مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 411 ـ 420
(411)
محتوى هذه الآية.
    إنّ من يمعن النظر في الآية يذعن بأنّه ليس المقصود من « الغيب » فيها وحي السماء بل المقصود هو : معرفة الخبيث ( المنافق ) من الطيب ( المؤمن ) الحقيقي ، ومثل هذه المعرفة التفصيلية لا تحصل عن طريق الاُمور الكلية والعامة ، بل لا بد من طريق آخر يعرّفهم النبي ثم يعرّفهم للآخرين.
    الثالثة : قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ رَآهُ بِالاُفُقِ المُبِينِ * وَ مَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ بِضَنِين ) ( التكوير : 23 ـ 24 ) ، المراد من « الغيب » هو الوحي النازل عليه والمعنى أنّه لا يبخل بشيء مما يوحى إليه ، فلا يكتمه ولا يحبسه ولا يغيره ، بل يبلّغ الناس على النحو الذي اُمر بابلاغه فتدل الآية على اطّلاعه على الغيب.
    الرابعة : قوله سبحانه : ( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ) وقد تكررت الآية في الذكر الحكيم فراجع آل عمران ـ 44 ، يوسف ـ 102 ، وقال سبحانه : ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيكَ ) ( هود ـ 49 ) وعلى أي تقدير فتدل هذه الآيات الأربعة على أنّه سبحانه يظهر غيبه على رسوله ويطلعه عليه ، وعلى الأنباء الغيبية مما لم يكن يعلمه لا هو ولا قومه.
    وقد استدل في بعض الروايات على اطّلاع النبي والأئمة على الغيب بقوله سبحانه : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْر حَكِيم * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرسِلِين ) ( الدخان : 3 ـ 5 ) ، وبقوله سبحانه : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْر ... ) ( القدر : 1 ـ 5 ).
    ونقلها الكليني في اُصوله (1) عن الحسن بن العباس بن الحريش وقد عرفت حال الرجل وأنّه لا يلتفت إليه ولا يكتب حديثه وأنّه ... (2).
    1 ـ الكافي ج1 ص 245 ـ 249.
    2 ـ راجع ما أسلفناه ص 342 ـ 343 من كتابنا هذا ، وجامع الرواة ج1 ص 205 وقاموس الرجال ج3 ص 182 ـ 183.


(412)
    نعم استدل بعض الأكابر (1) على عموم علم النبي والأئمة من أهل بيته لكل غابر وحادث بل على فعلية علومهم بكل شيء بقوله سبحانه : ( إِنَّمايُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهَلَ البَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ( الأحزاب ـ 33 ) ، وبقوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرَاهِيمَ وَ آلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ ) ( آل عمران ـ 33 ).
    حيث قال : « إنّ عموم إذهاب الرجس والتطهير والاصطفاء ، الظاهري والباطني والتنزيه عن شوائب الكدر ، وظلمات الجهل والسهو دال على كلّ من المطلوبين من عموم علمهم وفعليته » لكن في دلالة الآيتين على المطلوب خفاءً.
    أمّا الاُولى : فإنّ دلالتها على اعتصام أهل البيت بالعصمة الالهية في غاية الظهور على ما هو مقرر في محله ، وأمّا دلالتها على سعة علمهم وفعليته ففيه خفاء تام ، فإنّ الرجس هو الشيء القذر يقال : رجل رجس ، ورجال أرجاس ، والقذارة أمر وجودي توجب تنفر النفس من الشيء المتلبس بها وهي إمّا بحسب ظاهر الشيء كما في الخنزير كقوله سبحانه : ( إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمَاً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْْمَ خِنْزِير فَإِنَّهُ رِجْسٌ ) ( الأنعام ـ 145 ) ، أو بحسب باطنه وهي القذارة المعنوية كالشرك والكفر ومساوئ الأخلاق والخمر والميسر بما لهما من الآثار الموبقة ، قال سبحانه : ( وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلى رِجْسِهِمْ وَ مَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ) ( التوبة ـ 125 ) ، وقال عزّ وجلّ : ( وَمَنْ يُرِد أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) ( الأنعام ـ 125 ) ، وقال تعالى : ( إِنَّما الخَمْرُ وَ المَيْسِرُ وَ الأنْصَابُ وَ الأزْلامُ رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ( المائدة ـ 90 ). والمتفحص في موارد استعماله يذعن بأنّه أمر وجودي في الشيء إمّا بحسب ظاهره مما يدركه الناس أو باطنه مما يجب أن ينبه عليه من جانب العقل أو الشرع ، والغاية من إذهاب الرجس عنهم هو إزالة كل صفة خبيثة في النفس ، تدعو إلى الاعتقاد الباطل أو العمل السيء في مقابل العصمة الالهية ، التي هي هيئة
    1 ـ السيد عبد الحسين النجفي الشيرازي.

(413)
علمية نفسانية ، تصون الانسان عن الزلل في الرأي والقول والعمل.
    أمّا الجهل بالشيء مطلقاً خصوصاً الجهل بالفتن وملاحم أحداث وكل ما يجري في الكون من نوازل أو ملمات أو ما يحكم فيه من نواميس وقوانين فليس أمراً وجودياً أو هيئة في النفس ، يورث التنفّر والتجنب ، حتى يدل إذهاب الرجس على إذهابه فلو جهل الانسان بنواميس الكون والقوانين السائدة في الأفلاك لا يعد جهله هذا رجساً ، أترى من نفسك أن جهل الفقيه بالمعادلات الجبرية والقوانين الطبية رجس ، أو جهل الأديب بفنون الصنايع رجس؟
    وأمّا عد الإلحاد والشرك من الرجس ، فليس لأجل كون الملحد والمشرك جاهلاً باللّه سبحانه وصفاته بل لأجل تعلق قلبه بأمر باطل لا يعدو كونه أمراً وجودياً وإن كان يجتمع مع الجهل أيضاً (1).
    وأمّا الآية الثانية : فلأنّ المراد من الاصطفاء هو أخذ صفوة الشيء وتخليصه ممّا يكدر ، فالمناسب له ، هو اصطفاؤهم من الزلل في الرأي والقول والعمل الذي هو عبارة عن العصمة الالهية وهي الجهة الجامعة الوحيدة بين المصطفين أعني آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران ، فإنّ المراد من آل إبراهيم هم الطيبون من ذريته كإسحاق وإسماعيل والطاهرون من ذريتهما ، كما أنّ المراد من آل عمران هي مريم وابنها المسيح أو هما وزوجة عمران بقرينة ذكر قصة امرأة عمران ومريم ابنته بعد الآيتين. وعلى أي تقدير فالمراد اصطفاؤهم من كدر الشرك وقذارة الذنوب وتطهيرهم من مساوئ الأعمال وقبائحها ويؤيد ذلك قوله سبحانه : ( وَ إِذْ قَالَتِ المَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ ) ( آل عمران ـ 42 ).
    نعم إنّ اللّه سبحانه وإن اصطفى آدم بتعليمه الأسماء حين قال سبحانه : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ) ( البقرة ـ 31 ) لكنّه اصطفاه باُمور اُخرى أيضاً فهو أوّل خليقة وطأ الأرض من النوع الانساني قال تعالى : ( وَ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ
    1 ـ راجع المفردات للراغب ص 188 والميزان ج 16 ص 330.

(414)
فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) ( البقرة ـ 30 ) ، وأول من اجتباه بقبول توبته قال سبحانه : ( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَ هَدَى ) ( طه ـ 122 ) إلى غير ذلك من خصائص ومناقب ، كما أنّه اصطفى نوحاً بجعله أوّل الخمسة من اُولي العزم أصحاب العزائم القوية والشريعة لقوله سبحانه : ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً ) ( الشورى ـ 13 ) إلى غير ذلك ، واصطفى إبراهيم وآله باُمور وخصال يجدها المتفحص في سيرتهم المذكورة في القرآن.
    لكن الجهة الجامعة المشتركة بين الجميع في الآية ، التي يمكن أن يكون الاصطفاء لأجلها ليست إلاّ العصمة الالهية ، أعني التطهير من الذنوب وكدر الشرك أو هي مع النبوّة في غير مريم ، لا ما يختص بكل واحد منهم من صفات وخصال كتعليم الأسماء لآدم مثلاً حتى تكون الآية ناظرة إلى اصطفاء المذكورين في الآية بتعليمهم كل شيء واطلاعهم على كل أمر ، ويدل بالنتيجة على اطلاع النبي وآله على الغيب.

القرآن يدل على تحقق التنبّؤ من الأنبياء والصالحين :
    ما مر عليك من الآيات تدل بصورة كلية على أنّ رجال الوحي يمكنهم الاطّلاع على الغيب والتطلع على ما ليس بمشهود لغيرهم ، هلم معي نتدبر في الآيات التي تدل على تحقق التنبّؤ عنهم في مواقف شتى.
    ولنقدم كلمة ، وهي : أنّ كل ما أتى به الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من اُصول وفروع وقصص و ... كلّها أنباء غيبية أظهره اللّه عليها قال سبحانه في شأن النبي الأعظم : ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هِذَا فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ للمُتَّقِينَ ) ( هود ـ 49 ) فأي غيب أعلى وأجلى ممّا أظهر نبيه عليه من القرآن المبين الذي يعد بنفسه نبأً غيبياً ويحتوي من الإخبار بالمغيبات الوافرة ما لا يعد ولا يحصى ، فكل ما جاء به في مجالات مختلفة ، غيب بلفظه ومعناه أطلعه اللّه عليه وأوحاه إليه بصورته ومادته ، إذ المفروض أنّ القرآن معجز بلفظه ومعناه والمعجزات احدى المغيبات.
    وعلى كل تقدير أنّ القرآن يدل بفضل نصوصه على أخبار غيبية ، تنبّأت بها ثلّة


(415)
جليلة من عباده المخلصين من انبيائه ورسله وخيار عباده وان اللّه أظهر من علمه المكنون ما كان خفياً ، على بعض رسله وانبيائه وثلّة من أوليائه ودونك ما وقفنا عليه عند التدبر في الذكر الحكيم.

1 ـ النبي آدم ( عليه السَّلام ) والاطلاع على الغيب :
    قال سبحانه : ( وَ عَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّموَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) ( البقرة : 31 ـ 33 ).
    والنظر الدقيق في هذه الآيات الثلاث يقودنا إلى أنّه سبحانه أطلع نبيه آدم ( عليها السَّلام ) على جملة من الحقائق كان يغيب علمها عن الملائكة وقد أخبر آدم ـ بأمر من اللّه ـ الملائكة عن هذه الحقائق التي عبر عنها القرآن بالأسماء ، وليس المراد من الأسماء في الآية : ( وعلّم آدم الأسماء كلّها ) أسماء الأشياء فقط فإنّ معرفة الأسماء لا تعد فضيلة لآدم ( عليها السَّلام ) .
    وإنّما المقصود منها مسمّياتها ـ أي حقائق الأشياء ـ وعلى هذا علمه سبحانه أسرار الخليقة فاطّلع على خواص الأشياء وآثارها فصارت نتيجة تعليم الأسماء لآدم ( عليها السَّلام ) هو نصب الحقائق الكونية بين يديه وإخباره عن واقع الحياة (1). والاتيان بضمير الجمع المذكر العاقل في قوله تعالى : ( ثم عرضهم على الملائكة ) دون الاتيان بضمير المفرد المؤنث يدل على ما قلناه فلو كان الهدف تعليم نفس الأسماء لآدم ( عليها السَّلام ) فحسب لكان ضمير المفرد المؤنث جديراً بالمقام. وهذه الآيات الكريمة دلّت على وجود علم الغيب الفعلي عند آدم ( عليها السَّلام ) وذلك لأنّ الاطّلاع على الغيب
    1 ـ قد نقل العلاّمة الطبرسي في مجمع البيان ج1 ص 76 طبع صيدا ، أقوال المفسرين حول المراد من الأسماء واختار ما ذكرناه.

(416)
والإخبار عن شؤون البشر في المستقبل ، والايحاء إلى الملاحم والفتن ليس بأعلى من الوقوف على حقائق المسمّيات التي كلت دون إدراكها ملائكة اللّه سبحانه حتى أنبأهم وأطلعهم عليها.

2 ـ تنبّؤ نوح ( عليه السَّلام ) :
    قال سبحانه : ( وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَر عَلَى الأرْضِ مِنَ الكَافِرينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ) ( نوح : 26 ـ 27 ).
    لقد سار شيخ الأنبياء نوح ( عليها السَّلام ) باُمته سيراً سجحاً وتحمّل في سبيل دعوته المحن والكوارث ، وجابه ضوضاء الشرك بالحكمة والموعظة الحسنة حتى يئس من إيمانهم ، فدعا ربّه بإهلاكهم وإبادتهم مخبراً عن مآل قومه ومن يرثهم وذلك كما تقدم في الآية ، أوليس هذا إخباراً عن عواقب اُمورهم وأخلافهم ، وأنّه لن يؤمن أحد منهم ولا من أخلافهم؟
    ولعل المعترض يقول : إنّ نوحاً بعد أن قضى ردحاً مديداً من الزمن مع قومه ، رأى أنّ البيئة الاجتماعية أصبحت منحرفة إلى درجة لا تسمح مطلقاً بمقتضى علمه العادي أن يوجد فيها فرداً صالح وهذا أمر متصور. أو أنّه وقف على مآل أمر قومه ، بعد إخباره سبحانه بذلك كما قال : ( وَ أُوحِىَ إِلَى نُوح أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) ( هود ـ 36 ).
    أقول : هب أنّه فهم مآل قومه من القرائن أو من اخباره سبحانه لكنّه من أين وقف على أحوال خلفهم وإن من يرثهم لا يكون إلاّ فاجراً كفاراً؟ وليس ذلك إلاّ بتعليم من اللّه واظهاره على نبيه باحدى الطرق.

3 ـ إبراهيم ( عليه السَّلام ) وملكوت السماوات والأرض :
    إنّ القرآن يصف إبراهيم بصفات كثيرة ويشرح أمره في بدء الدعوة ويقول :


(417)
( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّموَاتِ وَ الأرْضِ وَلِيَكْونَ مِنَ المُوقِنِينَ ) ( الأنعام ـ 75 ).
    فالملكوت هو الملك كالطاغوت والجبروت وإن كان آكد بالنسبة إلى الملك كما أنّ الطاغوت والجبروت آكد بالنسبة إلى الطغيان والجبر والجبران.
    والمراد من اراءة ملكوت السماوات والأرض لإبراهيم هو توجيه نفسه الشريفة إلى مشاهدة الأشياء من جهة استناد وجودها إليه استناداً لا يقبل الشرك بحيث عاد إبراهيم بعد تلك الاراءة فحكم أنّ ليس في صفحة الوجود ربّ غيره سبحانه يتولى تدبير النظام وإدارة الاُمور حتى صار من الموقنين.
    وهذه الاراءة لا تقل عن علم الغيب بما هو خارج عن إطار الحس لو لم يكن أشرف منه.
    وللبحث حول قصة إبراهيم ودلائله الباهرة في إبطال ربوبية الأجرام السماوية والأرضية مجال آخر قدمنا بعضه في الجزء الأوّل من هذه الموسوعة (1).

4 ـ اطّلاع لوط ( عليه السَّلام ) على الغيب :
    هذا هو لوط أحد الأنبياء ، المعاصر لإبراهيم فقد اطّلع على مسير قومه وهلاكهم في وقت الصبح عن طريق جنود ربّه ورسله قال سبحانه :
    ( قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْع مِنَ الليْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيب ) ( هود ـ 81 ).
    فلو أخبر هذا النبي الكريم بطانته الصالحين بأنّ قومه سيهلكون في الصبح وأنّ موعدهم هو ذاك الوقت ، يصح أن يقال : إنّه مخبر عن الغيب وعالم به وإن كان علمه
    1 ـ لاحظ الجزء الأول ص 132 ـ 143.

(418)
محدوداً ومتناهياً ، مكتسباً غير ذاتي.

5 ـ تنبّؤ يعقوب ( عليه السَّلام ) :
    قال سبحانه : ( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لاَِبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ القَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوٌ مُبِينٌ * وَ كَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( يوسف : 4 ـ 6 ).
    تدل الآيات على أنّ يعقوب ( عليها السَّلام ) فسر رؤيا ولده يوسف ، مخبراً عن حقيقة مستورة من خلال تلكم الرؤيا وكانت تلك الحقيقة وصول ولده يوسف إلى المقام الشامخ في الدنيا ، والاطلاع على الواقع من خلال الرؤيا وهو لون من الاطّلاع على الغيب ، خص تعالى بعض عباده بهذا الفضل.
    لمّا طلب اخوة يوسف من أبيهم يعقوب أن يرسل يوسف حتى يرتع ويلعب معهم ، أجابهم يعقوب بقوله : ( إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَ أَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِئْبُ وَأَنْتُم عَنْهُ غَافِلُونَ ) ( يوسف ـ 13 ) ، أفليس قوله : ( وأخاف أن يأكله الذئب ) تنبّؤً بفكرتهم الشيطانية في حق يوسف كيف وقد حكاه سبحانه عنهم بقوله : ( يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَ تَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ) ( يوسف ـ 17 ).
    ثمّ أنّ يعقوب لمّا سمع تقولهم في حق أخيهم عاد يكذّبهم بقوله : ( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبرٌ جَمِيلٌ ) ( يوسف ـ 18 ) قائلاً : بأنّ يوسف حي يرزق ولم يأكله الذئب أوليس هذا إخباراً عن ما وراء الحس؟
    ولا غرو في ذلك فإنّ اللّه يصف نبيه يعقوب بقوله : ( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْم لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( يوسف ـ 68 ).
    ولأجل تلك المكانة لما أخبر الاخوة بأنّ ابنه ( أخا يوسف ) سرق ، كذّبهم أو كذّب


(419)
الخبر بأنّه : ( سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ) ( يوسف ـ 83 ).
    ولمّا اعترض أولاده على بكائه بقولهم : ( تَاللّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الهَالِكِينَ ) أجابهم بقوله : ( إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * يَا بَنَيَّ اذْهَبُوا فَتَحْسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لا تَايْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لا يَايْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِلاّ القَوْمُ الكَافِرُونَ ) ( يوسف : 85 ـ 87 ).
    هذه تنبّؤات نبي اللّه يعقوب فيعرب عن صدق قوله سبحانه : ( وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْم لِمَا عَلَّمْنَاهُ ) كما يدل على صدق قوله : ( وَ أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) .
    أفبعد هذه التنبّؤات يصح لقائل أن ينفي علمه بالغيب بتاتاً.
    أضف إلى ذلك قوله : ( عَسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ ) ( يوسف ـ 83 ).
    مخبراً عن حياة يوسف وأخيه وأنّه وأخاه سوف يأتي اللّه بهما.
    وهكذا قوله سبحانه :
    ( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ * وَ لَمَّا فَصَلَتِ العِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لاََجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونَ ) ( يوسف : 93 ـ 94 ).
    فلو لم يك يعقوب ( عليها السَّلام ) عالماً بمصير يوسف ولم يدر عما بلغ إليه ولده من جلال وعظمة ، ولم يك مطلعاً على تعرف الاخوة على أخيهم ورجوعهم بخبره السار ، كيف يقول : ( أني لأجد ريح يوسف ) أليس هذا علماً بالغيب وهبه اللّه لنبيه المبتلى يعقوب؟

6 ـ تنبّؤ يوسف ( عليه السَّلام ) :
    قال سبحانه : ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ


(420)
السَّموَاتِ وَ الأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) ( يوسف ـ 101 ).
    والآية تصرح بأنّ اللّه سبحانه علم نبيه يوسف ( عليها السَّلام ) تفسير الرؤيا وتأويلها وذلك قسم من علم الغيب.
    وقال سبحانه : ( وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِينَ * ... يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَ أَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي تَسْتَفْتِيَان ) ( يوسف : 36 ـ 41 ) وتحقق الأمر الذي أخبر عنه يوسف ( عليها السَّلام ) فنجى أحدهما وأصبح ساقي البلاط بينما اُعدم الثاني ومن الوضوح بمكان أنّ هذا اللون من التفسير للرؤيا هو قسم من الغيب الذي نطق به يوسف ( عليها السَّلام ) .
    وقال سبحانه : ( وَقَالَ المَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَات سِمَان يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلات خُضْر وَ اُخَرَ يَابِسَات يَا أَيُّهَا المَلاَُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَم وَ مَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلاَمِ بِعَالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعَدَ اُمَّة أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُون * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَات ... * قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأْباً فَمَا حَصَدْتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُون ) ( يوسف : 43 ـ 49 ).
    وفي هذه القصة يخبر يوسف ( عليها السَّلام ) عن ثلاثة اُمور غيبية وذلك ضمن تفسيره لرؤيا الملك وهذه الاُمور هي : 1 ـ ينعمون بسبع سنوات مليئة بالبركات والخيرات ويتحسن وضعهم الزراعي.2 ـ يصابون بعدها بسبع سنوات جدب حيث تغلق عنهم أبواب الرحمة. 3 ـ وفي الخامسة عشر من هذه السنين تعود إليهم النعم والخيرات من جديد وتفتح عليهم أبواب الرحمة.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس