مفاهيم القرآن ـ جلد الراربع ::: 191 ـ 200
(191)
( إلاّ من بعد إذنه ) ، ( إلاّ من اتخذ عند اللّه عهداً ) ، ( إلاّ من أذن له الرحمن ورضي له قولا ) ، ( إلاّ لمن ارتضى ) ، ( إلاّ لمن أذن له ) ، ( إلاّ من شهد بالحق ) ، ( إلاّ من بعد أن يأذن اللّه لمن يشاء ويرضى ) ، كما في سورة البقرة الآية 256 ، ويونس الآية 6 ، ومريم الآية 90 ، وطه الآية 108 ، والاَنبياء الآية 29 ، وسبأ الآية 22 ، والزخرف الآية 86 ، والنجم الآية 27. وانّ الشفاعة المستثناة والمستدركة في آيات البقرة ويونس وسبأ مطلقة غير مختصة بيوم القيامة ولا بما قبل وفاة الشافع في الدنيا. (1)
    29. قال الدكتور سليمان دنيا : والشفاعة لدفع العذاب ورفع الدرجات حق لمن أذن له الرحمن من الاَنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والموَمنين بعضهم لبعض لقوله تعالى : ( يومئذ لا تنفع الشفاعة إلاّ من أذن له الرحمن ورضي له قولا ) وقوله تعالى : ( من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه ). (2)
    30. قال الحكيم المتألّه العلاّمة الطباطبائي : إنّ الآيات الواردة حول الشفاعة بين ما يحكم باختصاص الشفاعة باللّه عزّ اسمه ، وبين ما يعمّمها لغيره تعالى بإذنه وارتضائه ونحو ذلك ، وكيف كان فهي تثبت الشفاعة بلا ريب غير أنّ بعضها تثبتها بنحو الاَصالة للّه وحده من غير شريك ، وبعضها تثبتها لغيره بإذنه وارتضائه.
    ثم ذكر وجه الجمع بين الآيات والذي سيوافيك توضيحه عند البحث عن الآيات. (3)
    31. يقول الاَُستاذ الشيخ محمد الفقيّ : وقد أعطى اللّه الشفاعة لنبيه ولسائر
    1 ـ آلاء الرحمان : 1/62.
    2 ـ محمد عبده بين الفلاسفة والكلاميين : 2/628.
    3 ـ الميزان : 1/156.


(192)
الاَنبياء والمرسلين وعباده الصالحين ، وكثير من عباده الموَمنين لاَنّه وإن كانت الشفاعة كلّها للّه كما قال : ( قُلْ للّهِ الشَّفاعَةُ جَميعاً ) (1) إلاّ أنّه تعالى يجوز أن يتفضّل بها على من اجتباهم من خلقه واصطفاهم من عباده ، وكما يجوز أن يعطي من ملكه ما شاء لمن شاء ، ولا حرج.
    ثم أخذ يستدل على الشفاعة بالآيات والروايات والاَشعار المأثورة عن الصحابة. (2)
    32. قال المحقّق الكبير السيد أبو القاسم الخوئي : يستفاد من القرآن الكريم أنّ اللّه تعالى قد أذن لبعض عباده بالشفاعة إلاّ أنّه لم ينوّه بذكرهم عدا الرسول الاَكرم فقد قال اللّه تعالى : ( لا يملكون الشفاعة إلاّ من اتخذ عند الرحمن عهداً ) ـ إلى أن قال ـ : والروايات الواردة عن النبي الاَكرم وعن أوصيائه الكرام في هذا الموضوع متواترة. (3)
    هذا نزر من كثير ، وغيض من فيض ، أتينا به ليكون القارىَ على بصيرة من موقف علماء الاِسلام ـ من الفريقين ـ من هذه المسألة الهامة ، وهي نصوص وتصريحات لا تترك ريباً لمرتاب ولا شكاً لاَحد ، غير انّ لبعض الكتّاب المصريين الذين تأثّروا بالموجة الوهابية (4) التي وصلت إليهم في أوائل القرن الرابع عشر وقد دعمتها السياسات الحاكمة في ذلك الزمان ، موقفاً آخر يتنافى مع هذا الموقف الاِسلامي العام وها نحن نأتي بنص كلامه.
    33. قال محمد فريد وجدي في دائرة معارفه : الشفاعة هي السوَال في
    1 ـ الزمر : 44.
    2 ـ التوسل والزيارة في الشريعة الاِسلامية : 206 ، ط. مصر.
    3 ـ البيان : 1/342.
    4 ـ مع أنّ موَسس الوهابية لا ينكر أصل الشفاعة وإنّما ينكر جواز طلبها من الشفيع ويقول : إنّه يجوز أن يقال : اللّهم شفّع رسول اللّه في حقي ، ولا يجوز أن يقال : اشفع يا رسول اللّه في حقي ، وللبحث مع هوَلاء في هذا الموضوع مقام آخر.


(193)
التجاوز عن الذنوب ، وفي الاصطلاح الديني سوَال بعض الصالحين من اللّه التجاوز عن معاقبة بعض المذنبين ، وقد أضرت هذه العقيدة بأكثر الاَديان وما هي إلاّ تحريف تقصّده الكهّان ليكون لهم شأن عند الناس ، وقد جاء الاِسلام فقوّم عقائد الاَُمم من هذه الجهة ، فذكر الشفاعة ثم قال : ( من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه ) وقال تعالى : ( وكأيّن من ملك في السموات والاَرض لا تغني شفاعتهم شيئاً إلاّ من بعد أن يأذن اللّه لمن يشاء ويرضى ) فمتى علم المسلم أنّ الشافع والمشفع هو اللّه وانّ لا أحد يمكنه أن يغني فتيلاً ، رفع وجهه من الاستشفاع بمثله إلى الاستشفاع بربّه ، وناهيك بهذا بعداً عن الوثنية وقرباً من الديانة الاِلهية. (1)
    لم يكن المتوقع من مثل عالم بارع قد أفنى عمره في الذب عن الاِسلام بتآليفه القيمة أن يتعامل مع الشفاعة بمثل ما تعامل به « فريد وجدي » فإنّ كلامه هذا يكشف عن عدم تدبّره في معنى الشفاعة التي نطق بها القرآن وأثبتتها الاَحاديث واختارها العلماء ، فإنّك ترى أنّه ينكر الشفاعة في بدء كلامه ويتلقّاها اعتقاداً ضاراً صنعه الكهنة وبثّوه بين الاَُمّة ، حيث قال : وقد أضرّت هذه العقيدة بأكثر الاَديان وما هي إلاّ تحريف تقصّده الكهان ليكون لهم شأن عند الناس. ولكنه سيعود في ذيل كلامه إلى العقيدة الوهابية في باب طلب الشفاعة الظاهرة في ثبوتها في نفس الاَمر ، غير أنّه ليس لنا إلاّ أن نطلبها من اللّه سبحانه حيث قال : فمتى علم المسلم أنّ الشافع والمشفع هو اللّه وأنّ لا أحد يمكنه أن يغني فتيلاً ، رفع وجهه من الاستشفاع بمثله إلى الاستشفاع بربِّه.
    وسوف توافيك الآثار التربوية للشفاعة الصحيحة التي كشف عنها القرآن وأيّدها العقل والبرهان ، وأنّ ما رآه فريد وجدي عقيدة ضارة فما هي إلاّ الشفاعة التي اخترعتها الوثنية أو اليهودية البعيدة عن العقيدة الاِسلامية ، وليس من
    1 ـ دائرة معارف القرن الرابع عشر : 5/402 ، مادة شفع.

(194)
الصحيح في منطق العقل أن يفسر أصل من أُصول الاِسلام ببعض العقائد الدارجة بين الاَقوام.
    34. وليعلم أنّه ليس الكاتب فريداً في هذا الخلط والخبط بل تبعه معاصره الشيخ الطنطاوي حيث يعترف في تفسيره بأنّ الشفاعة من أُصول الاِسلام المسلّمة وانّه لا اختلاف بين المعتزلة والفلاسفة وسائر الفرق الاِسلامية في أصل ثبوتها ، ولو كان هناك اختلاف فإنّما الاختلاف في مفادها ومرماها ، وحيث إنّه لم يتمكن من تحليلها بالمعنى الصحيح الذي يوَيده العقل أخذ يفسرها بتفسير بعيد عن واقع الشفاعة ، وإليك نص كلامه :
    إنّ النبي كالشمس المشرقة وهي مشرقة على اليابسة والبحار والآكام والنبات والشجر والاَرض السبخة والاَرض الطيّبة ، وكل من تلك المواضع يأخذ حظه من ضوئها على مقدار استعداده ، فهكذا الاَُمّة التي تتبع نبياً في أطوارها وأحوالها الدينية على حسب أمزجتها وأخلاقها وعوائدها وبيئتها فلا جرم يختلفون في قبوله اختلاف أحوالهم وتكون أحوالهم في الآخرة على مقتضى ذلك الاختلاف إلى أن قال : ـ واعلم أنّ للشفاعة بذوراً ونباتاً وثمراً ، فبذورها العلم ، ونباتها العمل ، وثمرها النجاة في الآخرة ، فالاَنبياء ( عليهم السلام ) علّموا الناس في الدنيا وفيها غرسوا البذور ، والناس إذا عملوا بما سمعوا منهم ينالون تلك الثمرة وهي النجاة والارتقاء ، فمبادىَ الشفاعة العلم وأوسطها العمل ونهايتها الفوز والرقيّ في الآخرة ، فالشفاعة تابعة للاقتداء فمن لم يعمل بما أنزل اللّه وتجافى عن الحق فقد عطّل ما وهب له من بذر الشفاعة. (1)
    وقد نسب هذا المقال إلى محيي الدين بن العربي ، والاِمام الغزالي ، وسيوافيك بقية كلامه عند البحث عن الاِشكالات.
    1 ـ الجواهر في تفسير القرآن الكريم : 1/64 ـ 65 ، بتلخيص منا.

(195)
    لو صحّ ما ذكره من المعنى للشفاعة لما كان منافياً للمعنى الآخر الذي ورد في الكتاب وتضافرت به الروايات كما سيجيىَ.
    ولا يخفى أنّ تفسير الشفاعة بما يتراءى في كلامه وان كان صحيحاً في حدّ ذاته ، ويليق أن يسمّى الاَوّل بالشفاعة القيادية ، والثانية بالشفاعة العملية ، غير أنّ هذين المعنيين لا يمتان إلى ما اتفقت عليه الاَُمّة في معنى الشفاعة بصلة ، حيث إنّهم فسروها بالحديث المتواتر عنه من ادّخار شفاعته لاَصحاب الكبائر أو للمذنبين من الاَُمّة ، وأين هذا من الشفاعة القيادية التي لا تختص بصنف دون صنف ، بل هي فيض إلهي عام شامل لجميع الناس حيث بعث اللّه سبحانه نبيّه بشيراً ونذيراً للعالمين كافة؟
    وكما أنّ الشفاعة القيادية لا تمّت إلى الشفاعة المصطلحة بصلة ، فهكذا الشفاعة بمعنى العمل بالاَحكام الاِلهية والوظائف الدينية ، فإنّها وإن كانت تنجي الاِنسان يوم التناد والعذاب ، لكنها غير مربوطة بما هو المصطلح في ذاك الباب.
    وبالجملة فإنّ الكاتب لما لم يتوفّق لحل بعض معضلات الباب أخذ يوَوّل الشفاعة إلى المعنيين الآخرين ، وليست لهما أية صلة بالمراد من الآيات والروايات الواردة في الباب.
    وسيوافيك المعنى الحقيقي للشفاعة بعد سرد الآيات وتفسير بعضها ببعض ولاَجل ذلك يجب علينا أن نقدم البحث عن مفاد الآيات ، وتفسير بعضها ببعض حتى يرتفع الاختلاف الذي يلوح للقارىَ لاَوّل وهلة ثم البحث عن معنى الشفاعة ولاَجل ذلك أفردنا الفصل التالي.


(196)
2
الشفاعة في القرآن الكريم
    قد وردت مادة الشفاعة ـ بصورها المتنوعة ـ ثلاثين مرّة في سور شتى ، ووقعت فيها مورداً للنفي تارة ، والاِثبات أُخرى ، هذا وكثرة الورود والبحث عنها ينم عن عناية القرآن بهذا الاَصل ، سواء في مجال النفي أو في مجال الاِثبات.
    غير أنّ الاستنتاج الصحيح من الآيات يحتاج إلى جمع الآيات في صعيد واحد ، حتى يفسر بعضها ببعض ، ويكون البعض قرينة على الاَُخرى ، إذ من الخطأ الواضح أن نقتصر في تفسير الشفاعة وأخواتها بآية واحدة ، ونغمض العين عن أُختها التي ربّما يمكن أن تكون قرينة للمراد ، وهذا الاسلوب أي البحث عن آية بمفردها مع الغض عن أُختها جرّ الويل والويلات على الباحثين في الاَبحاث القرآنية ، وأدّى إلى ظهور مذاهب مختلفة في المعارف والعقائد ، بحيث نرى أنّ صاحب كل عقيدة يستدل على اتجاهه بآية قرآنية ، أو بنص نبوّي ، غير أنّه أخطأ في الاعتماد على آية قد جاء توضيحها في آيات أُخرى ، وهذا النبي الاَكرم ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) يقول : « إنّ القرآن يصدق بعضه بعضاً » ويقول أيضاً : « إنّ القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً ، ولكن نزل أن يصدق بعضه بعضاً » وقال أيضاً : « إنّما هلك من كان قبلكم بهذا ضربوا كتاب اللّه بعضه ببعض ، وانّما نزل كتاب اللّه يصدق بعضه بعضاً ، فلا تكذبوا بعضه ببعض ، فما علمتم منه فقولوا وما جهلتم فكلوه إلى عالمه ». (1)
    1 ـ الدر المنثور : 2/6.

(197)
    وقال أمير الموَمنين ( عليه السلام ) : « وينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض ». (1)
    ولاَجل ذلك لا مناص من طرح جميع الآيات المرتبطة بالشفاعة والاستنتاج من جميعها جملة واحدة ، ولذلك نقول : إنّ الآيات المربوطة بالشفاعة على أصناف يرمي كل صنف إلى هدف خاص ، فنقول :

الصنف الاَوّل : الآيات النافية للشفاعة
    لا نجد من هذا الصنف إلاّ آية واحدة تنفي الشفاعة في بادىَ الاَمر بقول مطلق ، وهي قوله سبحانه : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ ). (2)
    وهذه الآية بظاهرها تنفي الشفاعة بتاتاً ، ولعل ظاهرها هو المستمسك الوحيد لمن اعتقد بأنّ الشفاعة عقيدة اختلقها الكهّان ليكون لهم شأن عند الناس. (3)
    إنّ منشأ الخطأ في تفسير هذه الآية هو الاقتصار على آية واحدة والغض عمّا ورد في موردها من الآيات الاَُخر.
    ولاَجل ذلك لو نظرنا إلى الآية التالية لهذه الآية نجد أنّها تصرّح بوجود الشفاعة عند اللّه سبحانه إذا كانت مقترنة بإذنه فقال سبحانه : ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ ) (4) أفبعد هذا التصريح يصح لنا أن نعتقد بنفي الشفاعة بتاتاً
    1 ـ نهج البلاغة شرح عبده : 2/32 الخطبة 149.
    2 ـ البقرة : 254.
    3 ـ لاحظ الفصل السابق : ص 193.
    4 ـ البقرة : 255.


(198)
وننسبها إلى القرآن ، ونرمي الاعتقاد بالشفاعة إلى الكهنة؟ كلا.
    ثم إنّ الدليل الواضح على أنّ مرمى الآية هو نفي قسم خاص من الشفاعة لا جميع أقسامها هو قوله سبحانه : ( ولا خلة ) فإنّ الظاهر من هذه الكلمة انقطاع أواصر الرفاقة يوم القيامة ، من غير فرق بين الموَمن والكافر ، والحال أنّ القرآن يصرح بانقطاعها بين الكفار خاصة حيث يقول سبحانه : ( الاََخِلاّءُ يَومَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاّ الْمُتَّقينَ ) (1) فإنّ الظاهر من الاستثناء وإن كان عدم العداوة بين المتقين إلاّ أنّ المتبادر من مجموع الآية هو بقاء الرفاقة الدنيوية مضافاً إلى انتفاء العداوة.
    قال في الكشاف : تنقطع في ذلك اليوم كل خلّة بين المتخالّين في غير ذات اللّه ، وتنقلب عداوة ومقتاً ، إلاّ خلّة المتصادقين في اللّه فإنّها الخلّة الباقية المزدادة قوة إذا رأوا ثواب التحابّ في اللّه تعالى والتباغض في اللّه. (2)
    وقال العلاّمة الطباطبائي : إنّ من لوازم المخالة إعانة أحد الخليلين الآخر في مهام أُموره ، فإذا كانت لغير وجه اللّه كان الاِعانة على الشقوة الدائمة والعذاب الخالد كما قال تعالى حاكياً عن الظالمين يوم القيامة : ( يا وَيْلَتى لَيْتَني لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَليلاً * لَقَدْأَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِبَعْدَ إِذْ جاءَني ). (3)
    وأمّا الاَخلاّء من المتقين فإنّ خلّتهم تتأكد وتنفعهم يومئذ.
    وفي الخبر النبوي : « إذا كان يوم القيامة انقطعت الاَرحام وقلّت الاَنساب وذهبت الاخوة إلاّ الاخوة في اللّه ، وذلك قوله : ( الاَخلاّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلاّ المتقين ) ». (4)
    1 ـ الزخرف : 67.
    2 ـ الكشاف : 3/102.
    3 ـ الفرقان : 28 ـ 29.
    4 ـ الميزان : 18/120 ـ 121.


(199)
    وعلى الجملة : إنّ انقلاب المخالة إلى العداوة لاَجل ما جاء في قوله سبحانه : ( لقد أضلّني عن الذكر ) فهذه العلّة منتفية في حق المتقين ، فأواصر الرفاقة باقية في يوم القيامة.
    وعلى ذلك فكما أنّ المنفي هو قسم خاص من المخالة دون مطلقها ، فهكذا الشفاعة ، فالمنفي بحكم السياق قسم خاص من الشفاعة.
    أضف إلى ذلك أنّ الظاهر هو نفي الشفاعة في حق الكفّار بدليل ما ورد في ذيل الآية حيث قال : ( والكافرون هم الظالمون ) أفبعد هذه الوجوه الثلاثة يصح لنا أن نجعل الآية دليلاً على انتفاء الشفاعة من أصلها يوم القيامة ؟ كلا.

الصنف الثاني : ما يفنّد عقيدة اليهود في الشفاعة
    هذا الصنف من الآيات ـ الذي ستوافيك نصوصه ـ يهدف إلى نفي عقيدة اليهود في الشفاعة حيث كان لهم في هذا المجال عقيدة خاصة كشفت عنها الآيات القرآنية ، وكانوا يعتقدون بأنّهم الشعب المختار ، وهم أبناء اللّه وأحباوَه ، قال سبحانه حاكياً عنهم : ( وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللّهِ وَأَحِبّاوَُهُ ). (1)
    كانوا يعتقدون بأنّ الاَواصر القومية القائمة بينهم وبين أنبيائهم هي التي تنجيهم وتدخلهم الجنة ويكفي في ذلك مجرّد الانتماء القومي والنسبي إلى أنبيائهم ، حيث قالوا : ( وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ). (2)
    وقد بلغت مغالاتهم في هذا المجال إلى درجة أنّهم زعموا أنّهم لا تمسهم النار إلاّ أياماً معدودة ، قال سبحانه حاكياً عنهم : ( لَنْ تَمَسَّنَا النّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً ) ولاَجل ذلك نرى أنّه سبحانه يرد على تلك المزعمة في ذيل تلك الآية
    1 ـ المائدة : 18.
    2 ـ البقرة : 111.


(200)
بقوله : ( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْداً ). (1)
    كما يرد عليهم في آية أُخرى بقوله : ( تِلْكَ ( أي عدم دخول الجنة إلاّ من كان هوداً أو نصارى ) أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْكُنْتُمْ صادِقينَ * بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ). (2)
    فهوَلاء كانوا يعتقدون بأنّ أنبياءهم وأسلافهم سوف يشفعون لهم وينجونهم من العذاب سواء أكانوا عاملين بشريعتهم أم عاصين ، وأنّ مجرد الانتماء والانتساب سوف يكفيهم في ذلك المجال.
    كانت هذه عقيدتهم في باب الشفاعة ، وفي هذا المجال وردت آيات تندد بعقيدتهم وترفض وتفند ما يذهبون إليه قائلة : ( يا بَني إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الّتي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّي فَضَّلْتُكُمْ عَلى الْعالَمينَ * وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُوَْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ). (3)
    وأنت ترى أن وحدة السياق تقضي بأنّ المراد من نفي قبول الشفاعة هو الشفاعة الخاطئة التي كانت تعتقدها اليهود في ذلك الزمان من دون أن يشترطوا في الشفيع والمشفوع له شرطاً أو أمراً ، ونظير ذلك قوله سبحانه حيث يقول بعد قوله : ( يا بَني إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ ) ، ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ). (4)
    ولاَجل ذلك لا يمكن أن يُتمسَّك بهاتين الآيتين لنفي أصل الشفاعة في يوم القيامة.
    1 ـ البقرة : 80.
    2 ـ البقرة : 111 ـ 112.
    3 ـ البقرة : 47 ـ 48.
    4 ـ البقرة : 122 ـ 123.
مفاهيم القرآن ـ جلد الرابع ::: فهرس