مفاهيم القرآن ـ جلد الراربع ::: 111 ـ 120
(111)
مفاد الآيات النافية للمعجزة
    لا شك أنّ المعجزة إحدى الطرق لاِثبات دعوى النبي ، نعم الاِعجاز أحد الطرق لا الطريق الوحيد ، وقد قرّر في الاَبحاث الكلامية بأنّ هناك طريقين آخرين لاِثبات دعوى النبوة :
    الاَوّل : تصريح النبي السابق بنبوة النبي اللاحق ، كما ورد التصريح في التوراة والاِنجيل بنبوّة النبي الخاتم ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) ، وحكاه سبحانه في القرآن الكريم بقوله : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاَمِّيَّ الّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التّوَراةِ وَالاِِنجِيل ). (1)
    وقوله سبحانه : ( وَإذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنّي رَسُولُ اللّه إِلَيْكُمْ مُّصَدِقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوراةِ وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالبَيِّناتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ). (2)
    والآيتان تشيران إلى تنصيص الكتب السابقة على نبوة النبي الخاتم ، فعلى من يريد الاهتداء فعليه أن يرجع إلى تلكم الكتب التي تحتوي على بيان صفات النبي وخصوصياته حتى يكون ذا بصيرة في الاَمر ، فالآيتان تنبهان بهذا الطريق
    1 ـ الاَعراف : 157.
    2 ـ الصف : 6.


(112)
الذي هو إحدى الطرق.
    الثاني : ملاحظة القرائن والشواهد ، من حياة مدّعي النبوة وشريعته ومحتوى كتابه وأصحابه وأخلاقه وسوابقه وممارساته ، إلى غير ذلك من القرائن ، التي لو تضافرت لاَفادت اليقين بصدق دعوى المدّعي للنبوّة وأنّه صادق في ادّعائه ، وهذا الطريق هو المتعارف في المحاكم القضائية لتمييز المحق من المبطل ، وهو الطريق الاَتقن والاَكثر اطمئناناً.
    وقد سلكنا هذين الطريقين في إثبات نبوّة نبينا في أبحاثنا الكلامية.
    وعلى ذلك فالاِعجاز أحد الطرق ، لا الطريق الوحيد ، ومع الاعتراف بهذه الحقيقة ، يجب إلفات نظر القارىَ إلى النقاط التالية :

الاَُولى : هل يجب على النبي القيام بكل ما يقترحه الناس عليه من معاجز أو أنّه يجب أن يتمتع بالدلائل المثبتة لصدق دعواه وبالمعجزات الساطعة التي تفيد القطع لكل من يريد الحقيقة ويتحرّاها دون غرض أو مرض ، سواء أطابقت تلك المعاجز مقترحات من بعث إليهم أم خالفتها؟
    وبعبارة أُخرى : يجب أن تبلغ معجزات النبي حداً يوجب طمأنينة النفس واستيقانها برسالته لكل من يطلب الحقيقة ويتوخّاها ، ولا يجب على النبي حتماً أن يقوم بالاِتيان بكل ما يطلب منه.
    إنّ العقل لا يوجب أكثر من أن تكون دعوى النبوة مقترنة بالدلائل والشواهد التي تُثبت صلة النبي باللّه سبحانه ، وتكون كافية في إفادة الاِذعان بصدقه ، وأمّا قيامه بكل ما يطلب منه ، فلا دليل على وجوبه لا من العقل ولا من الشرع.
    ومن هنا يتبين أنّ اللازم على النبي هو القيام بإقناع الناس من حيث


(113)
المجموع ، وأمّا قيامه بإقناع كل فرد فرد على حدة وتنفيذ طلبات آحاد الناس فلا دليل عليه ، وتشهد على ذلك حياة الاَنبياء ، فقد أعطى سبحانه لموسى الكليم تسع آيات بيّنات ، وللمسيح ما آتاه من المعجزات الواردة في قوله سبحانه : ( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّين كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُوُنُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبرِىَُ الاََكْمَهَ وَالاََبْرَصَ وَأُحْيي المَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئَكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُوَمِنينَ ). (1)
    أقول : إنّ اللّه سبحانه قد أعطاهما تلكم المعاجز ، ولم يكلفهما بالقيام بإقناع كل فرد بالاِتيان بكل ما يقترحه حسب ميوله وأغراضه.
    نعم ، لابد أن تكون معجزة كل نبي مشابهة لاَرقى فنون عصره وزمانه ، والتي يكثر العلماء بها من أهل عصره ، فإنّه أسرع للتصديق ، وأقوم للحجة ، فكان من الحكمة والصواب أن يخص موسى بالعصا ، واليد البيضاء ، لمّا شاع السحر في زمانه وكثر الساحرون ، ولذلك كانت السحرة أسرع الناس إلى تصديق ذلك البرهان والاِذعان به حين رأوا العصا تنقلب ثعباناً وتلقف ما يأفكون ثم ترجع إلى حالتها الاَُولى ، فرأى السَحَرَة ذلك ، وعلموا أنّه خارج عن حدود السحر ، وآمنوا بأنّه معجزة إلهية وأعلنوا إيمانهم في مجلس فرعون ، ولم يعبأوا بسخط فرعون ولا بوعيده.
    وشاع الطب اليوناني في عصر المسيح ، وأتى الاَطباء في زمانه بالعجب العجاب ، وكان للطب رواج باهر في سورية وفلسطين ، لاَنّهما كانتا مستعمرتين لليونان ، وحيث بعث اللّه المسيح في هذين القطرين شاءت الحكمة أن تجعل برهانه شيئاً يشبه الطب ، فكان من معجزاته أن يحيي الموتى ويبرىَ الاَكمه والاَبرص ، ليعلم أهل زمانه أنّ ذلك شيء خارج عن قدرة البشر وغير مرتبط
    1 ـ آل عمران : 49.

(114)
بمبادىَ الطب وانّه ناشىَ عما وراء الطبيعة.
    وأمّا النبي الاَكرم ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) فقد برعت العرب في عصره في البلاغة وامتازت بالفصاحة ، وبلغت الذروة في فنون الاَدب حتى عقدوا النوادي وأقاموا الاَسواق للمباراة في الشعر والخطابة ، فلاَجل ذلك اقتضت الحكمة أن يخص نبي الاِسلام بمعجزة البيان وبلاغة القرآن ، ليعلم كل عربي أنّ هذا خارج عن طوق البشر ، ويعترف به كل من يتوخّى الحقيقة. (1)
    نعم ، هناك وجوه أُخر اقتضت جعل المعجزة الخالدة للنبي الخاتم هو القرآن ، وقد أوضحنا تلك الوجوه في أبحاثنا الكلامية.
    نعم ، يجب أن تكون معجزة النبي مشابهة لاَرقى فنون العصر ، فقط ، وأمّا لزوم قيامه بكل المقترحات والمطلوبات فلا ، لاَنّ الاَنبياء بعثوا لغرض التربية والتعليم ، وتجب عليهم مكافحة الجهل بالوسائل الصحيحة الكافية ، لا أن يأتوا بكل مطلوب لكل جاهل أو متجاهل حسب هوسهم.
    كما يجب أن تكون دعوتهم مقترنة بالمعاجز حتى تحقّق صلتهم باللّه سبحانه ويتبين أنّ اللّه الحكيم هو الذي أعطاه تلك المقدرة ، ولو كانوا كاذبين لما جاز في منطق العقل والحكمة إقدارهم عليها ، لاَنّ في إقدار الكاذب على المعاجز ، إغراء بالجهل وإشادة بالباطل ، وذلك محال على الحكيم تعالى ، فإذا ظهرت المعجزة على يده كانت دالة على صدقه وكاشفة عن رضا الحق سبحانه بنبوته سواء أطابقت مطلوب الناس أم لا.
    وإذا رأينا أنّ نبياً من الاَنبياء قد امتنع عن القيام ببعض المعاجز ، وبعبارة أصح : إذا لم يأذن اللّه له في الاِتيان بها ، فإنّما هو لاَجل أنّه سبحانه جهّزه بأوضح الدلائل وزوّده بأتقن المعاجز بحيث تكون كافية لكل من يتوخّى الحقيقة ويطلب الواقع ، وليس عليه سبحانه أزيد من نصب الدلائل وإقامة البراهين ، فلو انّ القرآن يصف الاَنبياء بقوله : ( فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيّيِنَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ ) (2) ويصف نبيَّه بقوله : ( إنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَو (3) مٍ هَاد ) ، فلا تهدف تلك الجملةإلاّ الاِشارة إلى أنّ وظيفته الاَساسية إنّما هي التبشير والاِنذار المقترنين بالمعاجز الكافية ، وانّه لا يجب عليه أن يستجيب لطلب كل من اقترح عليه أمراً
    1 ـ البيان : 48 ـ 49.
    2 ـ البقرة : 213.
    3 ـ الرعد : 7.


(115)
أو يطلب منه معجزة حسب هواه ، وليست هذه الاَوصاف نافية لاَصل المعاجز من رأسها.

الثانية : انّما يصح قيام النبي بالاِتيان بالمعجزة المطلوبة منه إذا تعلّق الطلب بالاَمر الممكن لا المستحيل ، لاَنّه خارج عن إطار القدرة ، فعند ذلك لو طلب من النبي روَية اللّه سبحانه جهرة ، أو ولوج الجمل في سم الخياط ، فالسوَال ساقط من أساسه لاستحالة الموضوع.

الثالثة : إنّما يجب على النبي القيام بالاِتيان بالمعاجز المطلوبة المقترحة عليه من قبل الناس ، إذا كانت بين الطالبين بها جماعة مستعدة للانضواء تحت لواء الحق بعد أن شاهدوا المعجزة ، وأمّا لو كانوا يطالبون بها ويقترحوها عناداً ولجاجاً ، ومع ذلك يصرون على كفرهم وإنكارهم حتى لو أُتي بمطلوبهم ، فلا يجب على النبي الاِجابة لدعوتهم لاَنّ الاِتيان بالمعاجز في هذه الحالة يعد أمراً لغواً وعبثاً ، وذلك لاَنّ الهدف من المعاجز أحد أمرين :
    الاَوّل : سوق الناس إلى اللّه سبحانه عن طريق الاِيمان بنبوة النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ورسالته ، والمفروض أنّ تلك الغاية منتفية في المقام ، لاَنّ الطالبين بالمعاجز يشكّلون جماعة متعنتة ومعاندة فلا يوَمنون وان أُتي بأضعاف ما يريدون ويطلبون.


(116)
    وأمّا الكلام في أنّ النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) من أين يحصل له هذا العلم ويكشف أحوالهم ، فهو خارج عن هذا البحث.
    الثاني : إتمام الحجة على الكافرين المعاندين المغرضين حتى لا يقولوا يوم القيامة ولا يحتجّوا على اللّه سبحانه بأنّه ما جاءهم من بشير ولا نذير ، والمفروض أنّ تلك الغاية قد حصلت بالاِتيان بسائر المعجزات التي جاء بها النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) من غير اقتراح لما عرفت من أنّه يجب تزويد النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) وتجهيزه بالمعاجز سواءً طابقت مقترحات قومه أو لا.
    إنّ القارىَ الكريم سيلمس تلك الحقيقة عند استعراض الآيات التي رفض النبي فيها إجابة الطالبين بالمعاجز ، فإنّ أكثرها واردة في ذلك المجال ، وانّه لم يكن غرض الطالبين الاهتداء والانتفاع بها ، بل كانوا يطلبونها لاَغراض أُخر ، إمّا تعجيزاً للنبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) بحسب أهوائهم أو تلاعباً بما سيصدر منه ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ).

الرابعة : انّ المعجزة نوع تصرف في العالم ، والنبي بماله من ولاية تكوينية مكتسبة منه سبحانه ، يقدر على التصرّف في الاَكوان بأن يخلع صورة من المادة ويلبسها صورة أُخرى ، كما خلع موسى الكليم صورة العصا من مادتها وألبسها صورة الثعبان بإذن ربّه ، وكما بدّل المسيح الصورة الطينية إلى الصورة الطيرية ، كل ذلك بإذنه سبحانه ، وأمر منه ، وعند ذلك فليس لهم حرية مطلقة في الخلع واللبس والتنفيذ والتصرّف وإنّما يفعلون ذلك بإذن منه سبحانه ، قال اللّه تعالى : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ). (1)
    وبما أنّ هذه الآية تعد نفس النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) آتياً بالمعجزة ، تدلّ على أنّ الآتي بها والمتصرّف في الاَكوان هو النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم بما له من روح قدسية يقدر معها على ذلك الاَمر.
    1 ـ الرعد : 38.

(117)
    ولكنها تقيد تنفيذ النبي وتصرفه بإذنه سبحانه ، فالاَولياء وفي طليعتهم الاَنبياء لا يشاءون إلاّ ما شاء اللّه ولا يخرجون عن إطار مشيئته سبحانه.
    فلو رأينا أنّ النبي قد رفض بعض المقترحات ، فإنّما هو لاَجل هذا السبب ، فلم يكن إذن من اللّه سبحانه بالقيام بتلك المعاجز المقترحة ، وعدم إذنه سبحانه لاَجل كون عمل النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) لغواً لا يترتب عليه أثر من هداية السائلين أو إتمام الحجة على المغرضين ، إذ المفروض أنّ السائلين ليسوا في مقام الاهتداء ، والحجة قد تمت على المغرضين من قبل ، ولاَجل ذلك ليست هناك غاية صحيحة تبعث النبي إلى القيام بالمعاجز.

الخامسة : انّ الهدف الاَسمى من الاِعجاز هو هداية الناس إلى الطريق المستقيم ، فلو كانت نتيجة الاِعجاز إفناء الناس وإهلاكهم ، لما صحّ في منطق العقل القيام بتلك الدعوة ، فلو طلبوا من الرسل أن يخسف اللّه بهم الاَرض أو يسقط عليهم السماء كسفاً أو يبيدهم العذاب من وجه الاَرض ، فلا يصحّ القيام بذلك الطلب ، لاَنّ في إجابته نقضاً للغرض وإفناءً للهدف ، وهم ( عليهم السلام ) قد بعثوا لهداية الناس لا لاِبادتهم وإهلاكهم ، وسوف يلمس القارىَ أنّ النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) لو امتنع في بعض المواقف عن القيام ببعض المقترحات فقد كان لاَجل ذلك الاَصل الذي دلّ العقل على رصانته.

السادسة : قد دلّت الآيات الكريمة على أنّ هناك معاجز لو طلبها الناس من نبيهم وقام هو بمقترحهم ومع ذلك قد رفضوا الاعتناق بدينه والتصديق برسالته ، سيصيبهم العذاب الاَليم ، قال سبحانه : ( وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الاَوّلُونَ وَ آتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاّ تَخْوِيفاً ) . (1)
    1 ـ الاِسراء : 59.

(118)
    والمراد من الآيات المقترحة هي المعاجز التي طلبها أقوام الاَنبياء منهم ثم كذبوها فنزل العذاب عليهم بسبب تكذيبهم ، وسيوافيك بيان مفاد الآية في محلها وانّ أية معجزة يوجب تكذيبها نزول العذاب.
    هذا من جانب ، ومن جانب آخر انّ اللّه سبحانه وعد النبي برفع العذاب الدنيوي عن هذه الاَُمّة ما دام هو فيها إكراماً لمقامه وتعظيماً لشأنه ، قال سبحانه : ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ). (1)
    وعلى ضوء هذين الاَمرين يتبيّ ـ ن أنّ الامتناع عن القيام ببعض المعجزات المقترحة ـ التي يستلزم تكذيبها نزول العذاب ـ إنّما هو لاَجل هذا الوعد القطعي الذي قطعه اللّه على نفسه لنبيّه ، فكل معجزة يستلزم تكذيبها نزول العذاب فهي معجزة ممنوعة لاَجل هذا الاَمان الذي أعطاه اللّه سبحانه لاَُمّة نبيّه.

السابعة : انّ شرط القيام بالمعجزة المطلوبة هو أن لا تكون الاِجابة لطلب القوم سبباً لتحقير المعاجز الاَُخر وازدراءً لها ، إذ في القيام ـ في هذه الصورة ـ نوع تصديق لموقف الخصم ، وإغراء له في الضلالة ، ولاَجل ذلك نرى النبي يجيب القوم عندما طلبوا منه معجزة غير القرآن بصورة التحقير لهذه المعجزة الخالدة الباقية على وجه الدهر بقوله : ( فَقُلْ إنَّمَا الْغَيْبُ للّهِ فَانْتَظِرُوا إنّي مَعَكُمْ مِنَ المُنتَظِرين ). (2)

الثامنة : انّ الهدف من بعث الاَنبياء وتزويدهم بالآيات والبينات هو إيجاد الاَرضية المناسبة لاِيمان قومهم وإذعانهم بما جاء به الرسل اختياراً ، فإنّ الاِيمان ـ بل كل عمل حسن ـ إنّما يعد كمالاً إذا اختاره الاِنسان وانساق إليه بصميم قلبه ، وأمّا إذا أُلجىَ واضطر إليه بلا اختيار فلا يعد كمالاً له ولا يستحق ثواباً.
    1 ـ الاَنفال : 33.
    2 ـ يونس : 20.


(119)
    ولذلك نرى في مورد يتمنّى النبي ( أو يشعر كلامه بذلك التمنّي ) أن يأتي بآية ملجئة لهم إلى الاِيمان وملزمة لهم على الاذعان أجابه سبحانه : ( وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقَاً في الاَرضِ أَوْ سُلَّماً في السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) . (1)
    وسوف يوافيك شرح الآية وهدفها.

التاسعة : انّ القيام بالطلب إنّما يصح إذا لم يكن المطلوب على خلاف السنّة الاِلهية الحكيمة الجارية في الكون ، وعلى ذلك فلو طلب القوم أن يأتي لهم النبي بجنة وينبوع حتى يريحهم من الكد والكدح فلا يستحق هذا الطلب الاِجابة ، لاَنّ سنته تعالى جرت على إرزاق الناس من طريق العمل والكسب ، وسيوافيك توضيح ذلك عند البحث عن قوله : ( وَقَالُوا لَن نُوَْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاََرضِ يَنبُوعاً ... ). (2)

العاشرة : إنّما يصح القيام إذا كان بين المطلوب والمقترح والرسالة الاِلهية رابطة منطقية حتى يستدل بالاَوّل على الآخر ، وعلى ذلك فلو طلبوا من النبي أن يكون ذا ثروة طائلة فلا يصح للنبي الاِجابة ، لاَنّ ثروة الرجل ليست دليلاً على صحة منطقه ، وسيوافيك شرح ذلك عند البحث عن قوله سبحانه : ( أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الاََنْهارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيراً ). (3)
    فلو أنّ النبي امتنع عن القيام ببعض المعاجز فإنّما هو لاَجل هذا الاَصل ، وأنت إذا لاحظت هذه الاَُمور تبيّن لك أنّ الآيات التي رفض فيها النبي القيام بمقترحات القوم ومطلوباتهم من المعاجز فإنّما هو لاَجل فقدان إحدى هذه
    1 ـ الاَنعام : 35.
    2 ـ الاِسراء : 90.
    3 ـ الاِسراء : 91.


(120)
الشرائط التي نعيد الاِشارة إليها في ما يلي باختصار :
    1. انّ الواجب هو اقتران دعوة النبي بالدلائل والمعاجز الكافية حتى تفيد الاِذعان بصدق دعوته ، لا القيام بكل معجزة تقترح عليه من آحاد الاَُمّة.
    2. لو اقتضت الحكمة الاِلهية قيام النبي بمقترحات قومه ، فإنّما تصح عقلاً الاِجابة لها إذا تعلّق الطلب بالاَمر الممكن لا المستحيل ، فعدم الاِجابة للمقترح المستحيل لا يدل على أنّه لم يزود بالمعاجز.
    3. انّما يجب على النبي القيام بالمعاجز إذا دلّت القرائن على أنّ الهدف من طلبها هو الانضواء تحت لواء الحق والاهتداء بها لا طلبها عناداً ولجاجاً وتلاعباً بشأن النبي ومعجزاته.
    4. الاِعجاز نوع تصرف في الاَكوان يقوم به النبي بإذن منه سبحانه ، ولا يصدر الاِذن منه في كل الاَحايين والاَوقات ، وإنّما يصدر فيما إذا كانت هناك مصلحة مقتضية للتصرف.
    5. انّ الهدف من الاِعجاز هو هداية الناس ، فلو تعلّق الطلب بإهلاكهم وإبادتهم لم تكن إجابته صحيحة في منطق العقل لكونها نافية للغرض.
    6. انّ المعاجز التي يستلزم تكذيبها نزول العذاب الاَليم كما نزل على الاَُمم السابقة لا يصح للنبي القيام بها ، لاَنّه سبحانه كتب على نفسه دفع العذاب عن الاَُمّة ما دام النبي فيهم ، وهذا الوعد القطعي الاِلهي يمنع عن القيام بتلكم المقترحات.
    7. انّ كل معجزة مطلوبة صارت سبباً لتحقير المعاجز الاَُخرى وازدراءً لها لا يجب على النبي في منطق العقل القيام بها ، لاَنّ فيه نوع تصديق لموقفهم المتعنّت.
مفاهيم القرآن ـ جلد الرابع ::: فهرس