مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 491 ـ 500
(491)
رد علم الساعة إليه ، غيّر اُسلوب كلامه من الحصر ، إلى اُسلوب لا يفيد سوى علمه بهذه الاُمور ، وأنّه لا تخرج ثمرة من أوعيتها وغلفها ، ولا تحمل اُنثى ، ولا تضع اُنثى ، إلاّ في الوقت الذي يعلم سبحانه أنّه تخرج منها أو تحمل وتضع فيه.
    ونظيره قوله سبحانه : ( وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ( الزخرف ـ 85 ) وقوله : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا ) ( النازعات ـ 44 ) وقد فسّر الطبرسي قوله : ( فيمَ أَنُتَ منْ ذِكْرَاهَا ) بقوله : أي لست في شيء من علمها وذكراها.
    ولأجل اختصاص علمه باللّه سبحانه ، لما سئل عن وقت الساعة وتعيين تاريخها أعرض سبحانه عنه ، وأخذ ببيان علائمها وأشراطها كما في قوله سبحانه : ( يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القِيَامَةِ * فَإِذا بَرِقَ البَصَرُ * وَ خَسَفَ القَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَ القَمَرُ * يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذ أَيْنَ المَفَرُّ ) ( القيامة : 6 ـ 10 ).
    فإذا أمعنا النظر في هذه الآيات وما فيها من السياق الواحد المفيد للحصر والقصر ، لا نشك في صحة ما ذكره المفسّرون في جريان مشيئته سبحانه على كتمان العلم بوقتها عن غيره ولعلّ هنا من يفرّق بين قوله : ( وعنده علم الساعة ) وقوله : ( قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلاّ اللّه ) حيث حملنا الثاني على العلم الأزلي الذاتي ، وقلنا إنّ المختص باللّه سبحانه ، هو هذا القسم دون العلم المستفاد المفاض منه ، سبحانه إلى عباده ، وأنّ الآية لا تشمل ما كان من العلم اكتسابياً ، وعلى فرض عمومه لكلا القسمين ، يمكن تخصيصها بما دلّ على اطلاع الرسول على الغيب نظير قوله سبحانه : ( فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَّسُول ) ( الجن : 26 ـ 27 ).
    وأمّا قوله سبحانه : ( وعنده علم الساعة ) فلأنّ تضافر الآيات على حصر خصوص العلم بالساعة به سبحانه والتصريح به في كل مورد تحدث عنه ، باسلوب يغاير اسلوب ما عداه كما عرفت فيما تقدم من الآيات ، ربّما يؤكد نظر المفسرين من أنّه


(492)
ممّا استأثر بعلمه لنفسه ، نعم امكان اطلاع النبي على وقتها بمكان من الامكان إلاّ أنّ البحث في وقوعه لا في امكانه (1).
    هذا كله راجع إلى صدر الآية وهو القسم الأوّل من سياقها وإليك بيان الثاني والثالث منه.
    الثاني : اثبات علمه بوقت نزول الغيث وما في الأرحام من دون قصر العلم بهما عليه سبحانه.
    الثالث : التصريح بجهل البشر بما يكسب غداً وبالأرض التي فيها تموت ولكن استفادة الاستئثار من هذين القسمين ، لا يخلو من غموض وخفاء بل لا يدل عليه فإنّ أقصى ما يستفاد منها عدم اطلاع البشر عليها من عند نفسه ، وهذا لا ينافي اطلاعه عليها بتعليم من اللّه سبحانه كسائر الاُمور الغيبية ، وتخصيص هذه الموارد بالذكر مع كون الجميع كذلك ، للحث على علم الواجب سبحانه بجلائل الاُمور ودقائقها وجهل البشر بما يهمّه ولا يدل على جريان مشيئة اللّه على كتمانها عن كل بشر وعدم اعلامها لأحد.
    بل يمكن أن يقال : إنّ نفي العلم عن الانسان بهذه الاُمور الأربعة كما لا ينافي امكان اطلاعه عليها بإذن اللّه واعلامه ، فهكذا لا ينافي امكان وقوف البشر عليها في ظل النواميس الكونية التي تم اكتشافها ، والأدوات العلمية التي تم اختراعها ، فإنّ مثل هذا العلم خارج عن مرمى الآية على احتمال قوي ، بل هي ناظرة إلى أنّ البشر ، بما هو هو من غير أن يستعين بشيء لا يتمكن من الوقوف على هذه الاُمور. وهذا لا ينافي امكان اطلاعه عليها بتعليمه سبحانه أو باتصاله بعوالم روحية أو باستخدام وسائل وأدوات
    1 ـ ومع ذلك كلّه فيمكن أن يقال : إنّه لو لم يكن هنا سوى قوله سبحانه : ( وعنده علم الساعة ) لم يصح لنا الحكم البات بأنّه ممّا استأثر بعلمه لنفسه ، وإنّما يصح الحكم بعد ملاحظة ما ورد في المقام من الآيات التي عرفتها فلاحظ.

(493)
تورث الظن أو العلم بأوضاعها.
    انّ الطبيب ربّما يحدس أو يخبر على سبيل القطع عن حال مريضه ، وأنّ الموت سوف ينشب أظفاره في وقت كذا ، ويصيب في اخباره هذا ، فكما أنّ هذا النحو من العلم لاستناده إلى الامارات والعلائم والأدوات الطبية ، المورثة للظن أو العلم ، خارج عن مفاد الآية ، فهكذا ما يستند إليه الانسان في كشف المغيبات من الوسائل والاختبارات.
    ولأجل ذلك نرى النبي والخلفاء من بعده ، تنبّأوا بمستقبل أحوالهم ، وما يحل بهم من نعمة ونقمة وعن زمان موتهم ومكانه.
    وقد رأينا بعض المخلصين من عباده ، تنبّأوا بزمان موتهم ومكانه ، وما يحل بهم من أزمة وأزمات ونقل ذلك أيضاً عن كثير من الصلحاء ، فكيف يمكن القول بأنّه سبحانه استأثر بهذه الاُمور ، أو ما أخبر يوسف عما يكسبه صاحباه غداً فقال : ( أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَ أَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَّأْسِهِ ) ( يوسف ـ 41 ) وأي فرق بين العلم بما يكسبه الانسان نفسه وما يكسبه الغير.
    وما ربّما يقال : من تخصيص ظاهر الآية بما ثبت من تنبؤ بعض المعصومين بما يحل بهم ومكان موتهم وزمانه لا طائل تحته ، فإنّ لازم هذا التخصيص هو طرح تلكم الروايات لا تخصيصها لأنّه عندئذ ينتقض الاختصاص ولا يصدق الاستئثار أبداً فإنّ الاستئثار يتوقف على كتمان العلم بها عن كل أحد إلى يوم القيامة.
    أضف إلى ذلك : أنّ من الممكن القريب أن تصبح الوسائل العلمية دقيقة فنطلع على مواقع نزول المطر ونعرف الجنين أهو ذكر أو اُنثى.

عرض وتحليل :
    اعتمد المشهور في تفسير الآية على روايات لم يصح أكثرها ولم تثبت صحة اسنادها ودونك بيان ما وقفنا عليه :


(494)
    1 ـ روى الصدوق في خصاله عن ابن الوليد ، عن الصفار ، عن ابن هاشم ، عن عبد الرحمان بن حماد ، عن إبراهيم بن عبد الحميد بن أبي اُسامة ، عن أبي عبد اللّه قال : قال لي أبي : ألا أخبرك بخمسة لم يطلع اللّه عليها أحداً من خلقه؟ قلت : بلى ، قال : « إنّ اللّهعنده علم الساعة وينزل الغيث ... » (1).
    ورجال الحديث كلّهم ثقات غير عبد الرحمان بن حماد وعبد الحميد فإنّ الأوّل مهمل لم يتضح حاله بوثاقة أو ضعف ، وأمّا عبد الحميد بن أبي اُسامة فإنّه مختلف فيه وإن رجّح شيخنا العلاّمة التستري في قاموسه وثاقته.
    2 ـ روى صاحب البصائر عن أحمد بن محمد عن محمد بن سنان عن أبي الجارود عن الأصبغ بن نباتة قال سمعت أمير المؤمنين يقول : إنّ للّه علمين علم استأثر به في غيبه فلم يطّلع عليه نبيّاً من أنبيائه ولا ملكاً من ملائكته وذلك قول اللّه تعالى : ( إنّ اللّه عنده علم الساعة ... ) (2) والحديث ضعيف الاسناد لأجل « محمد بن سنان » فقد ضعّفه كثير من علماء الرجال وأمّا أبو الجارود فهو زيدي.
    3 ـ ما رواه القمي في تفسيره (3) مرسلاً عن الصادق ومضمونه قريب ممّا رواه الصدوق في خصاله.
    وأمّا ما رواه الحافظ جلال الدين السيوطي في الدر المنثور عن عكرمة أنّ رجلاً جاء إلى النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فقال : يا محمد متى قيام الساعة؟ وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب؟ وقد تركت امرأتي حبلى فمتى تلد؟ وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غداً؟ وقد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت؟فنزلت الآية (4) فلا ينطبق على ظاهر الآية
    1 ـ الخصال ص 290 طبع مكتبة الصدوق.
    2 ـ بصائر الدرجات ص 31.
    3 ـ تفسير علي بن إبراهيم القمي ص 510 وقد جمع أحاديث الباب العلامة المجلسي في بحاره راجع ج26 ص 101 ـ 103.
    4 ـ الدر المنثور ج5 ص 169.


(495)
فإنّ المتبادر من قوله : ( ويعلم ما في الأرحام ) هو العلم بخصوصية الجنين لا العلم بوقت ولادته كما هو ظاهر الحديث مضافاً إلى ما في سنده من الضعف الظاهر لانحراف عكرمة عن أمير المؤمنين ، وأخذه الحديث من اُناس لا خلاق لهم من الدين.
    هذه الأحاديث لا يصح الاعتماد عليها إلاّ على ما نقله الرضي في نهج البلاغة عن الإمام ( عليها السَّلام ) من أنّ علم الغيب علم الساعة ، وما ذكره اللّه سبحانه بقوله : ( انّ اللّه عنده علم الساعة ... ) فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلاّ اللّه (1).
    وهو مما يجب تأويله وتوجيهه على وجه لا ينافي ما تواتر من الروايات من تنبؤ المخلصين بزمان موتهم ومكانه ، وما يلم بهم من خير وشر خصوصاً إذا وقفنا على أنّ الإمام ألقى كلامه هذا تجاه النواصب والمخالفين الذين سمعوا من الإمام في البصرة من الأسرار ما لا يتحملون ، فاعترضوا عليه بأنّه تنبؤ بالغيب ، فأجابهم وصد اعتراضهم بأنّه ليس بعلم الغيب ، بل تعلم من ذي علم ، وإنّما الغيب هو الساعة ، وما عدده سبحانه ... ».
    وبما أنّ الكلام ورد في مقام اسكات الخصم يمكن تأويله باحدى الوجوه التي ذكرها العلامة المجلسي في بحاره (2).
    وأوضحها : أن يكون العلم الحتمي بها مختصاً به تعالى وكل ما أخبر اللّه به من ذلك كان محتملاً للبداء والغرض من تخصيص هذه الموارد بالذكر مع أنّ الجميع كذلك لأجل الحث على جهل البشر بما يهمّه ، واللّه سبحانه هو العالم بحقائق كتابه.
    وإليك نص عبارته :
    الأوّل : أن يكون المراد أنّ تلك الاُمور لا يعلمها على التعيين والخصوص إلاّ اللّه تعالى فإنّهم إذا اخبروا بموت شخص في اليوم الفلاني فيمكن أن لا يعلموا خصوص
    1 ـ قد أسلفنا لفظ الحديث فراجع صفحة 458 من كتابنا.
    2 ـ بحار الأنوار ج 26 ص 103 ـ 104.


(496)
الدقيقة التي تفارق الروح الجسد فيها مثلاً ، ويحتمل أن يكون ملك الموت أيضاً لايعلم ذلك.
    الثاني : انّ العلم الحتمي بها مختصاً به تعالى ، وكل ما اخبر اللّه به من ذلك كان محتملاً للبداء.
    الثالث : أن يكون المراد عدم علم غيره تعالى بها إلاّ من قبله فيكون كسائر الغيوب ويكون التخصيص بها لظهور الأمر فيها أو لغيره.
    الرابع : ما أومأنا إليه سابقاً وهو أنّ اللّه تعالى لم يطلع على تلك الاُمور كلية أحداً من الخلق على وجه لا بداء فيه ، بل يرسل علمها على وجه الحتم في زمان قريب من حصولها كليلة القدر أو أقرب من ذلك ، وهذا وجه قريب تدل عليه الأخبار الكثيرة إذ لابد من علم ملك الموت بخصوص الوقت كما ورد في الأخبار ، وكذا ملائكة السحاب والمطر بوقت نزول المطر ، وكذا المدبرات من الملائكة بأوقات وقوع الحوادث.

(497)
الفصل الثامن
سيرة النبي الأعظم
وصفاته وأسماؤه
في القرآن الكريم
    بالرغم من أنّ جوانب حياة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) واسعة المدى ، فسيحة الأرجاء ، متعددة الجهات ، مختلفة النواحي ، فقد عني المسلمون منذ فجر الإسلام وانبثاق الدعوى الالهية في ربوع العالم ، بضبط ما يرجع إلى حياته ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ممّا دق وجل من قول ولفظ ، وفعل وعمل ، وما في تاريخه من نوادر وطرائف ونقاط ، فما صدر منه كلام إلاّ نقلوه ، أو فعل إلاّ ضبطوه ، أو سنّة إلاّ سجلوها ، وقد بلغوا الغاية في ذلك حتى دوّنوا حياة أصحابه وتابعيه وما ينسب إليه وإليهم بأدنى مناسبة. فترى في غضون المعاجم والسير كثيراً ممّا يرجع إليه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من الاُمور التي قلّما تخطر على بال بشر أن يصفها أو يسجلها كتوصيف نعله ، وسواكه ، ومشطه ، ومكحلته ، ومرآته ، وقدحه ، وسيوفه ، ودروعه ، وتروسه ، ورماحه ، وسوطه ، ورايته ، ومغفره ، وأعلام خيوله ، وابله ، وبغلته ، وحماره ، ومنايحه من الغنم ، ومواليه وحجر أزواجه ، وفسطاطه ، وقصعته ، وقعبه ، وعمامته ، وخاتمه ، وأصناف لباسه ، وطولها ، وعرضها ، وشعره ، وشيبه ، وكيفية خضابه ، ونومه ، ومأكله والطعام الذي يعجبه ،


(498)
حتى سجلوا الأبار التي شرب منها ، والخمرة التي كان يصلّي عليها ، إلى غير ذلك من نوادر الاُمور التي لا يهتم بذكرها وضبطها بالنسبة إلى البشر العاديين.
    كل ذلك دليل على شدة ما كان يتمتع به النبي من ود وحب عريق ، إلى حد قيض همة ثلة جليلة من فطاحل المسلمين وأكابرهم لضبط وتسجيل كل ما يرجع إليه كبيراً أو صغيراً شرعياً أو عرفياً (1).
    فألّفوا في كل ناحية من نواحي حياته كتباً زاخرة ورسائل طافحة أو عقدوا لها فصولاً في كتب السير والتاريخ ، ولقد زخرت المكتبة الإسلامية بأثار هذا النشاط بل زخرت مكتبات اُخرى في لغات واُمم اُخرى بكتب ورسائل في هذا المضمار إلى حد يقف العقل أمامها حائراً مشدوهاً يخالجه مزيج من الاعجاب والمهابة.
    والعجب أنّ الركب بعد سائر لم يقف ، ولم يفتر ، وهذه الكتب مع كثرتها لم تشبع نهمتهم ، وما قضت وطرهم في تحليل حياة النبي ، حتى انّنا نرى الأكابر من العلماء في كل عصر وجيل إلى عصرنا هذا ، يكتبون كتباً زاخرة في حياة النبي ويؤلّفون رسائل طافحة بالتحقيق والتحليل ، حتى يغنوا بذلك الناشىء الجديد عن أساطين التاريخ وأفانين الرواية ورسائل المستشرقين ويقدمون له ما يسد جوعته ويجعل المسلم الحر يرتشف من المنهل العذب.
    وعلى ضوء هذه الكتب والجهود الجبارة التي تحمّلها لفيف من علماء المسلمين بل فئة كبيرة منهم ، لم يتركوا في حياة النبي مبهمة إلاّ كشفوا أستارها ورفعوا النقاب عن وجهها ، أو جانباً مجهولاً إلاّ حدّدوه وعيّنوه بأدق وجه وأنصع بيان.

عناية القرآن ببيان صفات النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) :
    ولم تكن عناية القرآن ببيان نواح من حياة النبي الجليلة وشؤونه الدقيقة بأقل من
    1 ـ راجع الطبقات الكبرى ج1 ص 360 وتاريخ الطبري ج1 ص 417 ـ 428 وبحار الأنوار ج 16 ص 82 ـ 229 وغير ذلك من المجاميع التاريخية والحديثية.

(499)
عناية المسلمين ضبطاً وتسجيلاً ، فإنّ القارئ يجد في مختلف السور والآيات ، صوراً واضحة رائعة من صفات النبي وفضائل أخلاقه وكرائم نعوته إلى حد يقف الانسان على روحياته ونفسياته ومختلف أقواله وأفعاله ، ويقدر مع التدبر التام فيما نزل في حقه من الآيات على الاحاطة بمراحل حياته منذ بعث بل منذ نعومة أظفاره إلى أن فارقها إلى الرفيق الأعلى ، ولعلنا نرجع إلى ذلك في مستقبل الأيام (1).
    فالرجوع إلى نفس القرآن واستخراج سيرة النبي وصفاته ونفسياته وأفعاله من خلال آياته الكريمة ، أوثق وأسد الطرق لدراسة شخصية النبي الأعظم ، فالتدبر في هذا القسم من الآيات ، يعطي لنا صورة واضحة عن حياة النبي وشخصيته الفذة ، وعبقريته النادرة ، وما أودعه اللّه فيها من مواهب وقوى خلقية ونفسية وعقلية ، بلغت الذروة والروعة والعظمة ، ويغنينا عن المبالغات التي يعمد إليها بعض فرق المسلمين من غير سند وثيق.
    إنّ تلكم الآيات تصلح أن تكون رداً حاسماً وقوياً على الموقف المنكر الذي يقفه المغرضون من المبشرين والمستشرقين من أخلاق النبي وفضائله ، إذ يتجاهلون أو يغفلون عن ما في القرآن من نصوص ، ويتمسكون دونها بالروايات التي ربّما تكون مخترعة أو مدسوسة ومزوّرة ، فينسبون إلى ساحة النبي الأكرم ما هو بري منه ، في حين أنّ في القرآن من الآيات ما فيه كل المقنع لمن لم يختم اللّه على قلبه بما كان عليه من الرحمة والصدق والبساطة والتجرد والزهد والاستغراق في اللّه والتحلّي بالمثل العليا واعطاءه القدوة الحسنى لذلك كله.
    فقد أشار سبحانه إلى مكانته المرموقة ولزوم توقيره وتكريمه ، وأنّه لا يصلح دعاؤه كدعاء بعضنا بعضاً بقوله سبحانه : ( يآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ
    1 ـ وقد وقفنا بعد ما كتبنا هذا الفصل على ما ألفه « محمد عزة دروزة » في هذا المضمار وأسماه « سيرة الرسول » وهي صورة مقتبسة من القرآن الكريم وذكر في مقدمة الكتاب ، الحوافز التي دفعته إلى تأليف كتابه وقد طبع في مطبعة الاستقامة بالقاهرة في جزءين وقد راجعنا هذا الكتاب بعض المراجعة عند تقديم هذا الفصل إلى الطبع.

(500)
النَّبِيِ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ ) ( الحجرات : 2 ) وبقوله سبحانه : ( لاَ تَجْعَلُوا دُعآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً ) ( النور ـ 63 ) ، وإلى حرمة التسرّع في ابداء الرأي والبدء في العمل بقوله عزّ وجلّ : ( يآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ( الحجرات ـ 1 ).
    وإلى تأثّره وغمّه وهمّه وحزنه من عدم استجابة قومه لدعوته واهتدائهم بهداه بقوله سبحانه : ( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً ) ( الكهف ـ 6 ) ، وبقوله : ( لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ إِلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنينَ ) ( الشعراء ـ 3 ) ، وإلى تحمسه وثباته في المعارك الطاحنة وما فيه من شجاعة وثبات جنان في مواقف الشدة وميادين الكفاح ، وإلى موقفه أمام العدو حين ما دارت الدائرة على المسلمين وانهزموا وتفرّق كثير من أعيانهم وأبطالهم ، ووقف النبي وثبت في ميدان المعركة ، ومعه من لا يتجاوز عدد الأصابع بقوله سبحانه : ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلوونَ عَلى أَحَد وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي اُخْريكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمّاً بِغمّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلى ما فَاتَكُمْ وَ لا ما أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( آل عمران ـ 153 ).
    فكان النبي قطب الرحى في هذا الموقف العصيب إذ ثبت ثبات الجبال ، رابط الجأش ، مطمئن النفس ، فصار اسوة حسنة للمؤمنين.
    وإلى أنّه بلغ من الكمال إلى حد ، صار إماماً وقدوة للمؤمنين يتأسون به في قيمه الروحيه ومثله العليا بقوله : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَ اليَوْمَ الآخِرَ وَ ذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً ) ( الأحزاب ـ 21 ).
    وإلى أنّه قد رزق الكوثر والخير الكثير من كل جوانب الحياة ومظاهرها فرزقه اللّه من بنت واحدة ، ما ملأ الخافقين بقوله : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ ) ( الكوثر ـ 1 ) وغيرها من الخيرات التي لا تعد ولا تحصى فلمّا رماه خصمه بأنّه الابتر ، فرمى شانئه بأنّه أولى بذلك لا نبي العظمة.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس