مفاهيم القرآن ـ جلد الراربع ::: 91 ـ 100
(91)
    ثم استشهد بآيات في سورة العنكبوت والاِسراء والاَنعام وغيرها ، ممّا سنفرد لدراستها فصلاً خاصاً بعد هذا الفصل.
    على أنّ « فندر » لم ينفرد بطرح هذه الشبهة ، بل طرحها قساوسة آخرون قبله وبعده.
    وقد ذكر فخر الاِسلام : أنّ المسيو « جورج دوروي » رسم في ص 157 من كتابه صورة خيالية عن النبي الاَكرم بيده ورقة من القرآن الكريم ، وكتب تحت الصورة هكذا : كان محمد كلّما طالبه قومه بمعجزة ردّهم قائلاً : ليس لي أن آتيكم بمعجزة إلاّ بإذن اللّه ، ولكن اللّه لم يمن عليّ بهذه النعمة ، أي نعمة إظهار المعاجز. (1)
    وبهذه الكيفية حاول المسيو « جورج دوروي » المسيحي أن ينفي معاجز النبي محمد ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) ، ولكن ما نقله عن رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يتألف من صحيح وسقيم.
    أمّا الصحيح : فهو قوله في جواب قومه : إنّه ليس لي أن آتيكم بمعجزة إلاّ بإذن اللّه. وذلك أمر يوَيده القرآن حيث يقول سبحانه : ( ومَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إلاّ بِإِذْنِ اللّهِ ). (2)
    وأمّا السقيم : فهو ما ألحقه بكلام الرسول افتراءً عليه ، وهو قوله : ولكن اللّه لم يمنّ عليّ بهذه النعمة ولم يعطني أية معجزة.
    فإنّ هذا الكلام المنقول عن لسان النبي تقوّل على رسول اللّه ، وقد دلّت شواهد كثيرة على أنّه أتى بمعاجز كثيرة لقومه يوم طلبوا منه ذلك ، ولم يكن شأنه إلاّ شأن سائر الاَنبياء والرسل.
    1 ـ أنيس الاَعلام : 5/351 لفخر الاِسلام وهو قس مسيحي أسلم وكتب حول النصرانية ، وما فيها من تناقضات وخرافات ، كتابه القيم « أنيس الاَعلام » وغيره من الكتب القيمة.
    2 ـ الرعد : 38.


(92)
    ثم إنّ القسيس « أنار كلي » موَلف كتاب « مشكاة الصدق » الذي طبع في لاهور سنة 1901م قد بسط الكلام في هذا الباب ، فهو ـ بعد أن طرح الشبهة في كتابه واستشهد بآيات من القرآن على مزعومه ـ قال : إنّ محمداً كلّما طالبه قومه بأن يأتي لهم بمعجزة لاذ بالصمت ، أو تهرّب من ذلك الطلب ، مكتفياً بقوله : « إنّما أنا بشر مثلكم » و « إنّما إنا منذر » إلى غير ذلك من العبارات.
    وسوف نقوم بتحليل هذه الآيات التي استند إليها « انار كلي » في مزعومه.
    أجل هكذا سعى الكتّاب المسيحيون إلى إنكار معاجز الرسول ، ونفوا أن تكون له معجزة أُخرى سوى القرآن ، فهل هم على حق فيما يزعمون؟ بكل تأكيد لا ، لاَنّ المحاسبة العقلية ـ قبل أي دليل ـ تفنّد هذه المزعمة ، وتثبت نفس المحاسبة أنّ الرسول الاَعظم كان صاحب معاجز أُخرى عدا القرآن الكريم ( معجزته الخالدة ) ، وإليك بيانها.

المحاسبة العقلية تفند مزعمة القساوسة :
    إنّ الرسول الاَعظم ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) وصف نفسه بأنّه خاتم الاَنبياء ، وأنّ رسالته خاتمة الرسالات ، وكتابه خاتم الكتب ، حسبما أوردنا أدلّته في الجزء الثالث من هذه السلسلة. (1)
    ثم أخبر عن وقوع معاجز على أيدي الرسل والاَنبياء ، حيث قال في شأن موسى ( عليه السلام ) : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آياتٍ بَيّناتٍ ). (2) وقال أيضاً : ( وَأَدْخِلْ يَدَكَ فَي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلَى فِرْعَونَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسقِينَ ). (3)
    ثم إنّه عندما يتحدّث عن المسيح ودعوته ، يصفه بوحي من اللّه بقوله : ( وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إسْرائيل أَنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَّبِّكُمْ إِنّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىَُ الاَكْمَهَ وَالاََبْرَصَ وَأُحْيي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئكُمُ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُوَْمِنينَ ). (4)
    1 ـ لاحظ مفاهيم القرآن : 3/118 ـ 180.
    2 ـ الاِسراء : 101.
    3 ـ النمل : 12.
    4 ـ آل عمران : 49.


(93)
    ثم إنّه ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) لم يخص هذين النبيين العظيمين بالاِتيان بالمعاجز ، بل أثبتها لكثير من الاَنبياء من قبله كما هو لائح لمن سبر أحوالهم في القرآن المجيد.
    وعند ذلك ، كيف يكون للنبي الاَعظم وهو يخبر بهذه المعاجز للاَنبياء ويصف نفسه بأنّه خاتمهم وآخرهم ، وأفضلهم ، إذا طلبوا منه إظهار المعجزة ، أن ينكص ويتهرّب ، أو يلوذ بالصمت ، أليس في مثل هذا ما يوهن دعوته ، وينقض أقواله؟
    لو فرضنا أنّ النبي الاَعظم ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) لم يكن إلاّ نابغة من النوابغ الذين نهضوا لاِصلاح أُمّتهم متستراً برداء النبوة ، لما كان يصح منه أن يخبر بمعاجز للاَنبياء الماضيين ثم ينكص هو نفسه عن الاِتيان بمثلها ، ومع ذلك يزعم أنّه خاتمهم وأكملهم ديناً ، فكيف وهو نبي صدقاً وحقاً ، قد بانت دلائل صدق دعوته ، بأوضح الدلائل وأتقن البراهين؟
    فالمحاسبة العقلية تحكم ببطلان ما زعمه القساوسة ، بل تثبت بكل قوّة أنّ النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) قد أظهر معاجز عديدة لقومه عندما طلبوا منه ذلك ، كيف ، والقرآن يصفه بما لا يصف به أحداً من أنبيائه؟ وهو يقتضي عقلاً أن يكون له مثل ما أُوتي سائر الاَنبياء ، وأن يكون قد أتى بها مبرهناً على صدق دعوته خصوصاً إذا توقفت هداية قومه على إظهار معاجزه.


(94)
    ولهذا السبب كان منتحلو النبوة ـ كذباً ـ ينكرون معاجز الاَنبياء ، أو يتأوّلونها تخلّصاً من الاِحراج إذا طالبهم الناس بالمعجزة ، على العكس من سيرة الرسول ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) وأقواله الذي أخبر بصراحة عن معاجز الاَنبياء بالتفصيل ، كما أخبر أنّ دعوات الاَنبياء ما كانت تنفك عن طلب المعاجز منهم ، فما من نبي راح ينذر قومه إلاّ وطالبوه بأن يظهر لهم معجزة يبرهن بها على صدق مدّعاه وصدق رسالته ، وقد أسلفنا بعض الآيات في هذا المورد.

القرآن يثبت للنبي معاجز غير القرآن
    إنّ القرآن يخبر ـ بصراحة ـ عن وقوع معاجز غير القرآن على يدي الرسول الاَمين ، وإليك الآيات القرآنية الواردة في هذا المورد :

1. انشقاق القمر
    قال سبحانه : ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وإِن يَرَوْا آيةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُواْ أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الاَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ). (1)
    أطبق المفسرون مثل الزمخشري في كشافه ، والطبرسي في مجمعه والرازي في مفاتيحه على ما يلي :
    اجتمع المشركون إلى رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) فقالوا : إن كنت صادقاً فشق لنا القمر فلقتين. فقال لهم رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « إن فعلت توَمنون؟ » قالوا : نعم ، وكانت ليلة بدر ، فسأل رسول اللّه ربّه أن يعطيه ما قالوا ، فانشق القمر فلقتين ، ورسول اللّه ينادي : « يا فلان يا فلان اشهدوا ».
    1 ـ القمر : 1 ـ 4.

(95)
    وقال ابن مسعود : انشق القمر على عهد رسول اللّه شقتين ، فقال لنا رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) : « اشهدوا اشهدوا ».
    ونقل عن ابن مسعود أنّه قال : والذي نفسي بيده لقد رأيت حرّاء بين فلقتي القمر.
    وعن جبير بن مطعم : انشق القمر على عهد رسول اللّه حتى صار فلقتين على هذا الجبل ، وعلى هذا الجبل ، فقال ناس : سحرنا محمد ، فقال رجل : إن كان سحركم فلم يسحر الناس كلَّهم.
    وقد روى حديث انشقاق القمر جماعة كثيرة من الصحابة ، منهم : عبد اللّه ابن مسعود ، وأنس بن مالك ، وحذيفة بن اليمان ، وابن عمر ، وابن عباس ، وجبير ابن مطعم ، وعبد اللّه بن عمر ، وعليه جماعة المفسرين ، إلى أن قال : فلا يعتد بخلاف من خالف فيه ، لاَنّ المسلمين أجمعوا على ذلك ، والطعن في ذلك بأنّه لو وقع انشقاق القمر في عهد رسول اللّه لما كان يخفى على أحد من أهل الاَقطار ، قول باطل ، فيجوز أن يكون اللّه تعالى قد حجبه عن أكثرهم بغيم وما يجري مجراه ، ولاَنّه قد وقع ذلك ليلاً ، فيجوز أن يكون الناس نياماً فلم يعلموا بذلك ، على أنّ الناس ليس كلّهم يتأملون ما يحدث في السماء وفي الجو من آية وعلامة ، فيكون مثل انقضاض الكواكب وغيره مما يغفل الناس عنه ، وإنّما ذكر سبحانه اقتراب الساعة مع انشقاق القمر ، لاَنّ انشقاقه من علامة نبوة نبينا ، ونبوته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة. (1)
    وما ذكره من الاعتذار في عدم روَية أكثر الناس انشقاق القمر مبني على ما كان يعتقده علماء الفلك في الاَزمنة السابقة من كون الاَرض مسطحة لا كروية بحيث إذا طلع البدر يطلع على الناس كلّهم ، وإذا غرب غرب عنهم جميعاً في
    1 ـ مجمع البيان : 5/186.

(96)
وقت واحد ، وهذا مرفوض لكروية الاَرض.
    وقال الرازي : المفسرون بأسرهم على أنّ المراد : انّ القمر انشق وحصل فيه الانشقاق ، ودلّت الاَخبار على حديث الانشقاق ، وفي الصحيح خبر مشهور رواه جمع من الصحابة ، وقالوا : سئل رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) آية الانشقاق بعينها معجزة ، فسأل ربّه فشقه ، ومضى.
    وقال بعض المفسرين المراد سينشق ، وهو بعيد ولا معنى له ، لاَنّ من منع ذلك ـ وهو الفلسفي ـ يمنعه في الماضي والمستقبل ، ومن يجوزه لا يحتاج إلى التأويل ، وإنّما ذهب إليه ذلك الذاهب لاَنّ الانشقاق أمر هائل ، فلو وقع لعم وجه الاَرض فكان ينبغي أن يبلغ حد التواتر ، نقول : النبي لما كان يتحدّى بالقرآن وكانوا يقولون : إنّا نأتي بأفصح ما يكون من الكلام وعجزوا عنه ، فكان القرآن معجزة باقية إلى قيام القيامة لا يتمسك بمعجزة أُخرى ، فلم ينقله العلماء بحيث يبلغ حد التواتر ، وأمّا الموَرّخون فتركوه ، لاَنّ التواريخ في أكثر الاَمر يستعملها المنجم ، وهو لما وقع الاَمر قالوا بأنّه مثل خسوف القمر وظهور شيء في الجو على شكل نصف القمر في موضع آخر فتركوا حكايته في تواريخهم ، والقرآن أدلّ دليل وأقوى مثبت له ، وإمكانه لا يشك فيه ، وقد أخبر عنه الصادق ، فيجب اعتقاد وقوعه ، وحديث امتناع الخرق والالتئام حديث اللئام ، وقد ثبت جواز الخرق والتخريب على السماوات. (1)
    وقال الزمخشري : إنّ أنس بن مالك قال : إنّ الكفار سألوا رسول اللّه آية فانشق القمر مرتين ، قال ابن عباس : انفلق فلقتين : فلقة ذهبت وفلقة بقيت. وقال ابن مسعود : رأيت حراء بين فلقتي القمر. وعن حذيفة انّه خطب بالمدائن وقال : ألا إنّ الساعة قد اقتربت ، وانّ القمر قد انشق على عهد نبيكم. (2)
    1 ـ مفاتيح الغيب : 7/748.
    2 ـ الكشاف : 3/189.


(97)
    هذه عبائر أشهر المفسرين الذين أسميناهم ، ومثلها غيرهم ، ونحن لا يهمنا البحث في تفاسير هذه المعجزة ، ولا الاعتراضات الطفولية التي تثار حولها ، إنّما يهمنا أن نبحث في دلالة الآيات المذكورة على وقوع هذه المعجزة العظمى على يد الرسول الكريم.
    أمّا قوله سبحانه : ( اقتربت الساعة ) فمعناه أنّ الساعة ـ أي القيامة ـ قد قربت وقرب موعد وقوعها ، وإن كان الكفّار يتصورونه بعيداً ، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في موضع آخر حيث قال : ( إنّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَراه قَرِيباً ). (1)
    وأمّا قوله : ( وانشق القمر ) يدل على وقوع انشقاق القمر ، لاَنّه فعل ماض ولا وجه لحمله على المستقبل ، بأن يكون المراد سينشق القمر في المستقبل أي عند وقوع القيامة ، لاَنّ إرادة المضي من لفظ انشق أولى ، للمناسبة بينها وبين الجملة السابقة : ( اقتربت ) وحمل الثاني ( انشق ) على المستقبل نوع مجاز ، وإن كان بادّعاء كونه محقق الوقوع ، وأمّا وجه الربط بين الجملتين فهو ما أشار إليه أمين الاِسلام الطبرسي في مجمعه من أنّ انشقاقه من علامة نبوة نبينا ، ونبوته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة.
    وبهذا يكون القرآن قد أخبر في هذه الآية عن تحقق هذين الشرطين : ظهور نبي الاِسلام ، وانشقاق القمر بيده ، وإنّهما من أشراط الساعة كما يقول في آية أُخرى : ( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا ). (2)
    وعندئذ لا مجال لحمل الجملة ( انشق ) على المستقبل.
    أضف إلى ذلك أنّ قوله تعالى : ( وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ
    1 ـ المعارج : 6 ـ 7.
    2 ـ محمد : 18.


(98)
مُّسْتَمِرٌّ ) أوضح شاهد على وقوع هذه المعجزة « انشقاق القمر » في عهد الرسول ، لاَنّ المقصود من الآية في قوله ( وَإِنْ يَرَوْا آيَةً ) غير القرآن من المعاجز ، بدليل أنّه يقول : ( وإن يروا ) ولو كان المراد من الآية هي الآيات القرآنية لكان اللازم أن يقول : وان سمعوا آية ، أو تنزّلت عليهم آية ، وعلى هذا تكون الآية المرئية هي انشقاق القمر الذي سبق ذكره في الآية السابقة.
    ثم إنّ الدقة والاِمعان في قوله تعالى : ( يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) يقودنا إلى الاِذعان بأنّ ظرف هذا الحدث « انشقاق القمر » إنّما هو هذا العالم الدنيوي ، وقبل بعث الناس وحشرهم حتى يكون مجال للناس أن يتفوّهوا بغير الحق ، ويقولوا هذا سحر مستمر ، وأمّا الآخرة فليس هناك لاَحد أن يتفوّه بغير الحق ، أو يصف الاِعجاز بالسحر إذ يختم في ذلك اليوم على الاَفواه ، وتتكلّم الاَيدي والاَرجل قال سبحانه : ( الْيَومَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ). (1)
    بل لا يوَذن لهم حتى يعتذروا فضلاً عن أن يتكلموا بما سولت لهم أنفسهم من الكذب والدجل ، قال سبحانه : ( هَذَا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ * وَلاَ يُوَْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ) (2) بل هناك تنكشف الحقائق وتظهر البواطن ويقف الاِنسان على الحقائق ببصر حديد قال سبحانه : ( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَديدٌ ). (3)
    هكذا يدل هذا المقطع من الآية على أنّ ظرف الانشقاق كان في زمن الرسول ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) ، ولاَجل ذلك اتخذ منه المشركون موقفاً متعنتاً مجادلاً ، وقال قائلهم :
    1 ـ يس : 65.
    2 ـ المرسلات : 36.
    3 ـ ق : 22.


(99)
سحركم ابن أبي كبشة ، حيث كان المشركون يدعون الرسول الاَعظم بابن أبي كبشة وهو من أجداد النبي من ناحية أُمّه. (1)

2. معراج النبي
    إنّ إسراء النبي ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الاَقصى إحدى المعاجز العظيمة التي أثبتها اللّه سبحانه لنبيه ، وأخبر عنه القرآن حيث قال : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الاَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ). (2)
    وليست تلك الرحلة الطويلة التي تحقّقت في زمن قصير في ذلك الظرف الذي لم يكن تتوفر فيه ما يتوفر الآن من وسائل النقل السريعة ، إلاّ معجزة من معاجزه.
    إنّ القرآن الكريم لا يثبت هذا الاِعجاز للرسول في هذا الموضع فحسب ، بل يذكره في موضع آخر أيضاً ، ويدافع عنه هناك بقوة بحيث لا يبقى معه شك ، بل يخبر أنّ رحلة النبي ومعراجه تجاوز عن المسجد الاَقصى إلى « سدرة المنتهى ». قال سبحانه : ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى * وَهُوَ بالاَُفُقِ الاََعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُوََادُ مَا رَأى * أَفَتُمارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ). (3)
    1 ـ الدر المنثور : 6/133. وقد جمع النقول الواردة عن الصحابة حول شق القمر ، فلاحظ.
    2 ـ الاِسراء : 1.
    3 ـ النجم : 5 ـ 18.


(100)
    ونحن لسنا بصدد الخوض في تفاصيل قضية المعراج ، بل يكفي الاِذعان بوقوعها ورودها في هاتين السورتين ، مضافاً إلى الاَحاديث المتواترة حول قضية المعراج ، وإن لم تكن الخصوصيات بالغة إلى هذا الحد من التواتر ، بل حولها أحاديث آحاد غير جامعة لشرائط الحجية ، وقد قسم الطبرسي في مجمعه الاَحاديث الواردة حول المعراج ، إلى أربعة أقسام ، فلاحظ.

3. مباهلة النبي لاَهل الكتاب
    تعرض القرآن لقضية المباهلة ، في الآية التالية : قال سبحانه : ( فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ). (1)
    قال الزمخشري في تفسير الآية : لمّا دعاهم النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم إلى المباهلة قالوا : حتى نرجع وننظر ، فلمّا تخالوا قالوا للعاقد ـ وكان ذا رأيهم ـ : يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال : واللّه لقد عرفتم يا معشر النصارى أنّ محمداً نبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم ، واللّه ما باهل قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ، ولئن فعلتم لتهلكن ، فإن أبيتم إلاّ ألف دينكم والاِقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم ، فأتوا رسول اللّه ، وقد غدا محتضناً الحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه ، وعلي خلفها. وهو يقول : إذا أنا دعوت فأمّنوا ، فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى! إنّي لاَرى وجوهاً لو شاء اللّه أن يزيل جبلاً من مكانه لاَزاله بها ، فلا تباهلوا فتهلكوا ، ولا يبقى على وجه الاَرض نصراني إلى يوم القيامة.
    فقالوا : يا أبا القاسم! رأينا أن لا نباهلك وأن نقرّك على دينك ، ونثبت على ديننا. قال : « فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين ، وعليكم ما
    1 ـ آل عمران : 61.
مفاهيم القرآن ـ جلد الرابع ::: فهرس