مفاهيم القرآن ـ جلد الراربع ::: 51 ـ 60
(51)
الاختياري لا يقع تحت دائرة الطلب مطلقاً ، لا تحت دائرة الاَمر ولا تحت دائرة النهي ، بينما نرى القرآن ينهى عن مودة الكفّار وأعداء اللّه ويقول وهو يصف الموَمنين : ( لاَ تَجِدُ قَوْماً يُوَْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ ). (1)
    كما يقول سبحانه : ( يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ). (2)
    والآية الاَُولى وإن كانت تخبر في الظاهر عن أحوال الموَمنين إلاّ أنّ المقصود منها هو الحث على الاجتناب عن مودتهم ومحبتهم.
    إذا كانت المودة ـ لاَجل كونها أمراً خارجاً عن الاختيار ـ لا يتعلق بها الاَمر لماذا نجد الرسول العظيم ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) يدفع المسلمين إلى التوادد والتحابب ممثلاً لذلك بمثل جميل ورائع حيث يقول :
    « مثل الموَمنين في توادّهم ، وتراحمهم ، وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ». (3)
    وهذا الحديث ونظائره كثيرة في الاَحاديث الاِسلامية ، وكلّها تعطي أنّ المودة موضوع قابل للطلب ، كما أنّ المحدثين عقدوا في موسوعاتهم الحديثية أبواباً من قبيل باب « الحب في اللّه » وباب « البغض في اللّه » وأدخلوا في هذه الاَبواب مجموعات كبيرة من الاَحاديث التي تبدو منها بجلاء الدعوة إلى التوادد والتحابب بين الاَُمّة الاِسلامية ونبذ الكفار وعدم موالاتهم.
    1 ـ المجادلة : 22.
    2 ـ الممتحنة : 1.
    3 ـ مسند أحمد : 4/7 ، والتاج : 5/17 ، نقلاً عن صحيحي البخاري ومسلم.


(52)
    ومن هنا يبدو أنّ البغض والحب ليسا كما يتوهم أمرين غير اختياريين وغير خاضعين للاِرادة الانسانية ، بل هما حالتان اختياريتان تتحققان بالتدبر واعمال النظر في مقدماتهما.
    يقول الاِمام الصادق ( عليه السلام ) : « من أوثق عرى الاِيمان أن تحب في اللّه وتبغض في اللّه ». (1) أي تحب الموَمن لاِيمانه باللّه ، وتبغض الكافر لكفره باللّه.
    ويقول الاِمام أمير الموَمنين ( عليه السلام ) في عهده إلى مالك الاَشتر النخعي : « واشعر قلبك الرحمة والمحبة لهم واللطف بهم ». (2)
    ولو أُتيح لك أن تطّلع بالتفصيل على النصوص الواردة في مجال الحب والبغض ، لرأيت كيف أنّ الرسول والاَئمّة ( عليهم السلام ) أوصوا بمحبة جماعة معينة ، ونهوا عن مودة آخرين ، فها هو الرسول يقول : « عنوان صحيفة الموَمن حب علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ». (3) والهدف النهائي من هذه الكلمة هو الدعوة إلى موالاة علي وعقد القلب على محبته.
    ويقول الرسول ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) أيضاً : « من سرَّه أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن غرسها ربي ، فليوال علياً من بعدي ، وليوال وليّه ، وليقتد بالاَئمّة من بعدي ، فانّهم عترتي خلقوا من طينتي ، ورزقوا فهماً وعلماً ». (4)
    وقال ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) في حق علي أيضاً : « ومن أحبني فليحبه ، ومن أحبني وأحب هذين وأباهما وأُمهما كان معي في درجتي يوم القيامة ». (5)
    1 ـ سفينة البحار : 1/12.
    2 ـ نهج البلاغة : قسم الكتب برقم 53.
    3 ـ تاريخ بغداد : 4/410.
    4 ـ حلية الاَولياء : 1/86.
    5 ـ مسند أحمد : 5/366 ، وصحيح مسلم كتاب الفتن : 119 ، وصحيح الترمذي كتاب المناقب : 20.


(53)
    ولا شك أنّ هدف الرسول ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) ليس إلاّ دفع الناس إلى محبتهم وموالاتهم.
    أضف إلى ذلك أنّ دعوة النبي إلى حب وموادّة جماعة خاصة ، يكون سبباً قوياً لغرس بذور المحبة لتلك الجماعة في قلوب الناس ، وسرعان ما تنمو تلك البذور وتتحول إلى حب عميق لتلك الجماعة ، فعندما يأخذ الرسول بيد علي ويقول : « من أحبني فليحبه » ، تكون تلك العبارة حافزاً لمشاعر القوم تجاه مكانة علي ، وسبباً لنمو بذور المحبة في أفئدتهم ، كيف لا ، وهذه الكلمات من رسول اللّه هي التي صنعت جماعة أحبت علياً وآله غاية الحب.
    نعم لو أوصى بمحبة من لا يتوفر فيه ملاك المحبة ، إمّا لوجود نقاط ضعف في خلقه أو عمله لما نفعت التوصية ، على أنّ هناك قد يوجد من يتوفر فيه ملاكالمحبة دون أن يعلم أكثر الناس به ، فدعوة الناس إلى محبتهم وولائهم تكون سبباً إلى التفتيش في موجبات هذه الدعوة ، وفي نهاية المطاف يكون هذا الاَمر سبباًإلى التفات الناس إلى سجاياهم وأخلاقهم التي تخلق المحبة في قلوب الناس.
    وبذلك يتضح أنّ دفع الناس إلى التعرف على عظمة الشخص يحصل بأحد أمرين :
    الاَوّل : رفع الستر عن سجاياه الاَخلاقية وملكاته الفاضلة ببيان فضائله ، وهو عمل يوجه الناس إلى القائد بصورة مباشرة.
    الثاني : الاَمر بحبه وموالاته ، ويكون سبباً لاِقبال الناس عليه ، والتعرّف بالتدريج على موَهلاته وصفاته وسجاياه.
    وعلى هذا الاَساس يعتبر الاَمر بمودتهم منطلقاً للتعرف وأساساً للاتّباع.


(54)
السوَال الرابع
    كيف يأمر الرسول بمودة أقربائه مع أنّا نجد في صفوفهم من عادى اللّه ورسوله ، وانّه سبحانه نهى عن مودة من يعاديه أو يعادي رسوله؟
    الجواب : لا شك أنّ القرآن الكريم نهى عن موالاة الكفار سواء أكانوا من أقرباء الرسول أم لا ، قال سبحانه :
    ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْ ـ رِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلي قُرْبَى ). (1)
    وقال سبحانه :
    ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الاِيْمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ). (2)
    وقال سبحانه :
    ( يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُّوكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ). (3)
    فبملاحظة هذه الآيات والآيات التي نزلت في مكة وطلبت من الموَمنين أن يجانبوا آباءهم وأُمهاتهم المشركين ، يقضي العقل بأنّ الرسول إنّما طلب موالاة من يرتبط به بوشيجة القربى إذا كان موصوفاً بالاِيمان والتقى ، وليس من المعقول ممن ينهى عن موالاة الكفار والمشركين ، أن يطلب موالاة أقربائه على الاِطلاق حتى المشركين.
    1 ـ التوبة : 113.
    2 ـ التوبة : 23.
    3 ـ الممتحنة : 1.


(55)
    وقصارى الكلام هو أن نخصّص إطلاق الآية بما دلَّ على المجانبة من الكفار والمشركين ، وإن كانوا من أُولي القربى.
    وهذا الاِشكال ضئيل غاية الضآلة ، فكأن صاحبه جهل أو تجاهل أنَّ القرآن يصدّق بعضه بعضاً ، وينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض ، فالقرآن هو الذي يقول في حق ولد نوح : ( إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ). (1) فعندئذ لا يتبادر من الآية سوى محبة الموَمنين والمخلصين من أقرباء النبي دون الكفار والمشركين.
    على أنّ الآية كما أسلفناه نزلت في المدينة ولم يكن يومذاك حول النبيِّ ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) غير ذوي القربى الموَمنين ، وقد أجاب دعوته كل من بقي من بني هاشم ممن لم يوَمن به قبل ، فإذا كان نزول الآية في عام الفتح وبعده فلم يكن في أرض المدينة ومكة من أقرباء النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) كافر أو منافق.
    وبذلك يعلم أنّ ما ذكره روزبهان (2) من أنّ ظاهر الآية شامل لجميع أقرباء النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) ضعيف جداً ، وعلى فرض الصحة فالحديث الصحيح خصّصها بعدّة خاصّة كما ذكرنا صورة الحديث فيما مر.
    وأظن أنّ هذا الاِشكال لم يكن يحتاج إلى هذا التفصيل لظهور بطلانه.
    1 ـ هود : 46.
    2 ـ إحقاق الحق : 3/20.


(56)
المقام الثاني
التأليف بين هذه الآية والآيات الاَُخر
    إنّ الآيات القرآنية تشهد على أنّه كان شعار الاَنبياء في طريق دعوتهم وتجاه أُممهم هو رفض الاَجر ، وعدم طلبه من الاَُمّة وكلّهم يقولون : ( ان أَجْريَ إلاّ على اللّه ). (1)
    فالقرآن يحدّثنا في سورة الشعراء عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب بأنّ شعارهم الوحيد طوال فتراتهم الرسالية كان هو قولهم : ( وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلاّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ). (2)
    كما يرد في سورتي هود ويونس (3) هذا المضمون عن نوح وهود أيضاً وإنّ من علائم النبوّة أنّ أصحابها لا يطلبون أجراً على رسالتهم.
    ولاَجل ذلك لما لاحظ المبعوث الثالث إعراض أهالي إنطاكية عن رسلالمسيح ، التفت إلى أهاليها وقال : ( اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ ). (4)
    1 ـ لاحظ الشعراء ، الآيات : 109 ، 127 ، 145 ، 164 ، 180.
    2 ـ الشعراء : 109.
    3 ـ يونس : 27 ، هود : 29 و 51.
    4 ـ يس : 21.


(57)
    ومع ذلك كيف يصح أن يقال أنّ الرسول بدَّل هذا الشعار الذي ظل يتمسّك به كل الرسل على طول التاريخ ، وجعل مودة أقربائه أجراً على رسالته ، أضف إلى ذلك أنّ الرسول الاَعظم نفسه يصرح بأمر من اللّه بأنّه لا يسأل أجراً ويقول : ( لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إلاّ ذِكْرَى لِلْعالَمِينَ ) (1)
    الجواب : انّ الاَجر في اللغة هو العوض الذي يتلقّاه المرء لقاء عمل يوَدّيه ، وهو بمفهومه يشمل كل الاَُجور الدنيوية والاَُخروية ، بيد أنّ المقصود بالاَجر المنفي في هذه الآيات ، بقرينة توجيه الخطاب إلى البشر ، هو الاَجر الدنيوي الذي كان بإمكان البشر تقديمه إلى الرسل ، ولا شكّ أنّ الرسول لم يطلب من أحد مثل هذه الاَُجور الدنيوية كما لم يطلب أيضاً إخوانه من الرسل ذلك من قبل.
    ولفظ الاَجر في الآية وإن كان يشمل الاَُجور الدنيوية كلَّها حتى التكريم والتبجيل لنفسه وقومه وأقربائه ، وعند ذاك تكون المودَّة داخلة في المستثنى منه قطعاً.
    غير انّ المطلوب في الآية ليس نفس المودة والولاء لاَقربائه بما هي هي حتى يعود أجراً دنيوياً مطلوباً ويصير طلبها من الاَُمة مصادماً للآيات الحاكية عن رفض الاَنبياء للاَجر بتاتاً بل المودَّة في القربى وسيلة لاتصال الاَُمّة بعترة النبي ، ويكون نفس ذلك الاتصال ذريعة لتكامل الاَُمّة في المراحل الفكرية والعملية ، فعندئذ تنتفع الاَُمّة الاِسلامية بها قبل أن تنتفع به العترة ، فحينئذ لا تكون المودّة في القربى أجراً حقيقياً وان أُخرجت بصورة الاَجر.
    هذا هو مجمل الجواب ، وأمّا التفصيل فيبين في ضمن أمرين :
    الاَوّل : انّ الاَجر وإن كان يطلق على الاَجر الدنيوي والاَُخروي ، ولكن
    1 ـ الاَنعام : 90.

(58)
المقصود من الاَجر المنفي في هذه الآيات هو الاَجر الدنيوي بقرينة توجيه الخطاب إلى الناس.
    أضف إليه أنّه ليس من المعقول أن يطلب الرسول من الناس أجراً أُخروياً ، إذ ليس في وسع الناس أن يقدّموا مثل هذا الاَجر إلى الرسول ، هذا وإنّ القرآن يحدّثنا بأنّ الرسول كان يعلن للناس بأنّه لا يريد من أحد أجراً ، وقد أمره سبحانه أن يقول :
    ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ). (1)
    وقوله سبحانه :
    ( مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنْا مِنَ الْمُتَكَلّفِينَ ). (2)
    فمع مثل هذه التصريحات التي تمَّت في بدء الرسالة ، لا يمكن للنبي أن يطلب من الناس شيئاً يعتبره الناس أجراً على عمله ، كيف؟ والنبي الاَعظم كالاَنبياء السابقين من نخبة المجتمع وصفوة البشرية ، والاِخلاص منطلقهم الوحيد في عملهم ودعوتهم ، وكان شعارهم كل شيء لاَجل اللّه.
    قال شيخنا المفيد : إنّ أجر النبيّ هو الثواب الدائم ، وهو مستحق على اللّه في عدله وجوده وكرمه ، وليس المستحق على الاَعمال ، يتعلق بالعباد لاَنّ العمل يجب أن يكون للّه تعالى خالصاً ، وما كان للّه فالاَجر فيه على اللّه تعالى دون غيره . (3)
    الثاني : هل الاستثناء في الآية استثناء منقطع أو استثناء متصل؟
    فقد نقل روزبهان عن بعضهم أنَّ الاستثناء منقطع والمعنى : لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً « لكن المودة في القربى حاصل بيني وبينكم » فلهذا أسعى
    1 ـ الاَنعام : 90.
    2 ـ ص : 86.
    3 ـ شرح عقائد الصدوق : 68.


(59)
وأجتهد في هدايتكم وتبليغ الرسالة إليكم. (1)
    وقال بعضهم : الاستثناء متصل والمعنى : لا أسألكم عليه أجراً من الاَُجور إلاّ مودّتكم في قرابتي ، وأيّد ذلك القول بأنّ الاستثناء المنقطع مجاز واقع على خلاف الاَصل ، وانّه لا يحمل على المنقطع إلاّ لتعذر المتصل ، ولاَجل ذلك لا يحمل العلماء الاستثناء على المنقطع إلاّ عند تعذر المتصل ، حتى عدلوا للحمل على المتصل ، عن الظاهر في قوله : له عندي مائة درهم إلاّ ثوباً ، وله علي إبل إلاّ شاة ، وقالوا : معناه إلاّ قيمة ثوب أو قيمة شاة ، فيرتكبون الاِضمار وهو خلاف الظاهر ليصير الاستثناء متصلاً.
    وممّن ذهب إلى أنّ الاستثناء منقطع الشيخ المفيد ، فقال : إن قال قائل ما معنى قوله تعالى : ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلاّ المَودَّةَ في القُربى ) أوليس هذا يفيد أن قد سألهم النبي مودة القربى أجراً على الاَداء؟ قيل له ليس الاَمر على ما ظننت لما قدمنا من حجة العقل والقرآن ، والاستثناء في هذا المكان ليس هو من الجملة لكنه استثناء منقطع ، ومعناه : قل لا أسألكم عليه أجراً لكني ألزمكم المودة في القربى ، وأسألكموها ، فيكون قوله لا أسألكم عليه أجراً كلاماً تاماً قد استوفى معناه ، ويكون قوله إلاّ المودّة في القربى كلاماً مبتدأً ، فائدته لكن المودّة للقربى سألتكموها ، وهذا كقوله : ( فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إلاّ إِبْلِيسَ ) (2) هلوالمعنى فيه لكن إبليس وليس باستثناء من جملة وكقوله : ( فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إلاّ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) (3) معناه لكن ربّ العالمين ليس بعدو لي ، قال الشاعر :
وبلدة ليس بها أنيس إلاّ اليعافير وإلاّ العيس

    1 ـ إحقاق الحق : 3/20. وسوف نرجع إلى نقد هذا الفكر الذي زعمه روزبهان تفسيراً للآية. وممن اختار كون الاستثناء منقطعاً الرازي في تفسيره : 7/390 ، وقال تم الكلام عند قول : ( عليه أجراً ) ثم قال : ( إلاّ المودة في القربى ) : أي لكن اذكركم قرابتي منكم. فلاحظ.
    2 ـ الحجر : 30 ـ 31.
    3 ـ الشعراء : 77.


(60)
    وكأنّ المعنى في قوله : « وبلدة ليس بها أنيس » على تمام الكلام ، واستيفاء معناه ، وقوله : « إلاّ اليعافير » كلام مبتدأ معناه لكن اليعافير والعيس فيها ، وهذا بيّ ـ ن لا يخفى فيه الكلام على أحد ، ممن عرف طرفاً من اللسان ، والاَمر فيه عند أهل اللغة أشهر من أن يحتاج معه إلى استشهاده. (1)
    والحق في المقام أن يقال : إنّ تقسيم الاستثناء إلى المتصل والمنقطع ليس على ما اشتهر ، من أنّ المستثنى المنقطع غير داخل في المستثنى منه لا موضوعاً ولاحكماً ، لا حقيقة ولا ادّعاء ، إذ لو لم يكن المستثنى داخلاً بنحو من الاَنحاء في المستثنى منه كان استثناوَه عنه لغواً غير صالح لاَن يذكر في كلام العقلاء ، فالمستثنى حتى المنقطع داخل في المستثنى منه دخولاً ادّعائياً لا حقيقياً ، إذ ليس الاستثناء إلاّ إخراج ما لولاه لدخل ، ومعلوم انّ الاِخراج فرع الدخول بالضرورة غاية الاَمر انّ المستثنى منه بمفهومه اللغوي شامل للمستثنى كما في قولنا جاءني القوم إلاّ زيد ، بخلاف الاستثناء المنقطع ، فالمستثنى منه وإن كان غير شامل للمستثنى بمفهومه اللغوي ، لكن المخاطب ربّما يتوهم شمول الحكم المذكور للمستثنى منه ، للمستثنى أيضاً ، فيعود المتكلم إلى استدراك ذلك الوهم بعدم شموله للمستثنى ، مثلاً إذا قلنا : جاء زيد إلاّ خادمه ، وجاء القوم إلاّ مراكبهم ، فالاستثناء لاَجل دفع توهم ، وهو انّ مجيء زيد والقوم كان مع خادمه ومراكبهم ولولا هذا التوهم لما صح الاستثناء ، ولاَجل ذلك قلنا بأنّ المستثنى في الاستثناء المنقطع داخل في المستثنى منه ادّعاء لا حقيقة ، ولولا توهم الدخول لا يصح الاستثناء ، فلا يصح أن يقال جاءني القوم إلاّ الغراب أو إلاّ الشجر ، إذ ليس مجيىَ الغراب والشجر معرضاً للتوهم.
    وبذلك يظهر أنّ مصحح الاستثناء هو دخول المستثنى في المستثنى منه
    1 ـ شرح عقائد الصدوق : 68.
مفاهيم القرآن ـ جلد الرابع ::: فهرس