مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 481 ـ 490
(481)
الأجدم يقتله ابن عمه على دجلة وهو إشارة إلى عز الدولة بختيار بن معز الدولة أبي الحسين ، وكان معز الدولة أقطع اليد ، قطعت يده للنكوص في الحرب ، وكان ابنه عز الدولة بختيار ، مترفاً صاحب لهو وشرب ، وقتله عضد الدولة فنّاخسرو ، ابن عمه ، بقصر الجص على دجلة في الحرب ، وسلبه ملكه ، فأمّا خلعهم للخلفاء فإنّ معز الدولة خلع المستكفي ورتب عوضه المطيع ، وبهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة ، خلع الطائع ورتب عوضه القادر ، وكانت مدة ملكهم كما أخبر به ( عليها السَّلام ) .
    وكاخباره ( عليها السَّلام ) لعبد اللّه بن العباس رحمه اللّه تعالى عن انتقال الأمر إلى أولاده فإنّ علي بن عبد اللّه لما ولد ، أخرجه أبوه « عبد اللّه » إلى علي ( عليها السَّلام ) فأخذه وتفل في فيه وحنكه بتمرة ، قد لاكها ، ودفعه إليه وقال : خذ إليك أبا الأملاك ، هكذا الرواية الصحيحة وهي التي ذكرها أبو العباس المبرد في كتاب « الكامل » (1) وليست الرواية التي يذكر فيها العدد بصحيحة ولا منقولة من كتاب معتمد عليه.
    وكم له من الاخبار عن الغيوب الجارية هذا المجرى ، ممّا لو أردنا استقصاءه لكرّسنا له كراريس كثيرة ، وكتب السير تشتمل عليها مشروحة (2).
    13 ـ قوله ( عليها السَّلام ) في خطبة تسمّى القاصعة ... ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسولاللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة وأشم ريح النبوّة ، ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فقلت : يا رسول اللّه ما هذه الرنّة؟! فقال : هذا الشيطان آيس من عبادته إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلاّ أنّك لست بنبي ولكنّك وزير (3).
    قال الشارح الحديدي : روي عن جعفر بن محمد الصادق ( عليها السَّلام ) قال كان
    1 ـ الكامل 2 : 217.
    2 ـ شرح النهج ج 7 ص 48 ـ 50.
    3 ـ نهج البلاغة طبعة عبده ج2 ص 182 ـ 183.


(482)
علي ( عليها السَّلام ) يرى مع رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قبل الرسالة الضوء ويسمع الصوت وقال له ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « لولا أنّي خاتم الأنبياء لكنت شريكاً في النبوّة فإن لا تكن نبيّاً فإنّك وصي نبي ووارثه بل أنت سيد الأوصياء وإمام الاتقياء » (1).
    ولا دليل على حمل قوله : « انّك تسمع ما أسمع » على سماع خصوص رنّة الشيطان بل هو ظاهر في العموم حسب ما يظهر من الإمام الصادق ( عليها السَّلام ) .
    14 ـ مثل اخباره عن فتنة صاحب الزنج وهو علي بن محمد بن عبد الرحيم من بني عبد القيس حيث جمع الزنوج الذين كانوا يسكنون السباخ في نواحي البصرة وخرج بهم على المهتدي العباسي في سنة خمسة وخمسين ومائتين واستفحل أمره وانتشر أصحابه في أطراف البلاد للسلب والنهب إلى أن قتله الموفق أخو الخليفة المعتمد سنة سبعين ومائتين.
    « فتن كقطع الليل المظلم ، ولا تقوم لها قائمة ، ولا ترد لها راية ، تأتيكم مزمومة مرحولة يحفزها قائدها ويجدها راكبها أهلها قوم شديد كلبهم قليل سلبهم يجاهدهم في سبيل اللّه قوم أذلّة عند المتكبرين ، في الأرض مجهولين وفي السماء معروفون ، فويل لك يا بصرة ، عند ذلك من جيش من نقم اللّه لا رهج له ولا حس وسيبتلى أهلك بالموت الأحمر والجوع الأغبر » (2).
    قال الشارح الحديدي فسّر قوم هذا الكلام بوقعة صاحب الزنج ، وهو بعيد لأنّ جيشه كان ذا حس ورهج ولأنّه أنذر البصرة بهذا الجيش ألا تراه قال : « فويل لك يا بصرة » ولم يكن قبل خروج صاحب الزنج فتن شديدة على الصفات التي ذكرها أمير المؤمنين ( عليها السَّلام ) (3).
    1 ـ الشرح الحديدي ج13 ص 210.
    2 ـ نهج البلاغة طبعة عبده الخطبة 98.
    3 ـ شرح النهج ج7 ص 104.


(483)
    هذه أربعة عشر خبراً غيبياً من روائع نصوص الإمام تدل على وقوفه على ما غاب عن الحس بإذن من اللّه سبحانه. وقد نقل الشارح الحديدي كثيراً من أخباره الغيبية في أجزاء كتابه ، وقد نقلنا بعضها في ما تقدم فلاحظ بعضها في الجزء الثاني من شرحه ص 286 ـ 295 ترى فيه أخباراً غيبية كثيرة كيف وقد روي عنه ( عليها السَّلام ) إخبارات غيبية مبثوثة في كتب الحديث والتاريخ بحيث لو جمعها جامع لخرج بسفر جليل وضخم وفيما نقلناه كفاية للقارئ الكريم.

عثرة لا تقال :
    هذا هو الحق الذي أحق أن يتبع ، وقد صدقه كتاب اللّه العزيز وأيّدته النصوص المستفيضة وأطبقت عليه الأعلام في العصور المختلفة.
    غير أنّ هذه المسألة قد أثارت في عصرنا قلقاً واضطراباً في الأوساط الدينية فحامت حولها الشبهات ، واكتنفتها أجواء تثير السخط والاستياء ، من اُناس ابتلوا بعقدة النقص أو جنون العظمة ، مع أنّ كتاب اللّه بين ظهرانيهم والنصوص المتضافرة بين أيديهم ، فلو رجعوا إلى ذينك المصدرين ، بقلب سليم وفكر مستقيم لعرفوا الحق واتبعوه ، والحق أحق أن يتبع.
    وقد وقفت بعدما كتبت هذا الفصل على « كتيب » لبعض من يضمر لأئمّة أهل البيت حقداً وعداءاً ، ويحارب كل فضيلة تثبتها النصوص لهم ، ويمتلئ صدره بالتعصب المقيت وقد أعاد فيه ما ذكره ابن تيمية ونظراؤه من الذين أكل عليهم الدهر وشرب حيث أنكر علم النبي وأوصياؤه بالغيب على وجه الاطلاق وعزاه إلى جمهور الإمامية وفطاحلهم ، قائلاً بأنّ فكرة علمهم بالغيب ، اسطورة حدثت في الآونة الأخيرة بيد الغلاة. واستشهد على ذلك بما ذكره أمين الإسلام في كتابه ، حيث قال في تفسير قوله سبحانه : ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الغُيُوبِ ) ( المائدة ـ 109 )


(484)
ما هذا لفظه :
    وذكر الحاكم أبو سعيد في تفسيره : انّها تدل على بطلان قول الإمامية : إنّ الأئمّة يعلمون الغيب وأقول : إنّ هذا القول ظلم منه لهؤلاء القوم ، فإنّا لا نعلم أحداً منهم بل أحداً من أهل الإسلام يصف أحداً من الناس بعلم الغيب ومن وصف مخلوقاً بذلك فقد فارق الدين ، والشيعة الإمامية براء من هذا القول ومن نسبهم إلى ذلك فاللّه ما بينه وبينهم (1).
    غير أنّه عزب عن هذا المسكين أنّ ما ذكره « أمين الإسلام » لا يمثّل رأي الشيعة الإمامية في الموضوع ، وإنّما هو رأي واحد منهم ولا يمثّل رأي الجميع ولا يؤخذ الجمع بفعل الواحد ورأيه.
    أضف إلى ذلك : أنّ ما ذكره أمين الإسلام لا يهدف إلاّ إلى ما ذكرناه ، وانّ الممنوع توصيفهم باطلاعهم على الغيب على غرار علمه سبحانه ، بشهادة قوله : « ومن وصف مخلوقاً بذلك فقد فارق الدين » إذ أي صلة بين مفارقة الدين والقول بأنّ اللّه سبحانه أظهر غيبه لأحد أوليائه ، واطلع هو على الغيب من تلك الناحية وتعرف بتعليم منه سبحانه.
    ولو رجع الكاتب إلى موضع آخر من كتابه ولم يقصر نظره على موضع واحد منه ، لوقف على مغزى ما رامه فإنّه قدّس اللّه سرّه قد حقّق المسألة في موضع آخر من كتابه.
    قال في تفسير قوله سبحانه : ( وَللّهِ غَيْبُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَ مَا رَبُّكَ بِغَافِل عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( هود ـ 123 ) ما هذا لفظه : وجدت بعض المشايخ ممّن يتّسم بالعدوان والتشنيع قد ظلم الشيعة الإمامية في هذا الموضع من تفسيره فقال : « هذا يدلّ على أنّ اللّه سبحانه يختص بعلم الغيب خلافاً لما تقول الرافضة : إنّ الأئمّة يعلمون الغيب » ولا شك أنّه عنى بذلك من يقول بإمامة
    1 ـ مجمع البيان ج2 ص 261 ط صيدا.

(485)
الاثنى عشر ويدين بأنّهم أفضل الانام بعد النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فإنّ هذا دأبه وديدنه فيهم ، يشنع في مواضع كثيرة من كتابه عليهم ، وينسب الفضائح والقبائح إليهم ، ولا نعلم أحداً منهم استجاز الوصف بعلم الغيب لأحد من الخلق ، فإنّما يستحق الوصف بذلك من يعلم جميع المعلومات لا بعلم مستفاد ، وهذه صفة القديم سبحانه ، العالم لذاته لا يشاركه فيها أحد من المخلوقين ومن اعتقد أنّ غير اللّه سبحانه يشاركه في هذه الصفة فهو خارج عن ملّة الإسلام.
    فأمّا ما نقل عن أمير المؤمنين ( عليها السَّلام ) ورواه عنه الخاص والعام من الأخبار بالغائبات في خطب الملاحم وغيرها مثل قوله وهو يومي به إلى صاحب الزنج ، كأنّي يا أحنف وقد سار بالجيش الذي ليس له غبار ولا لجب ولا قعقعة لجم ، ولا حمحمة خيل يثيرون الأرض بأقدامهم كأنّها أقدام النعام.
    وقوله يشير إلى مروان أمّا أنّ له امرة كلعقة الكلب أنفه ، وهو أبو الأكبش الأربعة وستلقي الاُمّة منه ومن ولده موتاً أحمر ، وما نقل من هذا الفن عن أئمّة الهدى ( عليهم السَّلام ) من أولاده مثل ما قاله أبو عبد اللّه ( عليها السَّلام ) لعبد اللّه بن الحسن وقد اجتمع هو وجماعة من العلوية والعباسية ليبايعوا ابنه محمداً ، واللّه ما هي إليك ولا إلى ابنيك ولكنّها لهم وأشار إلى العباسيين وأنّ ابنيك لمقتولان ، ثمّ نهض وتوكأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهري فقال له : أرأيت صاحب الرداء الأصفر؟ ـ يعني أبا جعفر المنصور ـ قال : نعم ، فقال : إنّا واللّه نجده يقتله. فكان كما قال.
    ومثل قول الرضا ( عليها السَّلام ) : بورك قبر طوس وقبران ببغداد ، فقيل له : قد عرفنا واحداً فما الآخر؟ قال : ستعرفونه ، ثمّ قال : قبري وقبر هارون هكذا ـ وضم أصبعيه ـ (1) وقوله في القصة المشهورة لأبي حبيب النباحي وقد ناوله قبضة من التمر لو زادك رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم )
    1 ـ نظير قوله لموسى بن مهران في مسجد المدينة عندما كان هارون يخطب : أترونني وإياه ندفن في بيت واحد ، عيون أخبار الرضا ج2 ص 226.

(486)
لزدناك ، وقوله من حديث علي بن أحمد الوشاء حين قدم مرو من الكوفة : « معك حلّة في السفط الفلاني دفعتها إليك ابنتك وقالت اشتر لي بثمنها فيروزجاً » والحديث مشهور إلى غير ذلك ممّا روي عنهم ( عليهم السَّلام ). فإنّ ذلك متلقّى عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ممّا أطلعه اللّه عليه ، فلا معنى لنسبة من روي عنهم هذه الأخبار المشهورة إلى أنّه يعتقد كونهم عالمين بالغيب ، وهل هذا إلاّ سب قبيح وتضليل لهم بل تكفير لا يرتضيه من هو بالمذاهب خبير واللّه يحكم بينه وبينهم وإليه المصير (1).

هل استأثر اللّه بعلم هذه الاُمور؟
    قد اشتهر بين المفسّرين أنّ هناك اُمور خمسة استأثر اللّه بعلمها وحده ، لا يجليها لغيره واستندوا في ذلك إلى قوله تعالى :
    ( إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الغَيْثَ وَ يَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْض تَمُوتُ إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ ) ( لقمان ـ 34 ) ويؤيده ما روي من اختصاص العلم بهذه الاُمور الخمسة باللّه تعالى وأنّ غيره لا يطلع عليها أبداً وقد جرت مشيئة اللّه على كتمان العلم بهذه الاُمور عن خلقه.
    ولقائل أن يقول : لا محيص عن صحة ما ذكروه في الأربعة التالية : علم الساعة ، العلم بما في الأرحام ، العلم بما يكسبه الانسان في مستقبل أيامه ، وعلمه بالأرض التي يموت فيها الانسان ، وأمّا اختصاص العلم بوقت نزول الغيث به سبحانه فلا تفيده الآية إذ أنّه تعالى يقول : ( وينزّل الغيث ) ، ولم يقل : وعنده علم نزول الغيث.
    ويدفع بأنّ العلم بوقت نزول الغيث لو لم يكن مثل الأربعة الباقية لكان الاتيان
    1 ـ مجمع البيان ج3 ص 205 وقوله للمأمون عندما ذاكره بقوله : ندخل بغداد إن شاء اللّه فنعمل كذا وكذا ، فقال له الرضا : تدخل أنت بغداد يا أمير المؤمنين ، ثم سأله أحد أصحابه عن ذلك ، فقال : ( وما أنا وبغداد؟! لا أرى بغداد ولا تراني ) عيون أخبار الرضا ج2 ص 225.

(487)
به عندئذ اقتضاباً بلا جهة وعطفاً بلا مناسبة فلأي وجه أورده في هذه الآية في عداد الاُمور التي سلّمنا اختصاص علمها به سبحانه وليس هو منها ، فلأجل الالتزام بوجود المناسبة بين المتعاطفات لا مفر من القول باختصاص علمه به سبحانه أيضاً.

دفع شبهة :
    ربّما يتخيل بل يقال : كيف استأثر اللّه بعلم هذه الاُمور ، والنشرات الجوية ، لدائرة الأنواء الجوية تعيّن أوقات نزول الغيث والوفر والاختبارات الطبية تبين وضع الجنين وأنّه ذكر أو اُنثى ، ولكنّها مدفوعة بما يلي :
    1 ـ إنّ اللّه سبحانه واقف على وضع الجنين من بدء تكونه في رحم اُمّه ، حينما يكون خليّة فيها ، ليس لها من الصور المعتورة عليه شيء ، إلى أن تضعه اُمّه ، فهو سبحانه يعلم حين ما هو خليّة في رحمها ، أنّه ذكر أو اُنثى ، وليس ذلك مقدوراً للبشر وإن أطل بنظ ـ ره عليها بأشعة قوية كهربائية أو باختبارات طبية ، فالعلم بذكورة الجنين أو اُنوثته ، من بدء وجوده إلى ختامه ، مخصوص به سبحانه ، ولا يشاركه في هذا الحد الوسيع أحد من البشر.
    2 ـ إنّ تخصيص قوله سبحانه : ( ويعلم ما في الأرحام ) بأحد الوصفين المذكورين ( الذكورة والانوثة ) مخالف لاطلاق كلامه ، فإنّ الظاهر منه أنّه سبحانه يعلم جميع حالات ما في الأرحام ، وأنّه ذكر أو اُنثى ، قبيح أو جميل ، سخي أو بخيل ، شجاع أو جبان ، سعيد أو شقي ، مرافق النبيين في الجنان أو حطب لنار جهنّم إلى غير ذلك من الصفات والروحيات التي لا يتمكّن البشر من الوقوف عليها عندما كان صاحب الصفات جنيناً في رحم اُمّه ، وهذا التعميم وشمول الآية للصفات الظاهرية والباطنية صريح كلام الإمام أمير المؤمنين ( عليها السَّلام ) في نهج البلاغة (1).
    1 ـ راجع نهج البلاغة الخطبة 126.

(488)
    وأمّا النشرات الجوية التي تصدرها دائرة الأنواء الجوية الدارجة في الحضارة الفعلية ، فهي أنباء ظنية على اُصول وتجارب واستطلاع على أوضاع تكتسبها دائرة الأنواء الجوية من مختلف البلدان قريبها وبعيدها ـ ومع ذلك ـ فلا تخرج عن دائرة الحدس والظن ، وليست مصونة عن الخطأ كما هو الشاهد لكل من يصغي إليها ثمّ يرجع إلى فسيح الكون ويطبّقها عليه.
    توضيحه : أنّ لكل من الاُمم عبر الأجيال والقرون ، تجارب في هذا الباب كانوا يستكشفون بها على سبيل الظن والتخرّص ، مواقع نزول المطر والثلج ، حتى أنّ القرويين والبدو ، كانوا يستطيعون التنبّؤ بحالة الطقس المقبلة من صحو أو مطر ، وما أشبه ذلك من بعض الظواهر الجوية كإتجاه الريح مثلاً. بل كانوا يستكشفون بغير ذلك من نزول الكلب من سطح البيت إلى داخله وقد حكي أنّ نصير الدين الطوسي ( ذلك الفلكي العظيم ) نزل في بعض أسفاره على طحان له طاحونة خارج بعض البلاد فلمّا دخل المنزل صعد السطح لحرارة الهواء ، فقال له صاحب البيت : أنزل ونم في داخل البيت لأجل نزول المطر فنظ ـ ر « نصير الدين » إلى الأوضاع الفلكية ، فلم ير شيئاً يورث الظن بنزول المطر ، فقال له الطحّان : أنّ لي كلباً ينزل في كل ليلة يحس بأنّ المطر سينزل فيها إلى البيت ، فلم يقبل ذلك منه المحقّق ، وبات فوق السطح فأدركه المطر أثناء الليل وتعجّب المحقق الطوسي (1).
    نعم الأدوات الحديثة لتعيين درجة الحرارة في الجو وارتباط مختلف البلدان بعضها ببعض ، بواسطة أجهزة البرق السلكية واللاسلكية ، وتبادل المعلومات فيما بينها عن الحالة الجوية ساعة فساعة ، هذه الأدوات احتلّت مكان التجارب السالفة وساعد على امكان التنبّؤ بتقلّبات الطقس بالاستنتاج والتخمين.
    ومع ذلك فإنّ استنتاجات دائرة الأنواء الجوية لا تكون صائبة دائماً فكثيراً ما
    1 ـ مكاسب الشيخ الأنصاري ص 25.

(489)
تخطئ في تخمينها ، ولا تخبر عما تخبر إلاّ بالظن والترديد ، بل على نحو الاجمال في جانب والاهمال في جانب آخر ، ولاتستطيع أن تحدد وقت نزول المطر ومحال نزوله دقيقاً ، وأنّه في أي ساعة أو على أي مكان من الأرض العظيمة ينزل.
    وأعجب منه أنّه إذا شوهد منها التخلف حتى في مجمل ما أخبرته تراها تتمسّك باعذار كاشفة عن قصور باعها وعدم احاطتها بما في الجو الفسيح ، من الأحوال والأوضاع.
    وأمّا الاختبارات الطبّية ، فاعطف نظرك إلى بعض ما ذكره بعض الاخصائيين في المقام لتقف على أنّ تحديد نوع المولود يرجع في جوهره إلى الصدفة ، أو إلى الاحتمالات التي يعجز العلم عن التنبّؤ بها قال (1) :
    توجد في كل فرد غدتان تناسليتان وتختلف الغدد الذكرية عن الغدد الاُنثوية في مكانها التشريحي بالجسم ، وفي وظائفها الأوّلية والثانوية وفي تأثيرها على شخصية الفرد.وتؤثر هذه الغدد ، بهرموناتها المختلفة في التفرقة بين الذكر والاُنثى ، ولهذه الفروق الجنسية أثر قوي في سرعة النمو ، وفي تباين اختلاف مظاهره.
    هذا وتنشأ الاختلافات الجنسية منذ اللحظة الاُولى التي تتكوّن فيها البويضة المخصبة أي عندما تلتقي الصبغيات الذكرية بالصبغيات الاُنثوية في نواة البويضة وتتميز البويضة بأنّها تحتوي على صبغة خاصة بالجنس ، توجد دائماً بصورة واحدة نرمز لها بالرمز ( س ) ويتميّز الحي المنوي بوجود صبغى خاص بالجنس يوجد أحياناً ، بصورة تماثل صورة الصبغة الاُنثوية ولذلك يرمز لها بالرمز ( س ) أيضاً ويوجد أحياناً بصورة اُخرى يرمز لها بالرمز (ص) فإذا احتوت البويضة المخصبة على الصبغيين ( سس ) كان الجنين اُنثى. وإذا احتوت على الصبغيين ( سص ) كان الجنين ذكراً ، وهكذا يتحدد الجنس منذ اللحظة الاُولى في تكوين البويضة المخصبة وبذلك يسيطر الحي المنوي على
    1 ـ الاُسس النفسية للنمو تأليف الدكتور فؤاد البهي مدرّس علم النفس بجامعة عين الشمس.

(490)
نوع الجنس ، أي أنّ الجنس ذكراً كان أم اُنثى يرجع في جوهره إلى الرجل لا إلى المرأة وإذا عرفنا أنّ عدد الحيوانات المنوية الذكرية في كل نطفة يربو على 000/000/200 حي ذكري عرفنا بعد ذلك أنّ تحديد نوع المولود يرجع في جوهره إلى الصدفة أو الاحتمالات التي يعجز العلم عن التنبّؤ بها.

نظرنا في الموضوع :
    إلى هنا جرينا على مسلك المفسّرين في تفسير الآية ودفعنا عنهم ما اُشكل عليهم وقد أرسلوه إرسال المسلّمات وأيّدوها بروايات سوف نوضّح حالها ، ومدى صحتها ، غير أنّ هنا احتمالاً آخر ، ربّما يكون أقرب إلى ظاهر الآية ممّا ذكروه ودونك بيانه :
    انّ لسان الآية في بيان علمه سبحانه بهذه الأشياء الخمسة ، ليس على نسق واحد بل على وجوه ثلاثة :
    1 ـ لسان الحصر : وهذا يختص بالعلم بوقت الساعة من الاُمور الخمسة ، فتراه يقول : ( وعنده علم الساعة ) بتقديم الظرف على المبتدأ وهو يفيد الحصر ولا تجد هذا السياق من الكلام في الأربعة الباقية ، ولأجل ذلك تراه غير أسلوب الكلام عندما أراد أن يبيّن تعلّق علمه بغير الساعة وقال : ( وينزّل الغيث ويعلم ما في الأرحام و ... )
    وعلى هذا لا بأس بما ذكروه في هذا القسم ، فإنّ ظاهر الآية يشير إلى أنّ العلم بوقت الساعة مختص به سبحانه لا يعدو غيره.
    وتؤيّده آيات اُخر ، وردت في هذا المضمار قال سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهآ إِلاَّ هُوَ ) ( الأعراف ـ 187 ) وقال : ( يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُهَا عِنْدَ اللّهِ ) ( الأحزاب ـ 63 ) وقال تعالى : ( إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ ما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرات مِّنْ أَكْمَامِهَا وَ ما تَحْمِلُ مِنْ اُنْثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ ) ( فصلت : 47 ) ترى أنّه سبحانه في هذه الآية الأخيرة عندما أنهى غرضه عن
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس