حقيقياً متصلاً ولا يستلزم مشاركة الواجب والممكن في هذا الوصف ، كاتصاف سائر الموجودات بالحياة والقدرة ، والسمع والبصر وغيرهما من الصفات الثبوتية.
    فالغيب المختص به سبحانه إنّما هو هذا النوع من العلم الذي لا يشاركه فيه شيء ، بل يمتنع أن يشاركه فيه أحد لاستلزامه الشرك وتعدد الواجب.
    وعليه يحمل كل ما دلّ على أنّ علم الغيب مختص به سبحانه ، فالعلم بالغيب الذي هو عين ذاته سبحانه الذي لا يحده شيء ، ولا يقيده قيد ، مخصوص به تعالى ، لا يشاركه في هذا العلم أحد من خلقه ، بل العلم بالشهادة على هذا الوجه أيضاً مختص به ، كما قال سبحانه : ( عَالمُ الغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ وَ هُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام ـ 73 ) إلى غير ذلك ممّا يلمح إلى انحصار كلا العلمين فيه سبحانه.
    وهذه قرينة واضحة على أنّ المقصود من الآيات الدالة على اختصاص علم الغيب به سبحانه ، هو ما يليق بساحة الواجب الذي لا يشاركه فيه أحد ، وإلاّ فالعلم بالشهادة على غير الوجه الذاتي ، وغير المطلق المرسل عن القيود ، بأن يكون محدوداً ومقيداً وعرضياً ، فغير مختص به ، بل يوجد عند كل من أعطى له الإدراك والشعور ، وقدرة الاتصال بالخارج ، فما دل على انحصار كلا العلمين ( العلم بالغيب والشهادة ) فيه سبحانه إنّما يراد منه ما يليق بساحته عزّ وجلّ.

هل يمكن للانسان الاطلاع على الغيب :
    إنّ في وسع المولى سبحانه أن يظهر على غيبه من شاء من عباده ويطلعه على ما حدث وغبر ، أو يحدث ويتحقق من ملاحم وأحداث وفتن أو غيرها ، في حين أو أحايين ويوقفه على ما لم يره ولم يشهده ، وليس في ذلك أي تصادم مع اختصاصه باللّه ، فهو يعلم الغيب بالأصالة ، وغيره بتعلّم منه ومن طريق التبعية.
    قال الشيخ الرئيس في اشاراته ما هذا لفظه : « التجربة والقياس متطابقان على أنّ للنفس الانسانية أن تنال من الغيب نيلاً ما ، في حالة المنام ، فلا مانع من أن يقع مثل


(405)
ذلك النيل في حال اليقظة إلاّ ما كان إلى زواله سبيل ، ولارتفاعه إمكان ، أمّا التجربة فالتسامح والتعارف يشهدان به ، وليس أحد من الناس إلاّ وقد جرب ذلك في نفسه ، تجارب ألهمته التصديق اللّهمّ إلاّ أن يكون أحدهم فاسد المزاج ، نائم قوي التخيل والتذكر ، وأمّا القياس فاستبصر فيه من تنبيهات » ثم ذكر بعض التنبيهات لاثبات ما ارتآه (1).
    وقد صرّح بذلك في آيات :
    الاُولى : قوله سبحانه : ( عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً * إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُول فَإِنَّهُ يَسلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَفُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَ أَحْصَى كُلَّ شَيْء عَدَداً ) ( الجن : 26 ـ 28 ) فمعناه أن الغيب كلّه مختص به ، لا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول فيظهر رسوله على ما شاء من الغيب ، فهذه الآية إذاانضمت إلى قوله سبحانه : ( قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّموَاتِ وَ الأرْضِ الغَيْبَ إلاّ اللّه ) ( النمل ـ 65 ) يتضح أنّ الهدف من الآية ، اختصاصه به على وجه الأصالة والذاتية ، واطلاع الغير بتعليم منه سبحانه وليس ابطالاً له بل استثناء منه يشبه الاستثناء المنقطع ، فإنّ علمه بالأشياء بالأصالة وعلم غيره بالتبعية ، والعلم التبعي الاستنادي ، لم يكن داخلاً فيه ، حتى يحتاج إلى اخراجه إلاّ بضرب من التأويل ، لتشابه بين العلمين من بعض الجهات وإن افترقا من جهات شتى ، فصح أن يقال : إنّ العلم بالغيب مختص به سبحانه وفي الوقت نفسه يظهر على غيبه بعض عباده من دون أن يمس كرامة اختصاصه به.
    ونظير المقام قوله سبحانه : ( اللّهُ يَتَوَفَّ ـ ى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ( الزمر ـ 42 ) فهو ظاهر في أنّ التوفّ ـ ي منحصر في اللّه سبحانه مع أنّه سبحانه أسنده إلى ملك الموت في مورد وإلى رسله في مورد آخر ، وقال : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ المَوتِ الَّذِي وُكِّلِ بِكُمْ ) ( السجدة ـ 11 ) فالتوفّي وأخذ الأرواح والنفوس ، من فعل اللّه سبحانه على وجه
    1 ـ راجع الاشارات والتنبيهات النمط العاشر ج3 ص 399.

(406)
الأصالة ومن فعل غيره على وجه التسبيب والتبعية ، ومع ذلك لا ينافي اختصاصه به سبحانه على الاطلاق لاختلاف الفعلين من جهة وتشابههما من جهة اُخرى.
    نعم ما يظهره على رسوله من الغيب لما كان في مظنة التغيير لم يكتف بنفس الاظهار والاعلام بل عين له رصداً وحفظة يحفظون ما يلقى إليه ، وإلى ذلك أشار سبحانه بقوله : ( فإنّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ) .
    ولما كان علم الرسول بالغيب محاطاً بعلمه سبحانه قال : ( وأحاط بما لديهم ) أي ما لدى الأنبياء والخلائق وهم لا يحيطون إلاّ بما يطلعهم اللّه عليه فقد : ( أحصى كل شيء عدداً ).
    ثمّ إنّه وإن خصص العام في هذه الآية بالرسول حيث قال : ( إلاّ من ارتضى من رسول ) إلاّ أنّه لا يأبى عن ورود مخصص آخر عليه فإنّه سبحانه كما أظهر غيبه على رسله ، أظهره على أنبيائه الآخرين حيث قال سبحانه : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوحَيْنَا إِلى نُوح وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) ( النساء ـ 163 ) والوحي أحد مصاديق الغيب على ما عرفناك.
    هذا إذا قلنا باختلاف الرسول والنبي في المصداق وأنّ بين اللفظين حسب المصداق عموم مطلق أو عموم من وجه ، أمّا إذا قلنا باختلافهما في المفهوم وتساويهما في المصداق كما هو غير بعيد ، فلا يلزم تخصيص آخر.
    ومن هنا يظهر الحال في علم خلفاء الرسول بالغيب فإنّهم ( عليهم السَّلام ) لما جعلوا مصدر علمهم بالغيب ، التعلّم من ذي علم وهو الرسول والوراثة منه (1) لا يلزم عندئذ تخصيص آخر على الآية ، غير أنّ كون مصدر علمهم منحصراً فيها لا يخلو من غموض لما سيوافيك من كونهم ( عليهم السَّلام ) محدثين ـ بالفتح ـ فانتظر.
    وربّما يقال : انّ المراد من الغيب في قوله سبحانه : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً ، إلاّ من ارتضى من رسول ) ( الجن ـ 26 ـ 27 ) وهكذا في نظائره ممّا استدل به على جواز تعرّف النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) على الغيب ، هو الوحي القرآني الذي نزل على قلب
    1 ـ وقد عقد الكليني في اُصوله باباً لذلك فراجع ج1 ص 223.

(407)
النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وهذا ممّا لا خلاف فيه ، وإنّما الخلاف في تعرّفهم على الغيب ، من غير هذا الطريق ، وممّا يدل على ما استظهر ، قوله سبحانه في عدة مواضع من القرآن : ( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) فلاحظ ( آل عمران ـ 44 ، ويوسف ـ 102 ، وهود ـ 49 ).
    والاجابة عنه سهلة بعد الوقوف على معنى الغيب في اللغة والعرف ومصطلح القرآن في غير هذه المواضع ويتضح الجواب بملاحظة اُمور :
    1 ـ أنّ الغيب يطلق في اللغة على الأمر الغائب عن الحس في مقابل الشهود الذي يطلق على المعنى المحسوس بأحد الحواس ، وإذا اُطلق على الوحي كلمة الغيب فإنّما هو بسبب خفاءه عن حواسنا كالحوادث الغائبة عن حواسنا الواقعة في هذا الكون وعندئذ فما هو المبرر لتخصيص كلمة الغيب بالوحي فقط.
    إنّ القرآن الكريم يجعل أحد علائم المتقين في كتابه هو ( الإيمان بالغيب ) حيث يقول : ( الذين يؤمنون بالغيب ) فهل يسوغ المعترض لنفسه تفسير الغيب في الآية بالوحي فحسب؟ في حين أنّ الغيب هنا يحمل معنى واسعاً يكون الإيمان بالقيامة والوعد والوعيد أحد مصاديقه أيضاً ، التي يؤمن بها المتقون رغم عدم إدراكهم لها بالحواس ، أضف إلى ذلك أنّ الغيب في اللغة بمعنى الأمر الغائب عن الحس مقابل ( الشهادة ) ، ومن هنا يقول القرآن في وصفه سبحانه : ( عالم الغيب والشهادة ) وليس المراد منه خصوص الوحي قطعاً ، واطلاق الغيب على الوحي ، ليس لأنّ الوحي هو معناه ، بل لأنّ الوحي هو من بعض مصاديقه باعتبار عدم ادراكنا له بالحس أيضاً ، فهذا الاشتباه من قبيل اشتباه المصداق بالمفهوم في مصطلح العلماء ، وقد تصور المعترض أنّ الغيب بمعنى الوحي فقط بينما ليس الوحي إلاّ أحد مصاديق الغيب حسبما عرفنا الآن ، وقد ورد لفظ الغيب في القرآن الكريم أربعاً وخمسين مرّة ولم يقصد فيه إلاّ الاُمور الغائبة عن الحس أيضاً حتى الآيات التي استدل بها المعترض على ما يقوله من تفسير الغيب بالوحي فقط.
    إنّ هذه الآيات تشير إلى قصص مريم ويوسف ونوح التي لم تكن معروفة عند


(408)
الناس بشكلها الصحيح ، فبيّنها القرآن لهم بالشكل المطلوب الصحيح ، وفي الواقع كان الوحي هنا أحد طرق معرفة الغيب ، لا أنّ الغيب موضوع للوحي خاصة ، ولعلك لا تعثر في القرآن كلّه على موضع واحد اُطلق فيه لفظ الغيب واُريد منه الوحي فقط وإليك بعض النماذج :
    ( إِنِّي أَعْلُمُ غَيْبَ السَّموَاتِ وَالأرْض ) ( البقرة ـ 33 ) ، ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ ) ( الأنعام ـ 59 ) ، ( أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِين ) ( سبأ ـ 14 ) (1).
    2 ـ إنّ كلمة ( الغيب ) في قوله سبحانه : ( عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً ) ( الجن ـ 26 ) بمعنى الاُمور الغائبة عن الحس كما قدمناه وليست بمعنى الوحي كالقرآن مثلاً ، وذلك لأنّ الآية السابقة (2) قد عرضت موضوع اطّلاع النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) على موعد القيامة وكانت الآية قد نفت ـ بلسان النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ـ مثل هذا الاطّلاع عنه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وحين يأتي بعد هذا النفي المباشر قوله سبحانه : ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً ) .
    يكون موضوع القيامة داخلاً في اطار كلمة ( الغيب ) المستعملة في الآية أيضاً وتكون الآية الأخيرة بمثابة تعليل لما تقدم في الآية السابقة من نفي العلم بموعد القيامة عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بجعلها من علم الغيب المختص باللّه سبحانه ولا يمكننا بعد ذلك تفسير ( الغيب ) في الآية بخصوص الوحي ، لأنّ سياق الآية يمنع من إخراج العلم بموعد القيامة عن مورد الآية. وإذا كان العلم بموعد القيامة ممّا تتضمنه الآية أيضاً حسب السياق ، لا يمكننا استثناء سائر المواضيع الغيبية من هذه الآية ، وحينئذ يكون معنى الآية كما يلي :
    ( أنّ اللّه عالم الغيب ـ كل من غاب عن الحس من وحي وغيره ـ فلا يظهر على غيبه أحد * إلاّ من ارتضى من رسول ) . وتكون الآية دليلاً واضحاً على اطّلاع
    1 ـ راجع المعجم المفهرس.
    2 ـ تقول الآية السابقة : ( حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً * قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربّي أمداً * عالم الغيب ... ).


(409)
النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) على الغيب من وحي وغيره بأمر من اللّه تعالى.
    3 ـ إنّ المفسرين فسّروا الغيب في الآية المبحوث عنها من ( سورة الجن ) بالاُمور الغائبة عن الحس ، وأيدوا بها اطّلاع الأنبياء على هذه الاُمور ، ويعلل طائفة من هؤلاء المفسرين كالطبرسي والقرطبي وصاحب ( روح البيان ) اطّلاع الأنبياء على الغيب بأنّ ذلك دليل متمّم على صدق رسالتهم ، ومعجزة لهم ، حيث إنّ علمهم بالغيب سبب لوثوق الناس بهم ، ودليل على ارتباطهم بالسماء. وبعد هذا هل يمكن تخطئة جميع هؤلاء المفسرين وتصحيح ما قاله المعترض فقط؟!
    إنّنا راجعنا التفاسير التالية فوجدناها جميعاً تفسر ( الغيب ) بكل أمر غاب عن الحس مطلقاً ولم يفسر أحد منهم الغيب بالوحي خاصة وإليك أسماء التفاسير التي راجعناها مع أرقام الصفحات والمجلدات : تفسير التبيان للشيخ الطوسي 10/158 ، ومجمع البيان للطبرسي 10/374 ، تفسير ابن كثير 4/433 ، تفسير القاضي البيضاوي ص 445 الطبعة الحجرية ، تفسير جوامع الجوامع للطبرسي ص 514 ، الكشاف 4/633 ، زاد المسير لابن الجوزي 7/385 ، تفسير القرطبي 10/6819 ، تفسير الجلالين ص766 ، الطنطاوي 24/281 ، المراغي 29/106 تفسير گازر 10/191 ، في ظلال القرآن 29/162 ، تفسير القمي ص 700 ، الصافي 2/753 ، تفسير شبر ص 1164 ، مقتنيات الدرر 11/273 ، منهج الصادقين 10/4 ، روح البيان 10/201.
    الثانية : قوله سبحانه : ( مَا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ مَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَ لِكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) ( آل عمران ـ 179 ) فهو بظاهره يفيد أنّ اللّه سبحانه لا يظهر على غيبه أحداً من الناس ليعلم ما في قلوب الآخرين ، ويميز المؤمن من المنافق ، ولكن يختار من يشاء من رسله فيوقفه على الغيب ويطلعه عليه.
    ولا يتوهّم أنّ المقصود من الغيب هو الوحي القرآني فإنّه لايناسب مفاد الآية إذ


(410)
المقصود من ( الخبيث ) هم المنافقون الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، كما أنّ المقصود من ( الطيب ) هم المؤمنون الحقيقيون.
    إنّ اللّه تعالى يلفت أنظار الاُمّة في مطلع هذه الآية بأنّه تعالى سوف لا يدع الاُمّة بهذا الشكل المختلط من المؤمنين والمنافقين بل أنّه تعالى سيميز بين الفريقين بأحد الطريقين التاليين :
    1 ـ فرض الامتحان والابتلاء عليهم جميعاً وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان فيعرف المؤمن من المنافق.
    2 ـ عن طريق علم الغيب وذلك بأن يطلع نبيه على شؤون المؤمنين والمنافقين والفوارق بينهما ، ولكن هذا الطريق مختص بالنبي والأنبياء فقط ، وليس كل الأنبياء ، بل اُولئك الذين يجتبيهم اللّه من أنبيائه ورسله. ولقد أشار الى هذه الحقيقة بقوله : ( وما كان اللّه ). ويتضح من ذلك كلّه أنّ ليس المقصود من الغيب في هذه الآية هو الوحي المصطلح ، بل معناه الاطّلاع على المواضيع الخارجية مثل تمييز المنافق من المؤمن ، لأنّه لو كان المراد منه الوحي المصطلح ما كان هناك داع لتخصيصه بطائفة من الرسل ، في حين أنّ جميع الأنبياء ينزل عليهم مثل هذا الوحي.
    أضف إلى ذلك أنّ الهدف من اطّلاع الأنبياء على الغيب هنا ، حسبما يدل عليه السياق هو تمييز المؤمن من المنافق ، ولا يكون هذا إلاّ بأن يطّلع النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) على كل شؤون المنافقين ويعرف كل فرد منهم ، والقرآن وإن بين بعض صفات المنافقين على وجه العموم ، ولكنّه لم يعرفهم بشكل تفصيلي يؤدي إلى التمييز بينهم وبين المؤمنين ، والدليل على أنّ المقصود من الآية هو معرفة المنافقين تفصيلياً هو ما يرويه التاريخ من أنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) عرف جميع المنافقين يوم تبوك وعرّفهم لحذيفة (1) أيضاً. ولقد تحقق مفهوم هذه الآية : ( حتى يميز الخبيث من الطيّب ) بمعرفة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) للمنافقين ، عن طريق تحقق
    1 ـ لاحظ المصادر التالية : تاريخ بغداد ج1 ص 161 ، اُسد الغابة ج1 ص 319 ، الاستيعاب ج1 ص 277 ، الدرجات الرفيعة ص 284 وغيرها وقد عرف حذيفة بأنّه صاحب سر رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ).
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس