مفاهيم القرآن ـ جلد الراربع ::: 261 ـ 270
(261)
أنّ الاِنسان التائب محكوم بحكم آخر ، والاختلاف في الحكم لاَجل الاختلاف في الموضوع ، والتبدّل في ناحية المعلوم دون العلم وإلاّ فالحاكم العادل قد علم وحكم من الاَزل بحكمين مختلفين على موضوعين متفاوتين ، قال عز من قائل : ( فَإِذَا انْسَلَخَ الاََشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلوا الْمُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1) فقد حكم على الاِنسان المشرك بالقتل وعلى الاِنسان الذي تاب من شركه بالتخلية لسبيله وإطلاق سراحه وعدم التعرض له ، ولا يعد الثاني ناقضاً للحكم الاَوّل.
    والمثال لا ينحصر بما ذكرناه بل هناك مئات الاَمثلة وآلاف الشواهد من هذا القبيل ، ولا يعد أي عاقل ، الحكم الثاني ، ناقضاً للحكم الاَوّل.
    ولنأت بمثال ثالث تتميماً للوضوح : لا شك انّ للّه سبحانه أوامر جدية ، وأُخرى امتحانية ولكل غايته وهدفه الخاص ، والهدف في الاَوامر الجدية هو إحراز المكلف ما يترتب على الموضوع من المصالح كإقامة الصلاة لاَجل كونها ناهيةً عن الفحشاء والمنكر ، لقوله : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (2) وأمّا الاَوامر الامتحانية فليس الهدف منها إلاّ جعل العبد في بوتقة الامتحان حتى يتفتح كل ما يملك من الكمال بصورة القوة والاستعداد ويدخل إلى مرحلة الفعلية ، التي هي الكمال لما هو أمر بالقوة ، وهذا كجعل تراب الحديد حديداً خالصاً من خلال التذويب في المصانع الخاصة فتكون المصائب والمتاعب التي يمر بها العبد في طريق امتثاله للاَوامر الامتحانية بمثابة الحرارة المتوجهة إلى التراب المعدني في إبراز كمالاته ، وإخراج جوهره.
    1 ـ التوبة : 5.
    2 ـ العنكبوت : 45.


(262)
    فإبراهيم الخليل كان يملك كمالاً بالقوة وهو ترك ما سوى اللّه في طريق أمره سبحانه ، ولكن هذا الكمال كان مكنوناً في ذاته ، مركوزاً في وجوده فأراد اللّه سبحانه إظهار ذلك الكمال وإبرازه من مكمن وجوده إلى ساحة الفعلية والتحقّق ، فأمره سبحانه بذبح الولد وهو قد أخذ بيد ولده وصار به إلى المذبح ، فأراد ذبحه امتثالاً لاَمره سبحانه ، فأظهر بذلك أنّه يوَثر طاعته سبحانه على كل ما يملك من العواطف القلبية لولده العزيز ، فعند ذاك تفتح ذاك الكمال وصار إلى مرحلة الظهور ، وتحققت الغاية من أمره تعالى ، وجاء أمره سبحانه مخاطباً إيّاه ( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّوَيَا إِنّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ * إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبينُ * وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ). (1)
    فهناك حكمان على موضوعين مختلفين فالخليل المالك للكمال بالقوة مخاطب بذبح الولد ، والخليل الواصل إلى هذه الذروة من الكمال ، مخاطب بحكم آخر ، وهو التفدية عنه بذبح عظيم ، ولا يعد كل ناقضاً للآخر بل الاختلاف في الحكم أثر الاختلاف في الموضوع.
    وعلى هذا الاَساس تبيّن انّ اختلاف الحكم بالشفاعة في مورد العاصي من قبيل اختلاف الحكم حسب اختلاف الموضوع.
    وتوضيح ذلك : انّ العاصي بما هو عاص وبما انّه مجرّد عن انضمام الشفاعة إليه ، محكوم بالعقاب ، ولكنّه بانضمام الشفاعة إليه ، محكوم بحكم آخر ، واختلاف الحكمين أثر اختلاف الموضوعين بالاِطلاق والتقييد.
    وإن شئت قلت : إنّ العاصي مجرداً عما يمر عليه في البرزخ من العذاب وما يستتبع ذلك العذاب من الصفاء في روحه ، ومجرداً عن دعاء الشفيع في حقه ،
    1 ـ الصافات : 105 ـ 107.

(263)
محكوم بالحكم الاَوّل ، ولكنه منضماً إلى هذه الضمائم الثلاث محكوم بالمغفرة ، فإذا أردت أن تمثل لتبيين حقيقة الشفاعة فعليك انّ تقول : إنّ نسبة الحكم الثاني إلى الحكم الاَوّل ليس كنسبة الحكم الصادر عن محكمة الاستئناف بالنسبة إلى حكم المحكمة الابتدائية الذي يعد الثاني ناقضاً للحكم الاَوّل ، بل هو من قبيل الحكم الصادر في حق المجرم إذا جلب رضا المشتكي بالنسبة إلى الحكم الصادر في حقه قبل جلب رضاه ، فالاختلاف والتفاوت في الحكم لاَجل الاختلاف في الموضوع.
    وعلى ذلك فلابد أن يقال انّ الشفاعة لا توجب اختلافاً في علمه وتغييراً في إرادته ، كما لا توجب أن يكون أحد الحكمين مطابقاً للعدل والآخر مطابقاً للجور ، بل الحكمان صادران عن مصدر العدل على وفقه.

الاِشكال الرابع
    ما أشار إليه الشيخ محمد عبده أيضاً حسب ما نقله عنه تلميذه السيد محمد رشيد رضا : ليس في القرآن نص قطعي على وقوع الشفاعة ، ولكن ورد الحديث بإثباتها. (1)
    هذا ويمكن تقرير الاِشكال بوجه آخر فنقول : لقد نفيت الشفاعة في بعض الآيات على وجه الاِطلاق قال سبحانه : ( أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَومٌ لا بَيْعٌ فيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ ) (2) كما نفى في بعض الآيات نفع شفاعة الشافعين كقوله ( فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشّافِعىَ ) (3) ، وقد علّقت في بعض الآيات على إذنه سبحانه وارتضائه قال سبحانه : ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ
    1 ـ تفسير المنار : 7/270.
    2 ـ البقرة : 254.
    3 ـ المدثر : 48.


(264)
بِإِذْنِِهِ ) (1) وقال سبحانه : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضى ) (2) غير انّ الاستثناء لا يدل على وقوع المستثنى إذ له نظائر في القرآن الكريم. قال سبحانه : ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلاّما شاءَ اللّهُ ) (3) إذ من المحقق انّ النبي لا ينسى القرآن ، ولم ينسه. ومثله قوله سبحانه : ( وَأَمَّا الذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدينَ فِيها ما دامَتِ السَّمواتُ وَالاََرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (4).
    ومن المعلوم انّ الاستثناء الوارد في الآية الاَخيرة غير محقّق أبداً فانّهم مخلدون فيها. نعم يدل الاستثناء على الاِمكان ، أي إمكان اخراجهم من الجنة ، معلناً بأنّ دخولهم الجنة لا يلازم نفي القدرة الاِلهية على إمكان إخراجهم منها ، وانّه ليس الاَمر خارجاً عن قدرته ، فله أن يخرجهم منها كما له أن يبقيهم فيها ، فلا مانع من أن تكون الآيات الواردة في الشفاعة ، خصوصاً ما اشتمل منها على الاستثناء من هذا القبيل ، معلناً بإمكان الشفاعة لا وقوعها.
    الجواب
    قد أشبعنا البحث حول الآيات الواردة في الشفاعة فيما مضى ، وبيّنا أصنافها ، وقلنا إنّ الآيات النافية للشفاعة من الاَساس ، راجعة إلى أيّ قسم منها ، فلاَجل ذلك لا نعيد الكلام فيها. وإنّما المهم توضيح ما ورد من الاستثناء في الآيات المتقدمة فنقول :
    إنّ البحث عن إمكان الشفاعة وامتناعها يشبه الاَبحاث الفلسفية الدارجة فيها ولا يناسب حمل الآيات عليها ، والتقول بأنّ الآيات ناظرة إلى إمكانها لا
    1 ـ البقرة : 255.
    2 ـ الاَنبياء : 28.
    3 ـ الاَعلى : 6 ـ 7.
    4 ـ هود : 108.


(265)
وقوعها أشبه شيء بالاَبحاث الجدلية.
    إنّ البحث عن الاِمكان والامتناع يناسب المسائل الفلسفية البحتة ، والكلامية الخالصة كما في البحث عن إمكان تعدّد الواجب وامتناعه وما شابه تلك المسألة ، فنرى أنّه سبحانه يبحث عن الاِمكان والوقوع في قوله : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسَدَتا ) (1) وقال سبحانه : ( وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ ). (2)
    وأمّا المسائل التربوية أو الاجتماعية التي تدور مدار التربية والتوعية الاجتماعية والفردية ، فالبحث عن الاِمكان والوقوع فيها ساقط وغير مناسب للاَهداف القرآنية ولا يتوجه النظر إلاّ إلى قسم واحد ، وهو وقوع ما وعد به سبحانه في كتابه من الاستثناء كما في نظائره : ( وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّبِإِذْنِ اللّهِ كِتاباً مُوََجَّلاً ) (3) وقال سبحانه : ( وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُوَْمِنَ إِلاّبِإِذْنِ اللّهِ ) (4) وما شابه هاتين الآيتين.
    وعلى ذلك فلا يتبادر من تلك الآيات إلاّ وقوع الاِذن والارتضاء من اللّه سبحانه والحمل على الاِمكان فيما ورد في قوله : ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلاّ ما شاءَ اللّه ) لاَجل قرينة خاصة وهي الدلائل المتضافرة على عصمة النبي ، وهذه القرينة تصدّنا عن حمل الآية على وقوع الاستثناء وتحقّقه.
    ومثل تلك القرينة موجودة في الآية الاَُخرى الدالة على خلود الموَمنين في الجنة ، أعني قوله : ( ما دامت السموات والاَرض إلاّ ما شاء ربك ) فإنّ الحمل على
    1 ـ الاَنبياء : 22.
    2 ـ الموَمنون : 91.
    3 ـ آل عمران : 145.
    4 ـ يونس : 100.


(266)
الاِمكان أي إمكان عدم الخلود ، لاَجل قرينة قطعية دلت على تحقّق الخلود ، لاَهل النعيم في الآخرة ، وهذا العلم يصدّنا عن حمل الاستثناء على وقوعه.
    هذا كلّه مع غض النظر عمّا في نفس الآيات من القرائن الدالة على وقوع الاستثناء ، وإليك تلك القرائن :
    الاَُولى : قال سبحانه : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضى ) (1) فإنّ التعبير عن رضاه بالفعل الماضي يدل على تحقّق ذلك الرضا ، في حق المشفوع له ، ورضاه سبحانه لا ينفك عن إذنه للشفعاء ، لاَنّ إعلان الرضا بالنسبة إلى المشفوع له بلا صدور إذن منه سبحانه للشفيع يعد أمراً لغواً ، وحمل قوله : ( إِلاّ لِمَنِ ارْتَضى ) على وجود الرضا منه سبحانه دون إبلاغه للشفعاء أشبه شيء بالهزل.
    الثانية : انّه سبحانه يخبر بخبر قطعي عن شفاعة من شهد بالحق ممن كانوا تسبغ عليهم صفة الاِلوهية كالمسيح والملائكة ، قال سبحانه : ( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاّ مَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (2) والاستثناء يدل على تملك من شهد بالحق لاَمر الشفاعة بإذن منه سبحانه وتملّكه هذا يكشف عن تحقّق المراتب المتقدمة عليه من إذنه سبحانه له وارتضائه لمن يستحقها.
    اللّهم إلاّ أن يدّعي المعترض في ذلك الاستثناء ما ادّعاه في الآيات المشتملة على الاِذن والارتضاء في آيات الشفاعة ويحمل مالكية من شهد بالحق للشفاعة على الاِمكان دون الوقوع ، وهو كما ترى.
    ونظير الآية السابقة قوله سبحانه : ( لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) (3) والاستثناء ظاهر في تملّك من اتخذ عند الرحمن عهداً أمر
    1 ـ الاَنبياء : 28.
    2 ـ الزخرف : 86.
    3 ـ مريم : 87.


(267)
الشفاعة ، وتمليكه سبحانه إيّاها لهم لا ينفك عن إذنه وارتضائه.
    وإن شئت قلت : إنّ تمليك الشفاعة من جانب اللّه لفريق خاص دال بالملازمة العرفية على أنّ هذا التمليك لاَجل الاستفادة منه وتنفيذه في مواضع خاصة وحمله على مجرد التمليك من دون أن يقترن بالاِذن أبداً تفسير للآية بغير الوجه المعقول ، إذ أيّة فائدة لهذا التمليك الذي لا يتلوه الاِذن أبداً ، فإنّ هذا أشبه شيء بتمليك الشيء للاِنسان والمنع عن الاستفادة منه بوجه من الوجوه.
    وما ربما يقال من أنّه سبحانه علّق الشفاعة في بعض الآيات على أمر محال ، وهو اتخاذ العهد عند الرحمن ، قال سبحانه : ( لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) (1) مع أنّ بعض الآيات دالة على أنّه لم يتخذ أحد عند اللّه عهداً قال سبحانه : ( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْداً ) (2) ، وقال : ( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) . (3)
    ولكن الاعتراض هذا ساقط جداً ، لاَنّ سياق تلك الآيات كاشف عن أنّ الهدف هو نفي اتخاذ العهد في حق جماعة خاصة.
    أمّا الآية الاَُولى فلاَنّ ـ ها وردت لنفي دعوى اليهود الوارد في قولهم : ( وقَالُوا لَن تَمَسَّنا النّارُ إلاّ أياماً مَعدُودة ) فردّ عليهم سبحانه بقوله : ( قُلْ أتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَه ).
    وأمّا الآية الثانية ، فلاَنّها واردة أيضاً في مورد خاص ، وهو الذي يحكي عنه سبحانه بقوله : ( أفرأيتَ الّذِي كَفَرَ بآياتِنا وَقَالَ لاَُوتَيَنّ مَالاً وَولَداً ) فردّ عليه سبحانه بقوله : ( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) .
    1 ـ مريم : 87.
    2 ـ البقرة : 80.
    3 ـ مريم : 78.


(268)
    ومع هذا السياق البارز في الآيتين هل يصح أن يقال انّه لا عهد بين اللّه سبحانه وبين أحد من عباده مطلقاً مع أنّه يصرّح بوجود مثل هذا العهد إذ يقول : ( وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفينَ ) (1) وقال سبحانه : ( وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (2) إلى غير ذلك من الآيات.

الاِشكال الخامس
    ما ورد في إثبات الشفاعة من الآيات المتشابهات ، وفيه يقضي مذهب السلف بالتفويض والتسليم ، وانّها مزية يختص اللّه بها من يشاء يوم القيامة ، عبر عنها بهذا المعنى « الشفاعة » ولا نحيط بحقيقتها مع تنزيه اللّه جل جلاله عن المعنى المعروف من معنى الشفاعة في لسان التخاطب العرفي. (3)
    الجواب
    إنّ القرآن كتاب سماوي أُنزل لغرض التعليم والتربية ، والهداية والتزكية ، وقد نبّه على ذلك سبحانه في آيات كثيرة لا مجال لاِيرادها هنا ، قال سبحانه : ( وَلَقَدْيَسَّرْنَا الْقُرآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْمِنْ مُدَّكِرٍ ) (4) فلو جعلنا الآيات الواردة حول الشفاعة التي تقارب ثلاثين آية من المتشابهات يلزم أن تعد أكثر الآيات الواردة في الكتاب العزيز من الآيات المتشابهة ولازم ذلك جعل الكتاب العزيز غير مفهوم للناس الذين أُنزل ذلك الكتاب لهدايتهم وتربيتهم.
    1 ـ البقرة : 125.
    2 ـ طه : 115.
    3 ـ تفسير المنار : 1/307 ـ 308.
    4 ـ القمر : 17.


(269)
    وكون الآية محتاجة إلى التفسير لا يكون دليلاً على كونها من الآيات المتشابهة ، فإنّ كثيراً من الآيات لابتعادنا عن عصر نزولها تحتاج إلى التفسير ، وكم من آية وآيات كتبت حولها رسالة أو رسائل ، ومع ذلك لم تعد واحدة منها من الآيات المتشابهة.
    إنّ المراد من الآيات المتشابهة ما أحاط بها الاِبهام حول المراد منها فاشتبه المقصود الواقعي بغيره وهذا الميزان لا ينطبق إلاّ على قليل من الآيات.
    ثم إنّ كون الآية من الآيات المتشابهة لا يستلزم ترك البحث فيها وعدم الاستفادة منها ، بل الآيات المتشابهة تفسر بالآيات المحكمة بحكم أنّها أُمّ الكتاب وأصل للمتشابهات قال سبحانه : ( هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتاب وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ) (1) فإنّ قوله سبحانه في شأن الآيات المحكمة بأنّها أُمّ الكتاب يعرب عن كونها هي الاَصل وإنّ المتشابهة هي الفرع ، ورد المتشابه إلى المحكم كرد الفرع إلى الاَصل.
    وقد عرفت في صدر البحث مجموع الآيات الواردة حول الشفاعة وانّه ليست هناك آية أحاط بها الاِبهام وامتنعت على الفهم ، وعلى فرض وجودها لم توجد آية لا يمكن رفع إبهامها بأُختها ، أو بالاَحاديث الواردة حولها. (2)
    1 ـ آل عمران : 7.
    2 ـ ما ذكره « من أنّ مذهب السلف في المتشابهات يقضي بالتفويض والتسليم » مبني على ما اختاره في تفسير الآيات المتشابهة من أنّها عبارة عن المفاهيم الواردة في القرآن ، التي لا يمكن أن يقف على حقيقتها إلاّ اللّه سبحانه كحقيقة ذاته وصفاته وأفعاله من الجنّة ونعيمها والجحيم ونارها إلى غير ذلك.
    غير انّ تفسير الآيات المتشابهة بهذا المعنى مردود أساساً ، وقد أوضحنا الكلام في حقيقة الآيات المتشابهة في محلها وقلنا : إنّها ليست إلاّ عبارة عن الآيات التي يشتبه فيها المراد بغير المراد والحق بالباطل ويزاح الستر عن وجه الحق ، بالآيات المحكمة ، ولاَجل ذلك يصف القرآن الكريم ، الآيات المحكمة بأنّها « أُم الكتاب » وأُسسه.


(270)
    وأغلب الظن انّ الباعث على وصف هذه الآيات الواضحة الدلالة والمراد بكونها من المتشابه هو تأثر الاَُستاذ صاحب المنار وتلميذه بالموجة الوهابية ، فهو الاَمر الذي دفعهما إلى حمل هذه الآيات محمل المتشابه ، والاِعراض عن الاَخذ بمدلولاتها الظاهرة الصريحة.
    ولعل جعل صاحب المنار آيات الشفاعة من الآيات المتشابهة ورميها بهذا الوصف لاَجل الاِشكال الذي سوف نذكره ، وهو تخيل انّ الشفاعة التي جاء بها القرآن نوع من الوساطة المتعارفة في الحياة المادية بين الناس ، وسنطرح هذا الاِشكال ودفعه من الاَساس.

الاِشكال السادس
    ربّما يتخيل بأنّ الشفاعة نوع من الوساطة المتعارفة بين الناس ، ويجب تنزيه المقام الاِلهي من هذا النوع من الوساطة ، وتوضيحه : انّ الخارج على القانون في الحياة الاجتماعية إذا حكم عليه بضرب من العقوبة المالية أو البدنية يبعث من له مكانة عند الحاكم حتى يقوم بالوساطة عنده ويبعثه على العفو والاِغماض عن معاقبته ، فتصبح النتيجة أن يجري القانون على من يفقد مثل هذه الوساطة ولا يجري على من يجدها ، وهذا من الظلم الفظيع السائد في الاَنظمة البشرية ، ويجب تنزيه الشريعة الاِسلامية المقدسة عن قبول هذا النوع من الوساطة.
    الجواب
    إنّ الاَساس لهذا الاِشكال هو قياس الشفاعة الواردة في الكتاب العزيز على الشفاعة الدارجة في الحياة الاجتماعية للبشر.
    ولو كان معنى الشفاعة هذا فقد رفضه القرآن أشد الرفض ، إذ هذا النوع
مفاهيم القرآن ـ جلد الرابع ::: فهرس