مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 451 ـ 460
(451)
بجميعها مستلزماً لأن يكون الانسان مجبوراً في أفعاله الاختيارية والتي منها عملية قتل الإمام المعينة مثلاً؟
    3 ـ بعض الأعمال التي تصدر من الإمام وهي موافقة للأسباب الظاهرية لا يمكن أن نعتبرها دليلاً على جهل الإمام بالواقع وفقدانه لموهبة العلم التي أثبتناها له كأن يقال :
    لو كان الحسين ( عليها السَّلام ) يعلم حقاً مستقبل أمره فلماذا بعث مسلماً إلى الكوفة رسولاً عنه؟
    ولماذا أرسل مع الصيداوي كتاباً إلى أهل الكوفة؟ ولماذا خرج من مكة متوجهاً نحو الكوفة؟ ولماذا ألقى بنفسه في التهلكة؟ واللّه تعالى يقول : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ولماذا؟ والخ.
    وتتضح الاجابة عن كل علائم الاستفهام هذه بالحقيقة التي ذكرناها قبل لحظات وهي : أنّ الإمام لم يعمل في هذه المواضع ونظائرها إلاّ بالعلم الذي يحصل لديه بالوسائل العادية وعن طريق الأدلة والشواهد الظاهرية ، فلم يبذل أي جهد لدفع الخطر الواقعي المعلوم عن نفسه لأنّه علم أنّ أي جهد من هذا القبيل هو عبث لأنّ القضاء الحتمي قد تعلق بهذا الأمر كما يقول تعالى في سورة آل عمران في شأن اولئك الذين قالوا في حق أصحابهم يوم اُحد : ( لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَ مَا قُتِلُوا ) ( آل عمران ـ 156 ) يقول اللّه في حقهم : ( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ القَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ ) ( آل عمران ـ 154 ).
    القسم الثاني من علم الإمام ـ العلم العادي :
    إنّ النبي أو الإمام من العترة الطاهرة ليسوا إلاّ بشراً حسب نص القرآن الكريم والأعمال التي تصدر من الإمام هي كالأعمال التي تصدر من غيره من الناس تستند إلى اختياره وعلى أساس علمه العادي ، أنّ الإمام كغيره يميّز الخير والشر ، ومدى النفع والضرر في الأعمال عن طريق الأسباب الطبيعية والوسائل العادية ثم تحدث عنده إرادة


(452)
العمل الذي يراه صالحاً ونافعاً ، ثم يسعى للقيام به وتحقيقه ، فحين تكون العوامل الخارجية مساعدة ، ومنسجمة مع بعضها يستطيع تحقيق الأمر الذي يريده ، وبغير ذلك يخفق في تحقيق الهدف الذي يريده ( وقد مرّ أنّ وقوف الإمام على جميع الحوادث الجزئية ما مضى منها وما يأتي باذن اللّه لا تؤثّر في مجرى أعماله الاختيارية ) أنّ الإمام كسائر الناس العاديين عند اللّه وهو مثلهم مكلّف بالتكاليف الدينية من قبل اللّه تعالى ونظراً لمنصبه القيادي الذي اُعطى من قبل اللّه يجب عليه أن يعمل بتكاليفه المقررة عليه من قبل اللّه كإمام ، وفقاً للموازين العادية للبشر ، ويبذل كل ما في وسعه لإحياء كلمة الحق واقامة منهج الدين والعدل.
     الجواب الرابع :
    إنّ الأنبياء والأئمة مع تميّزهم عن الغير بشخصياتهم الربّانية وقوّة الولاية التي منحت لهم ( ذلك أنّ شطراً من شخصياتهم قائمة على المواهب الالهية والشطر الآخر حصل نتيجة الجهود التي بذلوها للقرب من المولى تعالى ) أنّهم مع ذلك كانوا يعملون وفقاً لعلومهم العادية حيث يواجهون حوادث الحياة المختلفة ، على صعيد شخصي ، أو على صعيد اجتماعي كمسائل القضاء والحكم بين الناس مثلاً ، أنّهم مع علمهم الكامل بالحوادث الجزئية في ظلال موهبة الولاية ، ومعرفتهم بعلل الحوادث وتفاصيلها لارتباطهم بما وراء الطبيعة ، أقول : إنّهم مع ذلك لم يستفيدوا من علومهم تلك في قضاياهم الشخصية ولا في الاُمور التي ترتبط بالمجتمع وذلك لمصالح وحكم خاصة.
    وبتعبير آخر : لم يحل النبي والإمام مشاكلهما الحياتية عن طريق الانتفاع من سلاح الغيب ، ولم يقطعا دابر الحوادث المرّة بالقضاء على عللها التي اطلعوا عليها عن طريق الغيب ، كذلك ولم يحلاّ خلافات الناس وخصوماتهم بالعلم الغيبي ، لقد اُخبر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وهو في المسجد عن شدة مرض ابنه العزيز إبراهيم فعاد إلى البيت ليحتضن


(453)
ولده العزيز ويحدق في وجهه النظر قائلاً : تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الربّ وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون (1).
    كان النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يملك ثلاثة ألوان من سلاح الغيب في كل أدوار رسالته وكان يتمكن بواسطتها من تغيير الوضع كيفما يريد ، عند مواجهته للمصاعب ، وعند حدوث اللحظات الخطيرة ولكنّه لم يستعمل هذا السلاح في أغلب الأوقات ، وكانت ألوان السلاح الغيبي متمثلة في الاُمور التالية : 1 ـ المعجزة. 2 ـ استجابة دعائه. 3 ـ علم الغيب.
    كان النبي الكريم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يتمكن عن طريق الاعجاز والولاية التكوينية التي ملكها من قبل اللّه تعالى أن يهب السلامة والعافية لولده العزيز إبراهيم ( وذلك كالولاية التكوينية التي ملكها عيسى ( عليها السَّلام ) وكان بها يحي الميت ويبرئ الأكمه والأبرص ) وكان يستطيع أيضاً ببركة دعائه المستجاب الذي منح له من قبل اللّه تعالى أن يدعو اللّه ويغيّر حالة ولده ، وينقذه من الموت ، وكان يقدر كذلك ـ عن طريق معرفته بالغيب ـ أن يمنع من عوامل المرض قبل أن تتسرب إلى جسم ولده العزيز لئلاّ يبتلى ولده بالمرض ، أو يختار لولده الأدوية الناجعة لتخليصه من المرض وذلك عن طريق اطلاعه على الغيب. كان يتمكن ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) على هذا ومثله ولكنّه رغم ذاك لم يستفد من هذه الأسلحة الغيبية التي كانت في يده لدفع الأضرار المرتقبة عنه وعن اسرته ولم يخط إلاّ في ظل المجاري الطبيعية للحياة ، ذلك لأنّ هذه الأسلحة ، أو الأسباب الغيبية إنّما اُعطيت للنبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ليستفيد منها في اثبات رسالته وولايته الالهية حين يقتضي الأمر ذلك ، و أمّا الاستفادة منها في غير ذلك المجال فغير مأذون.
    ومن المحتمل أن يكون أحد الأسباب التي تمنع النبي أو الإمام من الانتفاع من هذه السبل لجلب الخير أو لدفع الشر هو : أنّ استعمال هذه الأسباب الغيبية يقضي على الآثار العملية لدعوتهم ، لأنّه لا شك أنّ حياة القادة بما تحمل في طياتها من صبر وتحمّل
    1 ـ راجع بحار الأنوار ج 22 ص 157 والسيرة الحلبية ج3.

(454)
للمشاق ، واستقامة وفداء في ساحة الجهاد ، منار ساطع لأتباعهم.
    فإذا افترضنا أنّ النبي أو الإمام يدفع عن نفسه وعن اسرته الأخطار في معترك الحوادث بواسطة الإعجاز أو الدعوة المستجابة أو معرفته بما وراء الطبيعة ، فيهب السلامة لولده ـ مثلاً ـ عن طريق الإعجاز أو يستفيد من دعائه المستجاب أو معرفته الغيبية لاعادة السلامة إلى ولده ، فإنّه حينئذ لا يستطيع أن يمنح الآخرين من أتباعه النصح على تحمل المصائب والتسليم لقضاء اللّه تعالى ، ولو أنّه استفاد من هذه الأسباب الغيبية في ساحة الجهاد في سبيل اللّه فحصّن نفسه عن وصول سهام العدو إليه وأبعد كل خطر مرتقب عن نفسه وعن أهل بيته المقرّبين بواسطة تلكم الأسباب فحينذاك لا يمكنه أن يدعو الناس إلى تحمل الألم والعناء في سبيل اللّه لأنّهم ـ حتماً ـ سيعرضون عليه قائلين : إنّ الشخص الذي يدعونا إلى هذه المناهج الخلاّقة والمبدعة يجب أن يكون نفسه مثالاً رائعاً لهذه المناهج الرائعة. انّ الشخص الذي لا مفهوم عنده للألم والعناء ، ولا تمسّه الكوارث طيلة حياته لا يستطيع أن يكون قدوة الاُمم ومنار الحياة للآخرين.
    ولهذا ـ ولجهات اُخرى ليس هنا مجال عرضها ـ نجد أنّ الشخصيات الالهية كغيرهم يبذلون شتى الوسائل الطبيعية ، ويسعون جاهدين لدفع الأخطار والمصائب عن أنفسهم ، عند ما يواجهونها ، وقد يخفقون في سعيهم بسبب عدم وجود الوسائل الطبيعية بالقدر المطلوب. إنّنا حين نرى عدم الاختلاف بين سلوك المعصومين في الحياة وسلوك الناس العاديين ، أي أنّهم كانوا حين يمرضون يستعملون الدواء للعلاج ولاعادة السلامة كالآخرين ، ويستعملون كل الوسائل الطبيعية والعلوم العادية في القضايا الاجتماعية وفي ساحة الجهاد كغيرهم ، ويعينون أشخاصاً لنقل مختلف الأخبار إليهم وإلى غير ذلك. كل ذلك لأنّ الأسباب الغيبية ما كان يجوز لهم استعمالها إلاّ في مواضع خاصة.
    وهناك شواهد تؤيّد ما قلناه ، فقد روي أنّ عبيد اللّه بن أبي رافع كان مديراً لبيت المال أيام الإمام أمير المؤمنين ( عليها السَّلام ) وحين أرسل الإمام ( عليها السَّلام ) ( أبا موسى


(455)
الأشعري ) إلى دومة الجندل للحكم في ق ـ ضية الحكمين يوم صفّين أوصاه الإمام ( عليها السَّلام ) قائلاً : « احكم بكتاب اللّه ولاتجاوزه » ، فلمّا أدبر قال ( عليها السَّلام ) : « وكأنّي به وقد خدع ». يقول ابن أبي رافع : قلت للإمام ( عليها السَّلام ) : فلمَ توجهه وأنت تعلم أنّه مخدوع؟ فأجابه الإمام ( عليها السَّلام ) قائلاً : يا بني لو عمل اللّه في خلقه بعلمه ما احتج عليهم بالرسل (1) أنّه تعالى كان يعلم أنّ طائفة من الناس يستوي عندهم بعث الأنبياء وعدم بعثهم ، أنّهم لا يؤمنون سواء أأرسل إليهم رسول أم لا ومع ذلك فقد أرسل إليهم أنبياء. انّ الإمام ( عليها السَّلام ) حين يشير في جوابه هذا إلى علم اللّه غير القابل للخطأ كأنّه يبيّ ـ ن هذه النقطة وهي : على أن أعمل في الحياة بمقتضى العلل والعوامل الطبيعية ، ولست أعمل وفقاً لما أعلمه من الغيب.
    وهكذا نرى الأئمّة ( عليهم السَّلام ) في الأحاديث المنقولة عنهم يؤكدون على أنّ طريق قضائهم وحكمهم بين الناس هي الأسباب العادية كالشهادة واليمين لا علومهم الغيبية وذلك كما يروي الإمام الصادق ( عليها السَّلام ) عن الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » ، وأمّا ما ورد في بعض الروايات من جواز أن يحكم الإمام بعلمه في مجال اجراء الحدود فالمقصود منه هو العلم الذي يحصل عليه من الطرق العادية والأسباب الظاهرية كأن يرى الإمام بعينه شخصاً يشرب الخمر ، لا حظوا الرواية التالية : « الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب خمراً أن يقيم عليه الحد ولا يحتاج إلى بيّنة مع نظره لأنّه أمين اللّه في خلقه » (2) هذه الرواية تدلّ على أنّ المقصود من عمل الإمام بعلمه هو علمه العادي والطبيعي كما دلّت عليه لفظة « نظر » في الرواية. وإذا لاحظنا أيضاً المسائل القضائية التي وقعت في عصر الإمام أمير المؤمنين لرأينا بوضوح أنّ الإمام ( عليها السَّلام ) لم يحكم بين الناس استناداً إلى علمه الخاص عن القضية أبداً بل
    1 ـ المناقب لابن شهر آشوب ج2 ص 261.
    2 ـ وسائل الشيعة ج18 ص 344 ، نعم للإمام أن يحكم بعلمه العادي في الحقوق الالهية فقط ويقيم الحد على مرتكب الجريمة ، ولا يجوز له العمل بعلمه في حقوق الناس كأن يرى شخصاً يسرق من آخر والمسألة معنونة في الفقه فراجع الجواهر.


(456)
كان يسعى سعياً حثيثاً معداً بعض المقدّمات التي تجعل الخصمين المدّعي والمنكر يعترفان بالواقع أمامه ثم يقضي بينهما.
    ويقول السيد الطباطبائي في ( ملحقات العروة الوثقى ) حين يقول : يجوز للقاضي أن يعمل بعلمه في حل دعاوى المتخاصمين نقصد بذلك العلم الحاصل عن الطرق العادية لا العلم الحاصل عن طريق الرمل والجفر وغيرهما (1).
    ولكن الذي يستفاد من الروايات أنّ الإمام المهدي ( عج ) هو الذي يحكم بين الناس بعلمه حين ظهوره فقط وذلك كما حكم نبي اللّه داود ( عليها السَّلام ) ويقول الإمام الباقر ( عليها السَّلام ) في هذا الصدد : « إذا قام قائم آل محمد حكم بحكم داود ( عليها السَّلام ) لا يسأل عن بيّنة » (2).
    هذا وقد طال بنا الوقوف في المقام وذلك لقلع جذور الشبهة عن أذهان الشباب ، وإن كان أعداء آل البيت يبثّون كل يوم جذور الشك ولكن نور المعرفة لا يفتأ متبلجاً ، والحقائق الراهنة لا تزال متأرجة وسحب الشبه وإن أطلّت على الاُمّة ردحاً من الزمن ، لكنّها تكتسح بشمس المعرفة.
أراها وإن طالت علينا فإنّها سحابة صيف عن قليل تقشع
    نعم قام لفيف من علمائنا بتأليف كتب ثمينة حول علم النبي والإمام سدوا بها الفراغ بعض السد ودونك ما وقفنا عليه :
    1 ـ المعارف السلمانية بمراتب الخلفاء الرحمانية ، طبع بإيران على الحجر عام 1313 هجرية قمرية للعلاّمة السيّد عبد الحسين النجفي الشيرازي ( قدّس اللّه سرّه ) له ترجمة ضافية في طبقات أعلام الشيعة ج 3 ص 1048.
    2 ـ الالهام في علم الإمام ، للعلاّمة الشيخ محمد علي الحائري السنقري طبع في
    1 ـ ملحقات العروة ج2 ص 31.
    2 ـ وسائل الشيعة ج18 ص 168.


(457)
النجف عام 1370.
    3 ـ علم الإمام ، للعلاّمة الحجة المغفور له الشيخ محمد الحسين المظفر طبع بالنجف 1380 هـ أضف إلى ذلك ما أفاده العلامة المجلسي في بحاره في غير موضع من مباحث الإمامة ، شكر اللّه مساعيهم.
    4 ـ رسالة فارسية في علم الإمام ، صنّفها المفكّر الإسلامي السيد محمد حسين الطباطبائي وانتشر سنة 1391 هـ وله رسالة عربية صغيرة في هذا الموضوع أيضاً مخطوطة نحتفظ منها بنسخة.

السؤال الثالث :
مشكلة المشاركة مع اللّه :

    تمسك بهذه الشبهة في سلب العلم بالغيب من غيره سبحانه « عبد اللّه القصيمي » فقال رداً على عقيدة الشيعة في علم الأئمّة بالغيب : « فالأئمّة يشاركون اللّه في هذه الصفة صفة علم الغيب وعلم ما كان وما سيكون ، وأنّه لا يخفى عليهم شيء والمسلمون كلهم يعلمون أنّ الأنبياء والمرسلين أنفسهم لم يكونوا يشاركون اللّه في هذه الصفة والنصوص في الكتاب والسنّة وعن الأئمّة في أنّه لا يعلم الغيب إلاّ اللّه متواترة لا يستطاع حصرها في كتاب ، وهذا غني عن الإدلاء بشواهده ، ومن المؤسف المخجل لعمر اللّه أن يزعموا أنّ الأئمّة يعلمون الغيب » (1).
     الجواب :
    هذه شبهة تافهة لا تستحق الرد والبحث ، وكتابه هذا مملوء بالسب والطعن لأعلام الشيعة بما ينزه اليراع عن نقله ونحن نمرّ عليه مرّ الكرام وخفي عليه أنّ بين العلمين بوناً شاسعاً فإنّ اللّه سبحانه عالم بالغيب بذاته ، وغيره مطلع عليه باظهار منه
    1 ـ الصراع بين الإسلام والوثنية ج1 اُنظر المقدمة.

(458)
وأي تجانس بين العرضي والذاتي والمحدود وغير المحدود وأي صلة بين الأصيل في علمه ، المرسل في إدراكه وبين المتدلي في ذاته وعلمه ، الفقير في كلّ شأن من شؤونه حتى في علمه هذا فلو استلزم ذلك شركاً لزم أن يكون توصيف الممكن بالحياة والقدرة والسمع والبصر مما يجري على اللّه سبحانه أيضاً شركاً.

السؤال الرابع :
    إنّ ما تقدم من الآيات لا تدل على أكثر من اطلاع النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) على الغيب ، فما الدليل على اطلاع غيره على الغيب؟
     الجواب :
    انّ هناك روايات متضافرة تدلّ على أنّ لأئمّة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) حظاً وافراً في هذا المجال ، ويدل على ذلك :
    أوّلاً : الأخبار الغيبية التي وردت في نهج البلاغة وسيوافيك بعضها في هذه الصحائف وهي تدل بوضوح على معرفة علي ( عليها السَّلام ) واطلاعه على الغيب.
    ثانياً : الأخبار الغيبية الواردة عن أئمّة أهل البيت التي ملأت كتب علمائنا الأبرار فهذا هو الشيخ الحرّ العاملي أتى في كتابه القيم « إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات » كثيراً من الأخبار الغيبية المروية عن الأئمّة ( عليهم السَّلام ) ، ودونك احصاء ما نقله عن الحسن السبط المجتبى وغيره من الأئمّة حتى ينتهي إلى الإمام الثاني عشر فقد نقل عن الحسن بن علي المجتبى ( عليها السَّلام ) أزيد من عشرة أحاديث ومثله عن الإمام السبط الحسين ( عليها السَّلام ) ، ونقل عن الإمام سيد الساجدين عشرين حديثاً وعن الإمام الباقر ( عليها السَّلام ) خمسين حديثاً ، وعن الإمام الصادق ( عليها السَّلام ) مائة وخمسين حديثاً ، وعن الإمام الكاظم ( عليها السَّلام ) ثمانين حديثاً ، وعن الإمام الرضا ( عليها السَّلام ) مائة وثلاثين حديثاً ، وعن الإمام الجواد ( عليها السَّلام ) أزيد من ثلاثين حديثاً ، وعن الإمام الهادي ( عليهالسّلام )


(459)
قرابة خمسين حديثاً ، وعن الإمام الحسن العسكري ( عليها السَّلام ) أزيد من ثمانين حديثاً ، وعن الإمام القائم ( عليها السَّلام ) أزيد من مائة حديث.
    نعم لقد تكرر مضمون بعض الروايات ومع ذلك فإنّ الباقي يشكل مجموعة كبيرة من الإخبارات الغيبية التي فيها الكفاية لمن تأمّل.
    ثالثاً : إنّ الروايات تضافرت عنهم ( عليهم السَّلام ) بأنّ الأئمّة ورثوا علم النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وجميع الأنبياء والأوصياء الذين سبقوهم (1).
    وأنت إذا لاحظت كتاب الحجة من الكافي في مختلف أبوابها تقف على أنّ الأئمّة ( عليهم السَّلام ) وقفوا على علوم غيبية لم يعرفها غيرهم فلاحظ الأبواب التالية :
    1 ـ انّ الأئمّة شهداء اللّه على خلقه.
    2 ـ انّ الأئمّة قد اُوتوا العلم واُثبت في صدورهم.
    3 ـ انّ الأئمّة اصطفاهم اللّه من عباده وأورثهم كتابه.
    4 ـ انّ الأئمّة معدن العلم وشجرة النبوّة.
    5 ـ انّ الأئمّة ورثة العلم يرث بعضهم بعضاً العلم.
    6 ـ انّ الأئمّة ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء الذين من قبلهم إلى غير ذلك من الأبواب التي وردت فيها كيفية علومهم وكميتها.
    فعلى القارئ الكريم أن يرجع إلى هذه الأبواب.

السؤال الخامس :
    لا شك أنّ النبي الأعظم والأئمّة من أهل البيت ، قد تنبّأوا بكثير من المغيبات التي كانت الفراسة والتكهن تقتضيان خلافها ، غير انّا نراهم في بعض المقامات يتحاشون عن نسبة العلم بالغيب إليهم ، فما وجه ذلك؟
    1 ـ لاحظ الكافي ج1 ص 223 ـ 226.

(460)
الجواب :
    انّ الناظر في هذه الروايات يقف على أنّ المتبادر من العلم بالغيب في تلك العصور كان هو العلم الاستقلالي الذاتي الذي يختص باللّه سبحانه ، فهم ( عليهم السَّلام ) لصيانة شيعتهم عن الغلو والشرك ، أو لدفع أعدائهم ، صرّحوا بأنّ ما يخبرون عنه من الفتن وملاحم أحداث ليس بعلم غيب بل وراثة من رسول اللّه أو تعلّم من ذي علم إلى غير ذلك ممّ ـ ا لا ينافي ما أثبتناه من تحقق اطلاعهم على الغيب بعلم مفاض واعلام منه سبحانه ، ودونك ما وقفنا عليه من تلكم الروايات :
    1 ـ هذا أمير المؤمنين ، قد أماط الستر عن المسألة ، وعن علمه وعلم الأئمّة من بعده بالغيب ، وقد أخبر عن ملاحم (1) تحدث بالبصرة ، فاعترض بعض أصحابه وقال : « لقد اُعيطت يا أمير المؤمنين علم الغيب » ؟ فضحك ( عليها السَّلام ) وقال للرجل ـ وكان كلبياً ـ : « يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب وإنّما هو تعلّم من ذي علم ، وإنّما علم الغيب علم الساعة ، وما عدده اللّه بقوله : ( إنّ اللّه عنده علم الساعة ... ) الآية.
    فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر واُنثى وقبيح وجميل ، وسخي وبخيل ، وشقي وسعيد ، ومن يكون في النار حطباً ، أو في الجنان للنبيين مرافقاً ، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلاّ اللّه ، وما سوى ذلك ، فعلم علّمه اللّه تعالى نبيّه ، فعلّمنيه ودعا لي بأن يعيه صدري وتضطم عليه جوانحي » (2).
    وهذا البيان من مولانا أمير المؤمنين ( عليها السَّلام ) لا يدع لقائل شبهة ، ويعطي أنّ العلم بالمغيبات ، إذا كان على وجه التعلّم من الغير ليس هو علم الغيب الذي لا يعلمه إلاّ اللّه بل ليس علماً بالغيب وإنّما هو إظهار من الغير.
    2 ـ هذا الإمام الطاهر موسى الكاظم ( عليها السَّلام ) قد كشف النقاب عن وجه الحقيقة حينما سأله يحيى بن عبد اللّه بن الحسن عن علمه بالغيب وقال : « جعلت فداك
    1 ـ سوف يوافيك لفظه.
    2 ـ نهج البلاغة الخطبة 124.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس