مفاهيم القرآن ـ جلد الراربع ::: 201 ـ 210
(201)
    قال الزمخشري في كشافه : كانت اليهود تزعم أنّ آباءهم الاَنبياء يشفعون لهم فأيسوا. (1)
    وقال الطبرسي : قال المفسّرون حكم هذه الآية ـ يريد الآية الثامنة والاَربعين ـ مختص باليهود ، لاَنّهم قالوا نحن أولاد الاَنبياء ، وآباوَنا يشفعون لنا فأَيْأَسهم اللّه عن ذلك ، فخرج الكلام مخرج العموم ، والمراد به الخصوص ، ويدل على ذلك ، أنّ الاَُمّة اجتمعت على أنّ للنبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) شفاعة مقبولة وان اختلفوا في كيفيتها. (2)
    وقال في المنار : إنّ ذلك اليوم ، يوم تنقطع فيه الاَسباب ، وتبطل منفعة الاَنساب ، وتتحول فيه سنة هذه الحياة من انطلاق الاِنسان في اختياره ، يدفع عن نفسه بالعدل والفداء ويستعين على المدافعة بالشفاعة عند الاَُمراء ، وقد يوجد له فيها أنصار ينصرونه بالحق والباطل على سواء.
    كان اليهود المخاطبون ببيان هذه الحقيقة كغيرهم من أُمم الجاهلية يقيسون أُمور الآخرة على أُمور الدنيا فيتوهمون أنّه يمكن تخلص المجرمين من العقاب بفداء يدفع بدلاً ، أو بشفاعة من بعض المقربين إلى الحاكم يغير بها رأيه ويفسخ إرادته. (3)
    وهذه الكلمات من أعلام التفسير تكشف القناع عن هدف الآية ومرماها وأنّها لا تهدف إلاّ إلى نفي الشفاعة المزعومة لدى اليهود من قدرة العاصي لبعث الشفيع إلى المشفوع عنده على كل تقدير وشرط ، مع أنّ الشفاعة الواردة في القرآن تنص على عكس ذلك في كلتا المرحلتين : مرحلة البعث ، ومرحلة الشرط ، فلا تتحقق إلاّ ببعث المشفوع عنده ، الشفيع إلى الشفاعة لا ببعث المشفوع له كما يظهر
حاله في الاَبحاث الآتية ، وحتى أنّه سبحانه أيضاً لا يبعث على كل حال وتقدير ، وفي حق كل أحد ، بل له شرائط خاصة كما سيوافيك بيانها.
    1 ـ الكشاف : 1/215.
    2 ـ مجمع البيان : 1/103.
    3 ـ تفسير المنار : 1/305 ـ 306.


(202)
الصنف الثالث : ينفي شمول الشفاعة للكفار
    هناك صنف من الآيات يصرّح بعدم وجود شفيع للكفار يوم القيامة ، أو أنّ شفاعة الشافعين لا تنفعهم ، وإليك هذه الآيات :
    1. ( يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاء فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ قَدْخَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ). (1)
    وحاصل الآية : انّ الذين تركوا الاِيمان والعمل يعترفون يوم القيامة بأنّ ما جاءت به الرسل كان حقاً ، ولكن يتمنون أن يكون لهم شفعاء يشفعون لهم في إزالة العقاب ، أو يردون إلى الدنيا فيعملون غير الذي كانوا يعملون من الشرك والمعصية ، ولكنهم قد أهلكوا أنفسهم بالعذاب وضل عنهم ما كانوا يصفون به الاَصنام من أنّها آلهة وأنّها تشفع لهم ، وعلى ذلك فالآية واردة في حق الكفار وهم الذين لا يجدون شفعاء حتى يشفعوا لهم.
    2. ( إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمينَ * وَما أَضَلَّنا إِلاّ الْمُجْرِمُونَ * فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ). (2)
    وحاصل الآية : انّ أهل النار يوم القيامة يقولون ـ بحسرة ـ ويخاطبون جنود إبليس أو أصنامهم الذين كانوا سبباً في ضلالهم : ( إذ نسوّيكم ) باللّه وعدلناكم به في توجيه العبادة إليكم ، ثم يعترفون بأنّه ما أضلّهم إلاّ المجرمون ، ويظهرون
    1 ـ الاَعراف : 53.
    2 ـ الشعراء : 98 ـ 101.


(203)
الحسرة بقولهم : ( فما لنا من شافعين ) يشفعون لنا ويسألون في أمرنا ( ولا صديق حميم ) وذي قرابة يهمه أمرنا.
    3. ( وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتّى أَتانَا الْيَقينُ * فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشّافِعينَ ) . (1)
    وهذه الآيات ناظرة إلى نفي وجود الشفيع يوم القيامة للكفار الذين انقطعت علاقتهم عن اللّه لاَجل الكفر به وبرسله وكتبه كما انقطعت علاقتهم الروحية عن الشفعاء الصالحين لاَجل انهماكهم في الفسق والاَعمال السيئة ، فانّه ما لم يكن بين الشفيع والمشفوع له ارتباط روحي لا يقدر أو لا يقوم الشفيع على انقاذه وتطهيره وتزكيته.
    أضف إلى ذلك أنّ الشفاعة منوطة بإذنه سبحانه فكيف يصح للّه سبحانه أن يأذن للشفيع بأن يشفع في حق من لا ارتباط بينه وبين اللّه أبداً؟
    ويمكن أن يكون المراد من شفاعة الشافعين في سورة المدثر هو شفاعة الاَصنام والاَوثان حيث كانوا يعتقدون بشفاعتها يوم القيامة.
    كما يحتمل أن يكون المراد هو شفاعة الملائكة والنبيين.
    وعلى كل تقدير : فهذا الصنف من الآيات ناف للشفاعة في مورد خاص وهو حالة الكفر ، وانفصام الاَواصر بين اللّه والعبد.

الصنف الرابع : ينفي صلاحية الاَصنام للشفاعة
    وهذا الصنف يرمي إلى نفي صلاحية الاَصنام للشفاعة ، وذلك لاَنّ عرب الجاهلية كانت تعبد الاَصنام لاَجل الاعتقاد بشفاعتها عند اللّه ، وإليك الآيات الواردة في هذا المجال :
    1 ـ المدثر : 46 ـ 48.

(204)
    1. ( وَما نَرَى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ). (1)
    2. ( وَيَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هوَلاءِ شُفَعاوَُنا عِنْدَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الاََرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ ). (2)
    3. ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمُ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرينَ ). (3)
    4. ( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَ لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ ) . (4)
    5. ( ءَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْني عَنّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونَ ). (5)
    وهذه الآيات تنفي صلاحية المعبودات الباطلة للشفاعة ، وتبرهن على ذلك بقوله سبحانه : ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ) (6) وبقوله : ( لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ ). (7)
    وعلى ذلك فبما أنّ عبدة الاَصنام والاَوثان كانوا يعتقدون بشفاعتهم ، ولاَجل ذلك كانوا يعبدونها ، جاءت الآيات تفنّد مزعمتهم بأنّهم مسلوبو القدرة والاِرادة مسلوبو الخير والضر ، فلا يقدرون على دفع الضر وجلب النفع ولا يصلحون
    1 ـ الاَنعام : 94.
    2 ـ يونس : 18.
    3 ـ الروم : 13.
    4 ـ الزمر : 43.
    5 ـ يس : 23.
    6 ـ يونس : 18.
    7 ـ الزمر : 43.


(205)
للشفاعة.
    وهناك بيان للعلاّمة الطباطبائي حول هذا القسم من الآيات نأتي به :
    كانت الملل القديمة من الوثنيين وغيرهم تعتقد أنّ الحياة الآخرة نوع حياة دنيوية يطّرد فيها قانون الاَسباب ، ويحكم فيها ناموس التأثير والتأثر المادي الطبيعي ، فيقدّمون إلى آلهتهم أنواع القرابين والهدايا للصفح عن جرائمهم أو الامداد في حوائجهم ، أو يستشفعون بها ، أو يفدون بشيء عن جريمة ، أو يستنصرون بنفس أو سلاح ، حتى انّهم كانوا يدفنون مع الاَموات أنواع الزخرف والزينة ليكون معهم ما يتمتعون به في آخرتهم ، ومن أنواع السلاح ما يدافعون به عن أنفسهم ، وربما ألحدوا معه من الجواري من يستأنس بها ، ومن الاَبطال من يستنصر به الميت ، وتوجد اليوم في المتاحف بين الآثار الاَرضية عتائق كثيرة من هذا القبيل ، وقد أبطل القرآن جميع هذه الآراء الواهية والاَقاويل الكاذبة ، فقال عزّمن قائل : ( وَالاََمْرُ يَوْمَئِذٍ للّهِ ) (1) وقال : ( وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاََسْبابُ ). (2)
    وقال : ( وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادَى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ). (3)
    وقال : ( هُنالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ). (4) إلى غير ذلك من الآيات التي يبين فيها أنّ ذلك
    1 ـ الانفطار : 19.
    2 ـ البقرة : 166.
    3 ـ الاَنعام : 94.
    4 ـ يونس : 30.


(206)
الموطن خال من الاَسباب الدنيوية ، وبمعزل عن الارتباطات الطبيعية ، وهذا أصل يتفرع عليه بطلان كل واحد من تلك الاَقاويل على طريق الاِجمال ، ثم فصّل القول في نفي واحد واحد منها وإبطاله فقال : ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفَاعَةٌ وَلا يُوَْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) . (1)
    وقال : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ ). (2)
    وقال : ( يَوْمَ لا يُغْني مَولىً عَنْ مَولىً شَيْئاً ). (3)
    وقال : ( يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عاصِمٍ ). (4) وقال : ( ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَومَ مُسْتَسْلِمُونَ ) . (5)
    وقال : ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هوَلاءِ شُفَعاوَُنا عِنْدَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِئُونَ اللّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الاََرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ ). (6) وقال : ( ما لِلظّالِمينَ مِنْ حَميمٍ وَلا شَفيعٍ يُطَاع ). (7)
    وقال : ( فَما لَنا مِنْ شافِعينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ). (8) إلى غير ذلك من الآيات الكريمة النافية لوقوع الشفاعة وتأثير الوسائط والاَسباب يوم القيامة. (9)
    1 ـ البقرة : 48.
    2 ـ البقرة : 255.
    3 ـ الدخان : 41.
    4 ـ غافر : 35.
    5 ـ الصافات : 26.
    6 ـ يونس : 19.
    7 ـ غافر : 18.
    8 ـ الشعراء : 100 ـ 101.
    9 ـ الميزان : 1/156 ـ 157.


(207)
    ثم قال : إنّ الآيات النافية للشفاعة إن كانت ناظرة إلى يوم القيامة فإنّما تنفيها عن غيره تعالى بمعنى الاستقلال في الملك والآيات المثبتة تثبتها للّه سبحانه بنحو الاَصالة ولغيره تعالى بإذنه وتمليكه. (1)
    والحاصل : أنّ القرآن مع أنّه فند العقائد الجاهلية وعقائد الوثنيين في باب الشفاعة ، وأبطل كون النظام السائد في الآخرة عين النظام السائد في الدنيا ، لم ينكر الشفاعة من رأسها بل أثبتها لاَوليائه في إطار خاص من الشرائط والضوابط ، وعلى ذلك فالآيات النافية ناظرة إلى تلك العقيدة السخيفة التي التزم بها الوثنيون وزعموا بموجبها وحدة النظامين وان تقديم القرابين والصدقات إلى الاَصنام والخشوع والبكاء لديهم ، يصحّح قيامهم بالشفاعة وأنّهم قادرون على ذلك بتفويض منه سبحانه إليهم ، بحيث صاروا مستقلين في الفعل والترك.
    والآيات المثبتة ناظرة إلى الشفاعة الصحيحة التي ليست لها حقيقة سوى جريان فيضه سبحانه ومغفرته من طريق أوليائه إلى عباده بإذنه ومشيئته تحت شرائط خاصة. وسيوافيك توضيح حقيقتها في الاَبحاث القادمة.

الصنف الخامس : ما يعدّ الشفاعة حقّاً مختصاً به سبحانه
    هناك آيات ترى أنّ الشفاعة مختصة باللّه سبحانه لا يشاركه فيها غيره ، وهي عبارة عن الآيات التالية :
    1. ( وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ). (2)
    2. ( وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ
    1 ـ المصدر نفسه : 159.
    2 ـ الاَنعام : 51.


(208)
تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفيعٌ ). (1)
    3. ( اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالاََرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى العَرْشِ ما لَكُمْْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلا شَفيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ). (2)
    4. ( قُلْ للّهِالشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمواتِ وَالاََرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ). (3)
    وكون الشفاعة مختصة باللّه سبحانه لا ينافي ثبوتها لغيره بإذنه سبحانه ، كما سيوافيك بيانه عند البحث عن القسم السادس من أصناف آيات الشفاعة.
    غير أنّا نعطف نظر القارىَ إلى نكتة في قوله سبحانه : ( قُلْ للّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً ) . (4)
    وهذه الآية وإن كانت تدل على اختصاصها باللّه سبحانه ، غير أنّ الحصر هنا حصر إضافي لا حقيقي ، فهي تهدف إلى نفي ثبوت هذا الحق في حق الآلهة المزعومة كما تشير إليه الآية المتقدمة على تلك الآية حيث قال : ( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَ لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ ). (5)
    فأنت إذا لاحظت الآيتين جملة واحدة تقف على أنّ الهدف هو حصر حق الشفاعة باللّه سبحانه في مقابل الآلهة المزعومة التي كانت العرب تزعم أنّها تملك حق الشفاعة ، ولاَجل ذلك ترد الآية عليهم بقوله سبحانه : ( أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون ).
    1 ـ الاَنعام : 70.
    2 ـ السجدة : 4.
    3 ـ الزمر : 44.
    4 ـ الزمر : 44.
    5 ـ الزمر : 43.


(209)
الصنف السادس : يثبت الشفاعة لغيره سبحانه تحت شرائط خاصة
    إنّ هذا الصنف من الآيات يصرح بوجود شفيع غير اللّه سبحانه ، وأنّ شفاعته تقبل عند اللّه تعالى في إطار خاص وشرائط معينة في الشفيع والمشفوع له ، وهذه الآيات وان لم تتضمن أسماء الشفعاء ، أو أصناف المشفوع له غير أنّها تحدد كلا منهما بحدود واردة في الآيات ، وإليك هذا القسم من الآيات :
    1. ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ ). (1)
    2. ( ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّمِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ). (2)
    3. ( لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ). (3)
    والضمير المتصل في قوله : ( ولا يملكون ) يرجع إلى الآلهة التي كانت تعبد ، وأُشير إليه في قوله سبحانه : ( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ ءالِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ) . (4)
    4. ( يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاّمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَولاً ). (5)
    5. ( وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاّلِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا ماذَا قَالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبيرُ ). (6)
    6. ( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاّمَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يعْلَمُونَ ) . (7)
    1 ـ البقرة : 255.
    2 ـ يونس : 3.
    3 ـ مريم : 87.
    4 ـ مريم : 81 ـ 82.
    5 ـ طه : 109.
    6 ـ سبأ : 23.
    7 ـ الزخرف : 86.


(210)
    والضمير المتصل في ( يدعون ) يرجع إلى الآلهة الكاذبة كالاَصنام والملائكة ، والمسيح بن مريم ، فهوَلاء لا يملكون الشفاعة إلاّ من شهد بالحق وهم يعلمون ، أي شهد بعبودية ربه ووحدانيته كالملائكة والمسيح ويستفاد من هذه الآيات أُمور تالية :
    1. انّ هذه الآيات تصرّح بوجود شفعاء يوم القيامة يشفعون تحت شرائط خاصة وإن لم تصرح بأسمائهم وسائر خصوصياتهم.
    2. انّ شفاعتهم مشروطة بإذنه سبحانه حيث يقول سبحانه : ( إلاّ بإذنه ).
    3. يشترط في الشفيع أن يكون ممن يشهد بالحق ، أي يشهد باللّه سبحانه ووحدانيته وسائر صفاته.
    4. أن لا يظهر الشفيع كلاماً يبعث غضب اللّه سبحانه بل يقول قولاً مرضياً عنده ، ويدل عليه قوله سبحانه : ( ورضي له قولا ). (1)
    5. أن يعهد اللّه سبحانه له بالشفاعة كما يشير إليه قوله سبحانه : ( إلاّ من اتخذ عند الرّحمن عهداً ).
    ثم إنّ هنا سوَالاً يطرح في المقام ونظائره ، وهو : كيف يصح الجمع بين هذا الصنف من الآيات التي تثبت الشفاعة لغيره سبحانه والصنف الخامس الذي يخصها باللّه سبحانه؟ وهذا السوَال مطروح في مقامات كثيرة قد أجبنا عنها في كتاب « معالم التوحيد » ، وإليك خلاصة الجواب :
    إنّ مقتضى التوحيد في الاَفعال وأنّه لا موَثر في عالم الكون إلاّ اللّه سبحانه ، أنّه لا يوجد في الكون موَثر مستقل سواه ، وانّ تأثير سائر العلل إنّما هو على وجه التبعية لاِرادته سبحانه ومشيئته ، والاعتراف بمثل العلل التابعة لا ينافي انحصار التأثير الاستقلالي في اللّه سبحانه ، ومن ليس له إلمام بالمعارف القرآنية يواجه حيرة كبيرة تجاه طائفتين من الآيات ، إذ كيف يمكن أن تنحصر شوَون وأفعال ، كالشفاعة والمالكية والرازقية وتوفّي الاَرواح ، والعلم بالغيب ، والاِشفاء ، باللّه سبحانه كما عليه أكثر الآيات القرآنية ، بينما تنسب هذه الاَفعال في آيات أُخرى إلى غير اللّه من عباده ، فكيف ينسجم هذا الانحصار مع هذه النسبة؟ غير أنّ الملمّين بمعارف الكتاب العزيز يدركون أنّ هذه الاَُمور على وجه الاستقلال والاَصالة قائمة باللّه سبحانه مختصة به ، في حين أنّ هذه الاَُمور
    1 ـ قال الطبرسي : أي لا تنفع ذلك اليوم شفاعة أحد في غيره إلاّ شفاعة من إذن اللّه له في أن يشفع ورضي قوله فيها من الاَنبياء والاَولياء والصالحين والصدّيقين والشهداء. ( مجمع البيان : 4/31 ).
مفاهيم القرآن ـ جلد الرابع ::: فهرس