مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 421 ـ 430
(421)
7 ـ صالح ( عليه السَّلام ) والتنبّؤ بالغيب :
    قال سبحانه : ( وَ يَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَ لاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ * فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي ذَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّام ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوب ) ( هود : 64 ـ 65 ).
    أخبر نبي اللّه صالح ( عليها السَّلام ) بمصير قومه السيء إذا مسوا الناقة بسوء ، تلك الناقة التي كانت تمثل معجزته حين دعاهم إلى اللّه وإلى التصديق بنبوته ، وهكذا يتحقق ما أخبر به هذا النبي عن مصير قومه بعد أن عقروا الناقة فيأتيهم البلاء بعد ثلاثة أيام فقط كما قال تعالى : ( وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِين * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ ) ( الذاريات : 43 ـ 44 ) وأي غيب أعظم من هذا يا ترى؟

8 ـ اطّلاع سليمان ( عليه السَّلام ) بالغيب :
    قال سبحانه : ( وَ وَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَ قَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْء إِنَّ هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ ) ( النمل ـ 16 ) وهل معرفة داود وسليمان منطق الطير إلاّ قسماً من الغيب؟
    وقال سبحانه : ( حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُون * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نَعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ ) ( النمل : 18 ـ 19 ).
    ألا يعد اطّلاع سليمان على لسان النمل من علم الغيب؟ ثمّ ألا يكون هذا خرقاً للعادة البشرية؟
    وقال سبحانه : ( وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الغَائِبِين * ... فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيد فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإ بِنَبَإ يَقِين ) ( النمل : 20 ـ 22 ).


(422)
    وهل الاطّلاع على لسان الهدهد إلاّ اطّلاع على الغيب؟

9 ـ المسيح ( عليه السَّلام ) والتنبّؤ بالغيب :
    قال سبحانه : ( وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ) ( آل عمران ـ 49 ).
    طفق المسيح ( عليها السَّلام ) ينبئ قومه ـ بإذنه سبحانه ـ بأسرارهم وما كانوا يدّخرون في الصيف لشتائهم بمقداره ولونه وحقيقته. وكان ذلك إحدى معجزاته.
    وكذا قوله :
    ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّورَاةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُول يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَد ) ( الصف ـ 6 ).
    أليس في إخبار عيسى ( عليها السَّلام ) وتبشيره بقدوم النبي محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بعد ستمائة عام إخباراً عن الغيب؟
    ونظيره ما ورد في العهدين حول نبينا الأعظم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من ذكر أسمائه وصفاته وما يحل به وبأولاده واُمته وغلبة دينه على جميع الشرائع ، فإنّ تلكم البشارات الواردة فيها مع تحقق مضمونها تعتبر دليلاً على أنّ المبشرين بها كانوا يعلمون الغيب وهم إمّا أنبياء الاُمم السالفة أو أوصياؤهم.

10 ـ انباء النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بالغيب :
    قال سبحانه : ( وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْض فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِير ) ( التحريم ـ 3 ).
    قال الطبرسي : إنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أسرّ إلى حفصة حديثاً ، أمرها باخفائه لكن حفصة أخبرت غيرها به ، فأفشت سره ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وأطلع اللّه نبيه على ما جرى من افشاء سره فعرّف رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) حفصة ببعض ما ذكرت وأفشت ، وأعرض عن بعض ما ذكرت فلم يخبر


(423)
بجميع ما أخبرت به ، فسألته عن أنّه كيف اطّلع على اخبارها وافشائها سره فقال : نبّأني العليم الخبير بسرائر الصدور (1) ، وهو يدل على أنّ اللّه أطلع نبيه على الغيب عن طريق القرآن.
    هذه الآيات التي مرّت حتى الآن ذكرت لنا بعض المواضع التي أخبر فيها أنبياء اللّه عن الغيب ، مثل آدم ونوح وإبراهيم ويعقوب ويوسف وصالح وداود وسليمان وعيسى وخاتم الأنبياء محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) . وهناك آيات قرآنية اُخرى دلّت على أنّ أشخاصاً غير الأنبياء أيضاً أخبروا عن الغيب ، ويتضح من هذا أنّ موضوع الاطّلاع على الغيب لا ينحصر بطبقة الأنبياء بل هو فضل اللّه يخص به من يشاء من عباده الصالحين وإليك الآن بعض هذه الآيات :

11 ـ اطّلاع مريم ـ عليها السلام ـ على الغيب :
    قال سبحانه : ( إِذْ قَالَتِ المَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرَكَ بِكَلِمَة مِنْهُ اسْمُهُ المَسْيحُ عِيسَى ابْن مَرْيَمُ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ وَ مِنَ المُقَرَّبِين * وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَ كَهْلاً وَ مِنَ الصَّالِحِينَ ) ( آل عمران : 45 ـ 46 ).
    وهل يدخل ادراك مريم بانّها سترزق ولداً رغم عدم تزوجها ثم علمها باسمه وخصائص شخصيته إلاّ في قائمة الاُمور الغيبية؟

12 ـ الغيب وامرأة إبراهيم :
    قال سبحانه : ( وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالبُشْرَى قَالُوا سَلاماً ... * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحقَ وَ مِنْ وَرَاءِ إِسْحقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتى ءَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَ هَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَ بَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) ( هود : 69 ـ 73 )
    1 ـ مجمع البيان ج1 ص 316.

(424)
    أمّا تعرّفت زوجة إبراهيم بأنّ اللّه سبحانه وتعالى سيرزقها ولداً عند كبر سنها عن طريق الغيب؟ إنّ مثل هذه المواضيع التي ينحصر معرفتها عن طريق الملائكة يعرفها أناس ليسوا بأنبياء وهل نستطيع أن نفسر معرفتهم لها عن غير طريق الغيب؟

13 ـ الغيب واُم موسى :
    قال سبحانه : ( وَ أَوْحَيْنَا إِلَى اُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيِهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَ لاَ تَخَافِي وَ لاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جَاعِلُوهُ مِنِ المُرْسَلِينَ ) ( القصص ـ 7 ). ويظهر من هذه الآية أنّ اُم موسى عرفت عن طريق الغيب مستقبل ولدها وأنّ اللّه تعالى سيحفظه إلى أن يعيده إليها سالماً ، فنحن هنا لا نجد أي فرق بين اطلاعها على الغيب أو اطلاع أحد من الأنبياء والأوصياء عليه.

14 ـ الغيب وصاحب موسى :
    هذا صاحب موسى الذي آتاه اللّه رحمة وعلماً من عنده ، قد أحاط بما لم يحط به موسى ( عليها السَّلام ) فخرق السفينة ، علماً منه بأنّ وراء السفينة ملكاً يأخذ كل سفينة غصباً ، فخرقها حتى لا يرغب فيها ، وقتل غلاماً كان أبواه مؤمنين فخشى أن يرهقهما طغياناً وكفراً وأقام جداراً يريد أن ينقض لعلمه بأنّ تحته كنزاً لغلامين يتيمين وكان أبوهما صالحاً ، فأراد ستره وصيانته عن أعين الناس حتى يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما ، ثم أسند علمه وعمله هذا إلى اللّه تعالى وقال : ( وَ مَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) ( الكهف : 60 ـ 82 ).
    فدلّ هذا على أنّ اللّه تعالى هو الذي أخبره عن هذه الأسرار الغيبية. والنظرة الموضوعية في هذه الأدلة الكافية من القرآن الكريم لا تدع للباحث مجالاً للشك أو التردد في هذه المسألة.
    والحقيقة التي نصل إليها بعد كل هذا : أنّه لا يمكن لمن آمن بالقرآن أن ينفي


(425)
( علم الغيب ) عن البشر لأنّ القرآن أثبت ـ كما رأينا ـ هذا العلم للأنبياء ولغيرهم من بعض الصالحين ، وأمّا الآيات القرآنية التي دلّت بظاهرها على اختصاص علم الغيب باللّه ونفيه عن البشر فقد أوضحنا المقصود منه ، فلاحظ.
    ولا بأس ختاماً للبحث أن نذكر بعض الآيات الاُخرى التي استدل بها علماؤنا الإمامية في هذا المجال وإن كان للمناقشة مجال في بعضها :

15 ـ النبي شهيد على الاُمّة :
    إنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) شهيد على الاُمّة بنص القرآن العظيم والشهادة على الشيء فرع العلم به وذلك في قوله سبحانه : ( وَ كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ اُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) ( البقرة ـ 143 ) وقوله سبحانه : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ اُمَّة بِشَهِيد وَ جِئْنَا بِكَ عَلَى هِؤُلاءِ شَهِيداً ) ( النساء ـ 41 ).
    وليس المراد من الشهادة في الآيتين وغيرهما الشهادة على صور الأعمال والأفعال حتى يكتفي فيه بالحواس العادية والقوى الكامنة في البدن بل الشهادة على حقائق الأعمال والمعاني القلبية من الكفر والإيمان والإخلاص والرياء وغيرها وهي مما لا تكفيه الحواس العادية بل يحتاج إلى احساس آخر وراء الاحساس العادي.

16 ـ المؤمنون شهداء على المنافقين :
    ما دل على أنّ اللّه ورسوله بل المؤمنون يرون عمل المنافقين وذلك في قوله سبحانه : ( يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لاَ تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَ سَيَرى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون ) ( التوبة ـ 94 ).
    ونظير قوله سبحانه : ( وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ المُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( التوبة ـ 105 ).


(426)
    لكن في دلالة الآيتين على تعرّف النبي والمؤمنين على الغيب تأملاً لأنّ المتبادر في بادىء النظر من رؤية الأعمال هو شهودها بأنفسها أو شهودها بآثارها ونتائجها والآية الأولى تهدف إلى أنّ العبرة بالعمل لا بالاعتذار عن التقصير وهو لا يخفى بعد على اللّه ورسوله ، والمتبادر من الآية الثانية هو ذاك أيضاً لأنّه عطف على قوله تعالى : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَة ) أي أعملوا لدنياكم وآخرتكم وهو لا يخفى على اللّه ولا على رسوله ولا على الناس وهو ممّا تكفي فيه الحواس الظاهرية ولا يتوقف على العلم بالغيب.
    ورؤية الأعمال بهذا المعنى وإن كانت لا تختص بالمؤمنين بل تعم الناس جميعاً غير أنّه لمّا كان البحث والحوار في الآية دائراً بين المؤمنين والمنافقين خص اللّه سبحانه المؤمنين بالذكر وأعرض عن غيرهم.
    نعم ربّما يستظهر أنّ المراد من رؤية عملهم هو الوقوف على حقائق الأعمال ومقاصدهم من أعمالهم وهو مما لا يمكن الاطّلاع عليها من طريق الآثار والنتائج بل يتوقف على ادراك غيبي وعند ذاك يكون المراد من المؤمنين شهداء الأعمال لا كلّهم.

حصيلة البحث :
    ليس هناك أي مانع من أن يعلم اللّه أحد أوليائه بشيء من غيبه المكتوم وسره المخفي مما كتمه على غيره وستره عنه.
    نعم لا يجب على كل من اطلع على الغيب ، اعلام الناس به أو العمل به فلا يستلزم العلم بالشيء ، العمل به أو إخباره الناس بذلك فإنّ هناك مراحل ثلاث مرحلة الاطّلاع ، مرحلة العمل ، ومرحلة الاعلام ، ولكلّ مقتضيات وشرائط وموانع تجب رعايتها نظير القاضي إذ ليس له إلاّ الحكم على وفق ما سمع واقيمت عنده البينة لا على وفق ما علم.
    وسيوافيك توضيح هذا الأمر عند الأجابة عن التساؤلات الموجودة حول علم الغيب.


(427)
ما هو مفاد الآيات النافية
لعلم الغيب عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ؟
    ثم إنّ هناك آيات تسلب بصراحة العلم بالغيب عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فما مفادها وكيف يجتمع مفادها مع الآيات المثبتة وإليك الآيات :
    1 ـ ( قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَ مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَ لاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَ مَا أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) ( الأحقاف ـ 9 ).
    2 ـ ( قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللّهِ وَ لاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَ لاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَ البَصِيرُ أَفَا تَتَفَكَّرُونَ ) ( الأنعام ـ 50 ).
    3 ـ ( وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) ( هود ـ 31 ).
    4 ـ ( قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَ مَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ لِقَوم يُؤْمِنُونَ ) ( الأعراف ـ 188 ).
    5 ـ ( وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ


(428)
تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَاب عَظِيم ) ( التوبة ـ 101 ).
    6 ـ ( فَإِنْ تَوَلَّوْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء وَ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ ) ( الأنبياء ـ 109 ).
    7 ـ ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ علاَّمُ الغُيُوبِ ) ( المائدة ـ 109 ).
    8 ـ ( مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْم بِالمَلاَِ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) ( ص : 69 ـ 70 ).
    فما مفاد هذه الآيات النافية لعلم الغيب عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بصراحة إزاء ما دلّت آيات اُخرى على وجود علم الغيب عند الأنبياء ، بل عند بعض الصالحين أيضاً وكيف تفسر هذه الآيات؟
     الجواب :
    إنّ الوقوف على مفاد هذه الآيات النافية سهل بعد الوقوف على ما ذكرناه من أنّ علم الغيب الثابت للنبي ، غير الثابت للّه سبحانه ، وقد أشبعنا الكلام في هذه المسألة في الجزء الأوّل وقلنا : بأنّ القرآن بينما يثبت فعلاً للّه سبحانه على وجه الحصر في مورد ، يثبته لغيره أيضاً ، فمثلا عندما يقول : ( وإِيَّاكَ نَسْتَعِين ) على وجه الحصر نافياً طلب العون من غيره سبحانه ، يأمر بالإستعانة بالصبر والصلاة وهما غيره سبحانه حيث يقول : ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلوة ) ( البقرة ـ 45 ).
    فعندما يقول : ( اللّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ( الزمر ـ 42 ) ويجعل التوفيّ فعلاً مختص باللّه سبحانه ، يثبته لغيره كالملائكة حيث يقول : ( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلاَئِكَة ) ( النحل ـ 32 ).
    إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة التي بينما ينسب فيه الفعل إليه سبحانه على وجه الحصر ، ينسب إلى غيره أيضاً ، والحل في الجميع واحد وهو أنّ اللائق بساحته الأقدس


(429)
والمنسوب إليه سبحانه ، غير الثابت لغيره ، فالثابت هو الفعل الاستقلالي غير المتكىء على أحد ، إلاّ ذاته سبحانه ، والمنفي عن عباده هو ذاك الفعل الاستقلالي أو الثابت لهم هو الفعل التبعي القائم باللّه سبحانه ، وبالوقوف على ما ذكرناه ينفتح عليك باب من أبواب معرفة الذكر الحكيم ، وقد أوعزنا إلى ذلك الأمر في هذه الموسوعة غير مرّة (1).
    ولأجل إيضاح مفاد هذه الآيات النافية ، نبحث عن كل واحدة بحثاً مستقلاًّ ، ليتضح الحق بأجلى مظاهره فنقول :
    أمّا الآية الاُولى فهي مكونة من أربع فقرات ، ولمعرفة دلالة الآية بصورة صحيحة لابد من معرفة دلالة كل فقرة من هذه الفقرات الأربع المكوّنة للآية بشكل كامل وهذه الفقرات هي :
    1 ـ ( قل ما كنت بدعاً من الرسل ).
    2 ـ ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ).
    3 ـ ( إن أتبع إلاّ ما يوحي إليَّ ).
    4 ـ ( وما أنا إلاّ نذير مبين ).
    تشير الفقرة الاُولى إلى خطأ المشركين في ظنهم بأنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يجب أن يستثنى من سائر البشر العاديين ، ولا يشابههم في عادتهم من أكل وشرب ونوم وما شاكل ذلك ، وكانوا يقولون لو كان محمد نبياً حقاً لما كان مثل الناس يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، فلا يمكن أن يكون نبياً ـ حسب زعمهم ـ إلاّ أن يتنزّه من تلكم الصفات الموجودة في البشر عادة ، وقد أشار القرآن إلى زعمهم بقوله : ( مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَ يَمْشِي فِي الأسْوَاق ) ( الفرقان ـ 7 ).
    وقد كشف القرآن عن خطأهم في هذه الفقرة من الآية حيث قال : ( قل ما كنت بدعاً من الرسل ) ومعناها أنّ هذا النبي الجديد لا يختلف عن الأنبياء السابقين في هذه
    1 ـ لاحظ الجزء الأوّل ص 362 ـ 364.

(430)
الصفات البشرية من أكل الطعام ومشي في الأسواق ، وهذه الصفات ليست أمراً جديداً في هذا النبي بل أنّها صفات دائمة لكل نبي بعثه اللّه تعالى.
    كما كشف في سورة الفرقان أيضاً وقال سبحانه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَ يَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ ) ( الفرقان ـ 20 ).
    ويفهم من هاتين الآيتين أنّ المشركين كانوا يتوقعون من النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) اُموراً هي فوق طبيعة البشر ، حيث زعموا عدم اجتماع النبوّة مع أكل الطعام والمشي في الأسواق.
    بل كانوا معتقدين بلزوم وجود قدرة غير متناهية عند النبي المبعوث يختلف بها عن غيره من البشر ، وبذلك انتظروا من النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أن يعلم الغيب ذاتياً دون ارتباط باللّه تعالى ، يعلمه وكأنّ الأمر قد فوّض إليه.
    إنّ اللّه تبارك وتعالى خاطب نبيّه مبطلاً هذا الزعم بقوله : ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) أي قل لهم يا محمد إنّني بشر ولا يستطيع أحد من البشر أن يتنبّأ بمصيره أو مصائر الآخرين دون إلهام من اللّه تعالى. فالآية الكريمة اذن تنفي ذلك اللون من علم الغيب الذي يتصوره بشكل ذاتي ، وبصورة تفويض مطلق من غير ارتباط باللّه تعالى ، وهو الأمر الذي طلبه المشركون ، وهو لا يصطدم ـ أبداً ـ بما أثبتناه نحن من وجود علم الغيب عند الأنبياء بتعليم من اللّه.
    ولأجل نقد هذه المزعمة يقول في الفقرة الثالثة : ( إن أتبع إلاّ ما يوحى إليَّ ) وقد وقفت على أنّ الوحي أحد الطرق التي يطلع اللّه بها أنبياءه على الاُمور الغائبة عن الحس والأشياء الخفية.
    ولو كانت الآية الكريمة تريد نفي ( علم الغيب ) عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) اطلاقاً استقلالاً وتبعاً ذاتياً واكتسابياً لكانت الآية مناقضة لنفسها ، حيث أثبتت قسماً من الغيب للنبي وهو الغيب الذي يأتي عن طريق الوحي وذلك في الفقرة الثالثة ، ولو كانت الفقرة الثالثة من الآية قد جاءت عن طريقة الاستثناء لأمكننا تصديقه بأنّها جاءت على وجه الاستثناء ، ولكنّها لم تأت على طريقة الاستثناء كما هو واضح.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس