مفاهيم القرآن ـ جلد الراربع ::: 121 ـ 130
(121)
    8. انّ الاِيمان إنّما يعد كمالاً إذا دفع إليه الاِنسان باختياره وإذا كانت الآية المطلوبة أو المتمنّاة سبباً لاِيمانهم الاِلجائي فلا يجب ، بل لا يحسن في منطق العقل القيام بها.
    9. إنّما يصح للنبي أن يقوم بمقترح قومه إذا لم يتعلّق طلبهم بما يكون على خلاف السنّة الحكيمة الجارية في الكون والحياة.
    10. إنّما يصح أيضاً القيام إذا كان بين المطلوب والرسالة رابطة منطقية بحيث يصح الاستدلال بأحدهما على الآخر ، فلو كانت الرابطة مفقودة فلا تصح في منطق العقل إجابة الاقتراح.
    وأنت إذا استعرضت الآيات التي استدل بها الكتّاب المسيحيّون والمستشرقون على أنّه لم يكن للنبي الخاتم معجزة غير القرآن تقف وقوف مستشف للحقيقة على أنّ عدم قيامه بالمعجزات والآيات التي كانوا يطلبونها منه كان لاَجل إحدى هذه العلل أو ما يضاهيها ، وإليك استعراض هذه الآيات واحدة بعد أُخرى حتى تتجلّى الحقيقة بأجلى مظاهرها.

استعراض الآيات التي استدل بها القساوسة
    الآية الاَُولى
    قال سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَولاَ يُكَلِّمنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِيَنا آيةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ). (1)
    1 ـ البقرة : 118.

(122)
    الظاهر أنّ القائلين هم مشركو العرب ، بقرينة قوله : ( الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) مشيراً إلى أنّهم ليسوا من أهل الكتاب ، واستقربه الطبرسي في مجمعه. (1)
    وهذه الآية تدلّ على أنّهم طلبوا من النبي أمرين :
    أ. لولا يكلّمهم اللّه سبحانه.
    ب. لماذا لا تأتي الآية إليهم أنفسهم؟
    وكلا السوَالين ساقطان في منطق العقل ، بملاحظة الشرائط المصححة لطلب الاِعجاز التي مرّت.
    أمّا السوَال الاَوّل : فإن كان مرادهم هلا يكلّمنا اللّه معاينة ، فهو محال ، لاَنّه يستلزم جسمانيته سبحانه.
    وإن كان مرادهم تكليمهم مخبراً بأنّ مدّعي النبوة نبي ، ولكن لا بالمعاينة ، بل بإحدى الطرق المألوفة من إسماعهم ، فهو وإن كان أمراً ممكناً لكنه لا يفيدهم الاِذعان ، إذ من الممكن اتهام ذلك الاِسماع بالسحر كما قالوا ذلك في غير هذا المورد.
    وأوضح في البطلان لو كان مرادهم لولا يكلمنا اللّه مثلما كلّم موسى وغيره من الاَنبياء ، فإنّ هذا يستلزم نزول الوحي عليهم ، وهو يتوقف على توفر شرائط معينة ، وهي غير موجودة إلاّ في أفراد قلائل.
    ولا يقل عنه في البطلان لو كان مرادهم سماع الوحي النازل على النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) فإنّ السماع متوقف ـ كذلك ـ على توفر الشرائط غير الموجودة في المشركين. وعلى فرض الاِسماع لا يفيدهم الاِذعان لاِمكان اتّهامه بالسحر أيضاً.
    وهذه الوجوه الاَربعة محتملات لقولهم ( لَولاَ يُكَلِّمنَا اللّهُ ) وهي كما ترى غير
    1 ـ ج1/195.

(123)
مستحقة للاِجابة بل جديرة بالاعراض.
    أضف إلى ذلك أنّ المحتمل الثالث ـ وهو تكليم اللّه إياهم كتكليمه سائر الاَنبياء ـ يستلزم لغوية بعث الاَنبياء الذي جرت عليه سنّة اللّه من لدن نزول آدم إلى الاَرض.
    وقد نقل هذا السوَال في مورد آخر ، حيث حكاه سبحانه بقوله : ( بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىٍَ مِنْهُمْ أَن يُوَتَى صُحُفاً مُنَشَّرَةً ) . (1) وكأنّ كل واحد من أفراد المشركين يتوقع أنّ تنزل عليه صحائف فيها تكاليفه ، وهي توَيد أنّ مرادهم من تكليمه إيّاهم هو المحتمل الثالث. هذا كلّه حول السوَال الاَوّل.
    وأمّا السوَال الثاني : أعني قوله : ( أَوْ تَأْتِيَنا آيةٌ ) فهو يشير إلى أنّهم طلبوا من النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) ظهور المعاجز على أيديهم ، وهذا السوَال سخيف جداً ، إذ ظهور المعاجز على أيديهم يتوقف على توفر شرائط غير موجودة في المشركين ولا في غيرهم إلاّ في أفراد قلائل ، أعني : الاَنبياء والمرسلين.
    ويحتمل أن يكون المراد : أن يأتي النبي بآية موافقة لطلبهم. ويشير إليه قوله في ذيل الآية ( كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِثْلَ قَوْلِهِمْ ). (2) حيث اقترح اليهود الآيات على موسى ، والنصارى على المسيح.
    ولكن عدم إجابة النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) لاقتراحهم ، لاَنّه كان فيما أتى به من الحجج والمعاجز الباهرة كفاية لمن كان بصدد تحصيل اليقين ولمن ترك التعنّت والعناد.
    وإلى هذا الجواب أشار سبحانه في ذيل الآية ( قَدْ بَيَّنَّا الآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) . (3)
    1 ـ المدثر : 52.
    2 ـ البقرة : 118.
    3 ـ البقرة : 118.


(124)
    على أنّه من المحتمل أيضاً أن تكون الآيات المطلوبة من النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم من الاَُمور المستحيلة ، ويقرب من ذلك قوله سبحانه في نفس الآية : ( كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ) ومن المعلوم أنّ اليهود طلبوا من موسى روَية اللّه جهرة.
    وقوله سبحانه : ( تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ) يشير إلى أنّ سوَالهم كان أشبه بسوَال من تقدّمهم في الكفر والقسوة والتعنت والعناد ، ولذلك قال سبحانه في موضع آخر : ( كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم مِنْ رَّسُولٍ إلاّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * فَتَولَّ عَنْهُمْ فَمْآ أَنْتَ بِمَلُومٍ ). (1)
    والحاصل : أنّ ذيل الآية يشير إلى أنّ الواجب على اللّه في هداية الناس هو بعث الاَنبياء وتزويدهم بالدلائل والمعاجز التي تثبت بوضوح صلتهم باللّه وصدق مقالتهم ، وأمّا إجراء المعاجز المطلوبة منهم على أيديهم فليس بواجب في منطق العقل إذ لمن يريد تحصيل اليقين كفاية فيما أتوا به من المعاجز.
    الآية الثانية
    قال سبحانه : ( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنَا عَن َذِلَك وآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً ) . (2)
    إنّ الآية تدلّ على أنّ أهل الكتاب سألوا النبي أن ينزل عليهم كتاباً من السماء ، وهذا السوَال يحتمل وجوهاً نأتي بجميعها ، وسوف يرى القارىَ انّ الوجوه
    1 ـ الذاريات : 52 ـ 54.
    2 ـ النساء : 153.


(125)
المحتملة كلّها غير جامعة للشرائط المصححة لقيام النبي بإجابة طلبهم ، وإليك هذه الاحتمالات :
    1. أن يعرج النبي إلى السماء ويرجع مع كتاب اليهم وقد سأل المشركون نظير ذلك حيث حكى اللّه سبحانه عنهم في سورة الاِسراء إذ قال : ( أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّوَْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَوَهُ ) (1) وكيفية السوَال هذه ، تدلّ على أنّهم لم يكونوا بصدد كشف الحقيقة ، لاَنّ في واحد من الاَمرين ( العروج إلى السماء وحده ، أو نزول الكتاب إلى النبي مع عدم عروجه ) كفاية ، فطلب الاَمرين معاً يكشف عن أنّهم لم يتخذوا لاَنفسهم موقف المتحري للحقيقة ، بل كانوا يتبعون في سوَالهم هوسهم ، وهواهم.
    2. أن ينزل النبي عليهم أنفسهم كتاباً من السماء مكتوباً كما كانت التوراة مكتوبة من عند اللّه في الاَلواح حتى يروا نزول الكتاب من السماء بأُمّ أعينهم.
    ولكن هذا الاحتمال أيضاً ينبىَ عن أنّهم اتخذوا لاَنفسهم موضع اللجاج والعناد كما ينبىَ عن ذلك تشبيه هذا السوَال بسوَال بني إسرائيل من نبيهم موسى حيث قال : ( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً ) وعندئذ لا يجب في منطق العقل الاِجابة على هذا السوَال ، لاَنّ موقف السائل لو كان موقف المستشف للحقيقة لاكتفى بما زوّد به النبي من المعاجز ، ولما شبّه اللّه سبحانه سوَالهم بسوَال بني إسرائيل من نبيهم ، علم منه أنّهم لم يكونوا في موقف المتحرّي للحقيقة.
    أضف إلى ذلك أنّه لو قام النبي بهذا الاِعجاز كان من المحتمل جداً أن لا يوَمن به أهل الكتاب أيضاً ، وعندئذ يسقط القيام بالاِعجاز لما قلنا أنّه إنّما يجب القيام بالمعاجز المقترحة إذا كان هناك مظنة إيمان السائل.
    1 ـ الاِسراء : 93.

(126)
    ويدل على ما ذكرنا من الاحتمال أنّه سبحانه يقول : ( وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ ). (1)
    وليس لقائل أن يقول : إنّ هذه الآية واردة في حق المشركين ولم يعلم وحدة تفكيرهم مع أهل الكتاب ، وذلك لاَنّ المراد من أهل الكتاب في الآية هم اليهود القاطنون في المدينة وما حولها ، وهم كانوا أشد الناس عناداً ولجاجاً في حق النبي بدليل أنّ أكثر المشركين اعتنقوا الاِسلام واختاروه دونهم إذ بقوا على شريعتهم ، ولم يوَمن إلاّ قليل منهم.
    ثم إنّ في الاِجابة على هذا الاقتراح ضرباً من الاِهانة للقرآن والاستهانة به ، فإنّ طلب نزول الكتاب عليهم من السماء ، ينبىَ عن أنّ القرآن النازل على قلب النبي لم يكن كافياً في إثبات نبوّته ، وتصديق رسالته وانّما يجب التصديق إذا رئي نزول القرآن بأُمّ الاَعين.
    على أنّ كيفية السوَال تنبىََ عن الاعتقاد الفاسد ، وهو أنّ اللّه تعالى جسم واقع في السماء ، ولاَجل ذلك اقترحوا على النبي أن ينزل اللّه سبحانه كتاباً من
    1 ـ الاَنعام : 7.

(127)
السماء يرون نزوله برأي العين.
    ولنفترض قيام النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) بإجابة هذا السوَال ، أو ليست تلك الاِجابة توجب أن يطمع الآخرون في هذا الاَمر ويطلبوا من النبي أن يفعل لهم ما فعل لغيرهم ، المرة بعد المرّة ، والكرّة بعد الاَُخرّى ، مع كثرة القبائل وتعددّ البطون ، وعندئذ تصبح النبوّة إلعوبة بأيدي الجهّال ، ويصبح مثله كمثل المرتاضين والسحرة الذين غدوا أداة طيّعة لترفيه الناس.
    هذه الوجوه ترد على هذا المحتمل من السوَال ، غير أنّ هاهنا إشكالاً آخر ، وهو أنّه لو قام النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) بهذا الوجه من السوَال وهو أن ينزل عليهم كتاباً من السماء مكتوباً كما كانت التوراة مكتوبة من عند اللّه في الاَلواح ـ إذ على هذا الوجه ـ لفاتت المصالح المترتبة على نزول القرآن تدريجياً ، فإن لنزول القرآن نجوماً عللاً وغايات أُشير إليها في الكتاب العزيز ، كما أُشير إلى اعتراض المشركين بأنّه لماذا لا ينزل عليه القرآن جملة واحدة ، قال سبحانه ، ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَروا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُوََادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً * وَلاَ يَأتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ). (1) إذ في نزول القرآن نجوماً أسرار قد أُشير في الآية إلى واحد منها وهو تثبيت فوَاد النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) ، فنزول القرآن مكتوباً مرّة واحدة يوجب فوات فوائد موجودة في النزول التدريجي ، وإليك بعض هذه الاَسرار والفوائد :

أ. تثبيت فوَاد النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم )
    إنّ النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) كان يتحمل مسوَولية ضخمة جداً ، وكان يواجه في هذا السبيل صعوبات ومشقات ، كان لا بد له من إمداد غيبي غير منقطع ، ونجدة إلهية متصلة ، ولهذا كان نزول الوحي تدريجياً موجباً لتسلية النبي وتقوية روحه وعزيمته ، وإلى هذا أشارت الآية : ( كَذلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُوََادَكَ ). (2)

ب. تسهيل عملية التعليم
    إنّ صعوبة مهمة التعليم كانت تقتضي أن يتنزّل القرآن شيئاً فشيئاً ليسهل تعليمه للناس ، وإلقاوَه إليهم ، كيف لا ؟! والنبي طبيب يعالج النفوس ويداوي الاَرواح ، وذلك يقتضي التدرّج في العلاج.
    1 ـ الفرقان : 32 ـ 33.
    2 ـ الفرقان : 32.


(128)
    وإن شئت قلت : إنّ أفضل الطرق للتعليم والتربية هو أن يتعانق ويتصافق الفكر والعمل ويتزامن التعليم والتطبيق وأن يردف المربي ما يلقيه بالعمل ، وهذا لا يتحقق إلاّ بنزول القرآن تدريجياً وحسب الحوائج والاَسئلة ، ويفوت ذلك في نزوله مكتوباً جملة واحدة.

ج. التدليل على صدق الرسالة
    إنّ التدرّج في التنزيل أحد الاَدلة الساطعة على صدق القرآن في انتسابه إلى اللّه ، وأنّه وحي سماوي لا تأليف بشري ، إذ أنّ نزول الآيات في مواسم وظروف متفاوتة مع حفظ النمط الخاص به ـ رغم ما يواجه به الرسول صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم في حياته الرسالية من شدة ورخاء ، وهدوء واضطراب ، وسلم وحرب ـ خير دليل على أنّ هذا الكلام ليس إلاّ وحياً يوحى إليه من إله قادر حكيم محيط خالق عالم ، فيكون ذلك أظهر برهان لعظمة القرآن ، وأقوى دليل على إعجازه ، فهل في وسع النبي أو في وسع المنطق أن يرفض تلك المزايا ويصغي إلى مقترحات أهل الكتاب بإنزال الكتاب مكتوباً جملة واحدة على غرار التوراة والاِنجيل؟!
    3. وربّما يفسر قولهم : ( حتى تنزل علينا كتاباً نقروَه ) بأنّهم سألوا النبي أن ينزل على رجال منهم بأعيانهم كتاباً يأمرهم اللّه تعالى فيه بتصديقه واتّباعه. (1)
    ونقله في الكشاف بقوله : ان ينزل كتاباً إلى فلان وكتاباً إلى فلان بأنّك رسول اللّه. (2)
    ومن المعلوم انّ هذا السوَال يكشف عن تعنّتهم وعنادهم ، ولو قام به النبي ولبّى طلبهم ، لطمع الآخرون في ذلك وصارت النبوة إلعوبة بأيدي الناس.
    1 ـ مجمع البيان : 2/133.
    2 ـ الكشاف : 1/434.


(129)
الآية الثالثة
    قال سبحانه : ( وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبّهِ قُلْ إنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ). (1)
    وهذه الآية ممّا تمسك بها الملاحدة على المسلمين ، فقالوا : تدلّ على أنّ اللّه تعالى لم ينزل على محمد آية ، إذ لو نزلها لذكرها عند سوَال المشركين إيّاها. (2)
    وقد صاغ رجال التبشير هذا الاِشكال في قالب خاص ، وقالوا : إنّ الآية تدلّ على أنّه كلّما سئل محمد عن المعاجز أعرض عن السوَال وقال : إنّ اللّه قادر على الاِنزال كما ورد في هذه الآية ، ومعلوم أنّ هذا الجواب لا يكفي السائل ، لاَنّ قدرته سبحانه على الاِتيان غير منكرة ، وانّما السوَال هو طلب خروج هذا الاِمكان إلى مرحلة الفعلية ، فالجواب الوارد في الآية لا يدفع الاعتراض.
    أقول : تحقيق مفاد الآية يتوقف على البحث حول أمرين :
    الاَوّل : لماذا لم يجب النبي دعوتهم ، ولم يقم بالاِتيان بمطلوبهم؟
    الثاني : كيف يرتبط الجواب الوارد في الآية ، أعني قوله : ( قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيةً ) بكلامهم أعني : ( لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ ) ؟
    فنقول : أمّا الاَمر الاَوّل انّ الآيات المتقدمة على هذه الآية تدل بوضوح على أنّ الطالبين لم يكونوا بصدد الاِيمان وطلب الحقيقة ، فلاحظ قوله سبحانه قبل هذه الآية إذ يقول : ( وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إعْرَاضُهُمْ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقَاً فِي الاََرضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ * إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالمَوْتَى يَبْعَثُهُمْ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ
    1 ـ الاَنعام : 37.
    2 ـ مجمع البيان : 2/296.


(130)
يُرْجَعُونَ ). (1)
    وهاتان الآيتان الواردتان قبل هذه الآية تكشفان عن أنّه ما كان يرجى إيمان المعترضين وإذعانهم ، ولاَجل ذلك يخاطب سبحانه نبيه : بأنّك إن قدرت وتهيأ لك أن تتخذ طريقاً إلى جوف الاَرض أو سلّماً في السماء فتأتيهم بآية ، فافعل ذلك لكنهم لا يوَمنون لك. (2)
    ثم يضيف سبحانه ويشبههم بالموتى ويقول : ( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالمَوْتَى يَبْعَثُهُمْ اللّهُ ) مريداً أنّ هوَلاء لا يصغون إليك فهم بمنزلة الموتى ، فكل إنسان عاقل ، آيس من أن يسمع الموتى ، كلامه فهوَلاء بمنزلتهم لا يستجيبون لك ، ومعنى الآية : انّما يستجيب الموَمن السامع للحق فأمّا الكافر فهو بمنزلة الميت ، فلا يجيب إلى أن يبعثه اللّه تعالى يوم القيامة ليلجئه إلى الاِيمان.
    أضف إلى ذلك أنّه يحتمل أن يكون مقترحهم أحد أمرين :
    الاَوّل : أن يكون مقترحهم نزول الملك عليهم ، كما يحكي عنهم سبحانه في تلك السورة ويقول : ( وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الاَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنْظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاه رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَا يَلْبِسُونَ ). (3)
    إنّ نزول الملك يمكن أن يتم بإحدى صورتين :
    1. نزول الملك بصورته الواقعية ، ومن المعلوم انّ روَية الملك بهذا الشكل متوقفة على توفر شرائط في الناظر ، وهم كانوا فاقدين لها ، ومن الممكن جداً أن تستلزم تلك الروَية القضاء عليهم بالموت كما قال سبحانه : ( وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الاَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنْظَرُونَ ).
    1 ـ الاَنعام : 35 ـ 36.
    2 ـ هذا جواب الجملة الشرطية الواردة في الآية ، حذف لمعلوميته.
    3 ـ الاَنعام : 8 ـ 9.
مفاهيم القرآن ـ جلد الرابع ::: فهرس