مفاهيم القرآن ـ جلد الراربع ::: 101 ـ 110
(101)
عليهم » فأبوا ، قال : « فإنّي أُناجزكم » فقالوا : ما لنا بحرب العرب طاقة ، ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا على أن نوَدي إليك كل عام ألفي حلة ، ألف في صفر ، وألف في رجب ، وثلاثين درعاً عادية من حديد ، فصالحهم على ذلك ، قال : « والذي نفسي بيده إنّ الهلاك قد تدلّى على أهل نجران ، ولو لاعنوا لاضطرم عليهم الوادي ناراً ولاستأصل اللّه نجران وأهله ، ولما حال الحول على النصارى كلّهم حتى يهلكوا ».
    ثم قال الزمخشري : ما كان دعاوَه إلى المباهلة إلاّ ليتبين الكاذب منه ومن خصمه ، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه ، وأما ضم الاَبناء والنساء ، فلاَجل أنّ ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده ، وأحب الناس إليه لذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة ، وخص الاَبناء والنساء لاَنّهم أعز الاَهل وألصقهم بالقلوب ، وربّما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل ، ومن ثم كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ويسمّون الذادة عنهم بأرواحهم حماة الحقائق. (1)
    إنّ معجزة النبي ـ وهي حلول العذاب على نصارى نجران ـ وإن لم تتحقّق بسبب انصراف النصارى عن المباهلة ، إلاّ أنّ ذهاب الرسول إلى المباهلة واستعداده لذلك من جانب ، وانسحاب نصارى نجران من الدخول مع الرسول في هذا التباهل من جانب آخر ، يكشفان عن أنّ حلول العذاب كان حتمياً لو تباهلوا ، فقد أدركوا الخطر وأحسّوا بخطورة الموقف ، فاستعدوا للمصالحة والتنازل.
    1 ـ الكشاف : 1/326 ـ 327 ( بتلخيص يسير ) ولاحظ مجمع البيان : 1/452 ـ 453.

(102)
مطالبة النبي بالمعاجز ، الواحدة بعد الاَُخرى
    إنّ القرآن يصرح بأنّ النبي كلّما أتى لقومه بمعجزة طالبوه بمعجزة أُخرى ، وأصرّوا على أن تكون معاجزه مثل ما أُوتي رسل اللّه من قبل ، وهذا يدل على أنّ الرسول أظهر معاجز غير القرآن فوقع مورد الاعتراض والاِصرار.
    قال سبحانه : ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُوَْمِنَ حَتَّى نُوَْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ ). (1)
    فلنقف على المراد من لفظ ( آية ) الواردة في هذا المورد ، فليس المراد منها نفس القرآن ، ولا الآية القرآنية ، لاَنّ لفظ الآية كما ترى جاءت بصورة النكرة ، وهي تكشف عن نوع خاص منها ، بينما إذا كان المقصود هو القرآن أو الآية القرآنية ، كان ينبغي أن يكون الكلام على نحو آخر ، والآية نظير قوله سبحانه : ( وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الاَلِيمَ ). (2)
    والمقصود منها : كل آية معجزة ، تثبت صلة الرسول باللّه سبحانه نظير قوله سبحانه : ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ). (3)
    إنّ لفظ الآية يستعمل في القرآن في موارد :
    1. العلامة المطلقة : فيقال هذا آية ذلك ، قال سبحانه : ( وَكَأَيّن مِنْ آيةٍ فِي السَّمواتِ وَالاَرْضِ يَمُرونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُوَمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللّهِ إلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ). (4)
    1 ـ الاَنعام : 124.
    2 ـ يونس : 97.
    3 ـ البقرة : 145.
    4 ـ يوسف : 105 ـ 106.


(103)
    ومثله قوله سبحانه : ( وَجَعَلْنَا الليْلَ والنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ الليْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ). (1)
    وقد استعمل لفظ الآية في هذا المعنى كثيراً في القرآن الكريم ، ويقصد من الآية علامة الشيء ، إذا كانت دالة على وجوده سبحانه وصفاته ، أو ما إذا كانت مقارنة مع العبرة ، كما في قوله سبحانه : ( فالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ) . (2)
    2. الآية القرآنية : مثل قوله سبحانه : ( ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِالْحَكِيمِ ) (3) وقوله سبحانه : ( لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللّهِ أَناءَ الليْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ). (4)
    3. المعجزة لا بمعنى انّ الآية بمعنى المعجزة ، بل بمعنى نفس العلامة ولكن مقرونة بهذا الوصف وكأنّ لفظة المعجزة مقدرة بعدها ، ومن هذا القبيل قوله سبحانه : ( أنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيةٍ مِنْ رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بإِذْنِ اللّهِ ). (5)
    وعلى الجملة فليس للفظ ( الآية ) إلاّ معنى واحد ، وإنّما الاختلاف في المستعمل فيه ، فيكون الشيء آية للعبرة ، أو آية لقدرته وعلمه ، أو آية لكون الآتي بها مبعوثاً من جانبه سبحانه ، إلى غير ذلك ، فالتمييز بين الموارد إنّما هو بحسب القرائن الحافة بالكلام.
    1 ـ الاِسراء : 12.
    2 ـ يونس : 92.
    3 ـ آل عمران : 58.
    4 ـ آل عمران : 113.
    5 ـ آل عمران : 49.


(104)
    وعلى ذلك فالمراد من قوله سبحانه : ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيةٌ قَالُوا لَنْ نُوَْمِنَ حَتَّى نُوَْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ ) هو العلامة الدالة على أنّ الآتي بها مبعوث من جانبه سبحانه ، فتكون معجزة للناس وموجبة للتحدي.
    ولو كان المراد الآية القرآنية لكان الاَنسب بل المناسب أن يستعمل كلمة « النزول » بدل « المجيء » فيقال : وإذا نزلت عليهم آية ، مكان ( وإذا جاءتهم آية ).
    على أنّ الدقة في مضمون الآية والقرائن الحافة بها تعطي أنّ المقصود من لفظة الآية هنا هو غير القرآن ، غاية ما في الباب أنّ المشركين كانوا يريدون أن تكون المعاجز التي يأتي بها رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) مثل المعاجز التي أتى بها موسى ( عليه السلام ) مثلاً.
    وأما علّة اختلاف الاَنبياء في صنوف المعاجز ، فسيوافيك بيانها في الفصل القادم.

وصف معاجز النبي بالسحر
    إنّ هناك آيات تصرّح بأنّ المشركين كلّما رأوا من الرسول صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم معجزة قالوا : إنّها سحر ، وهذا أدلّ دليل على ظهور معاجز ـ عدا القرآن ـ على يد النبي الاَمين ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ).
    أمّا هذه الآيات فمنها قوله سبحانه : ( وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ * وَقَالُوا إِنْ هَذَا إلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ) (1) وكلمة ( رأوا ) وتنكير لفظ ( آية ) شاهدان على أنّ المقصود من الآية هو غير القرآن من المعاجز ، وإلاّ كان المناسب أن يستعمل ألفاظ « النزول » أو « السماع » أو غير ذلك ، مكان « الروَية » ، أو تبديل النكرة
    1 ـ الصافات : 14 ـ 15.

(105)
بالمعرفة ، نظير قوله سبحانه : ( وإن يروا كل آية لا يوَمنوا بها ).
    ولاَجل ذلك نرى المفسرين يستشهدون بهذه الآية وغيرها على إثبات معاجز للنبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) غير القرآن الكريم.

النبي الاَعظم وبيّناته
    تفيد الآية التالية أنّ النبي الاَعظم ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) جاء إلى الناس بالبينات ، وهي المعاجز ، بقرينة سائر الآيات الاَُخر التي استعملت فيها كلمة البينات في المعاجز ، قال سبحانه : ( كَيْفَ يَهْدي اللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ البَّيِنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمينَ ). (1)
    والبيّنات جمع البيّنة بمعنى المبيّن لحقيقة الاَمر ، وربّما يحتمل أنّ المراد منها هو القرآن ، أو البشائر الواردة في الكتب النازلة قبل القرآن حول النبي الاَكرم ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) ، ولكن ملاحظة الآيات الاَُخر التي استعملت فيها هذه الكلمة وأُريد منه المعاجز والاَعمال الخارقة للعادة ، توجب القول بأنّ المراد : إمّا خصوص المعاجز ، أو الاَعم منها ومن غيرها ، وقد ورد فيما يلي من الآيات لفظ « البيّنات » وأُريد منها المعاجز.
    قال سبحانه : ( َوآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ ) (2) ، ( ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّناتُ ) (3) ( إِذ جِئْتَهُم بِالبَيِّناتِ ) (4) ( وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّناتِ ) (5) إلى غير ذلك ممّا ورد فيه لفظ البينات وأُريد منه الخوارق للعادة ، لاحظ المعجم المفهرس لفظة البينات.
    1 ـ آل عمران : 86.
    2 ـ البقرة : 87.
    3 ـ النساء : 153.
    4 ـ المائدة : 110.
    5 ـ المائدة : 32.


(106)
    ولا نقول إنّ لفظ البيّنة بمعنى المعجزة ، بل هي كما عرّفناك هو الدليل المبين للحقيقة ، والمعاجز أحد مصاديقها.

إخبار النبي عن الغيب كالمسيح
    يعد القرآن الاِخبار عن المغيبات من معاجز السيد المسيح ( عليه السلام ) ويقول حاكياً عنه : ( وَأُنَبِّئكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُّوَْمِنينَ ). (1) وقد أخبر النبي محمد ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) عن طائفة من المغيبات بواسطة الوحي الذي يوحى إليه ، وجاءت عدة من هذه المغيبات في القرآن الكريم منها قوله مخبراً عن انتصار الروم بعد هزيمتهم ( ألم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الاَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنينَ ) . (2) كما أخبر عن هزيمة قريش في بدر قال : ( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ). (3)
    وقد جمعنا موارد إخبار النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) عن المغيبات عن طريق الوحي في الجزء الثالث من هذه الموسوعة. (4) فلاحظ.

معاجز الرسول الاَعظم في الاَحاديث الاِسلامية
    ما ذكرناه بعض ما ورد من معاجز النبي الاَكرم في القرآن ، غير أنّه ورد في الاَحاديث والروايات الصحيحة ما ينص على أنّ الرسول أظهر معاجز غير القرآن أكثر من أن تحصى ، وقد جمعها وأحصاها علماء الحديث ودوّنوها في كتبهم ، وموَلّفاتهم ، وأجمع كتاب أُلِّف في هذا الموضوع ما جمعه الشيخ العاملي ( المتوفّى
    1 ـ آل عمران : 49.
    2 ـ الروم : 1 ـ 3.
    3 ـ القمر : 45.
    4 ـ معالم النبوة في القرآن الكريم : 455 ـ 556 وأيضاً 503 ـ 509.


(107)
عام 1104 هـ ) وأسماه « إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات » وقد نقل فيها معجزات النبي بمئات الاَسناد ، استخرجها من كتب الشيعة والسنّة ، جزاه اللّه عن الاِسلام وأهله خير الجزاء.
    على أنّ أحاديث المسلمين حول معاجز نبي الاِسلام تمتاز على روايات اليهود والنصارى حول معاجز أنبيائهم من ناحيتين :
    الاَُولى : قلة المسافة الزمنية بيننا وبين حوادث عهد النبي وكثرتها بيننا وبين حوادث عهود النبيين موسى وعيسى عليمها السَّلام وغيرهما ، وهذا يوجب الاطمئنان إلى روايات المسلمين أكثر من غيرهم.
    الثانية : تواتر الروايات الاِسلامية حول معاجز النبي الاَكرم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم وعدمه في الجانب الآخر ، خاصة إذا عرفنا أنّ الروايات التي ينقلها اليهود والنصارى حول معاجز أنبيائهم تنتهي إلى أفراد قلائل.
    وليعلم القارىَ أنّا لسنا بصدد تصحيح كل ما نسب إلى النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم من المعجزات وخوارق العادات سواء أصحّ سنده ، أم لا ، أطابق كتاب اللّه أم لا ، أوافق الاَُصول العقلية أم لا ، بل نحن بصدد نفي السلب الكلي الذي ادّعاه أعداء القرآن والسنّة.
    هذا بعض ما يمكن التحدّث عنه هنا حول معاجز نبي الاِسلام العظيم ، غير القرآن الكريم معجزته الخالدة.


(108)

(109)
3
تحقيق وتحليل
لمفاد الآيات النافية للمعجزة


(110)
في هذا الفصل
    1. الطرق العلمية الثلاث لاِثبات نبوّة مدّعي النبوة.
    2. يجب على النبي أن يكون مزوداً بالمعاجز ، ولا يجب عليه القيام بكل ما يقترح الناس عليه.
    3. انّما يصح القيام بالمعجزة المطلوبة إذا تعلّق الطلب بالاَمر الممكن لا المحال ، وكان بين الطالبين جماعة مستعدة للانضواء تحت راية النبي.
    4. المعجزة نوع تصرف في الكون ولا تتحقق إلاّ بإقدار وإذن من اللّه سبحانه.
    5. الهدف الاَسمى من الاِعجاز هو هداية الناس ، فلو تعلّق طلب المقترحين بإبادتهم لما صح القيام به.
    6. هناك معاجز لو طلبها الناس ولم يوَمنوا بالنبي بعد الاِتيان بها لعمّهم العذاب.
    7. عرض الآيات الثمانِ عشرة التي استدل بها القساوسة على عدم تجهز النبي بمعجزة سوى القرآن.
    8. عدم قيام النبي بمقترحات الطالبين بالمعجزة لفقدان الشرائط اللازمة في القيام بمقترحات الطالبين ، وهي عشرة.
مفاهيم القرآن ـ جلد الرابع ::: فهرس