مفاهيم القرآن ـ جلد الراربع ::: 271 ـ 280
(271)
من الشفاعة كان من معتقدات عرب الجاهلية حيث كانوا يعبدون الاَصنام لهذه الغاية ، قال سبحانه واصفاً حالهم : ( وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هوَلاءِ شُفَعاوَُنا عِنْدَ اللّهِ ) (1) فالعربي الجاهلي كان يتخيل انّ مكانة الآلهة الباطلة تكون سبباً لصرف إرادته سبحانه عن معاقبة المجرمين والعصاة ، أو تكون سبباً لجلب عنايته بهم ، فردّ اللّه سبحانه على تلك المزعمة بقوله : ( قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّمواتِ وَلا فِي الاََرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ ). (2)
    وقال في آية أُخرى واصفاً حالهم أيضاً : ( وَالَّذينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللّهِ زُلْفى ) (3) ثم رد عليهم بقوله : ( إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفّارٌ ). (4)
    وعلى ذلك فالشفاعة بهذا المعنى وهو غلبة إرادة الشفيع على إرادة المشفوع عنده ، بصرف إرادته عن عقوبتهم أو جلب إرادته لرفع منزلتهم مرفوضة في منطق القرآن ، فانّه سبحانه هو الحق المطلق لا يوَثر فيه شيء ولا يتأثر عن شيء ولا يجعل القانون لعبة الشفيع حتى يجري في حق بعض دون بعض ، وانّما الشفاعة التي دعا إليها القرآن شيء آخر ، وهو إيصال الفيض الاِلهي ، أعني : المغفرة والعفو الى عباده المستحقين عن طريق أوليائه وأصفيائه ، وذلك لاَنّ مشيئته الحكيمة جرت على إيجاد المسبّبات عن طريق أسبابها ، وإحداث الاَشياء عن طرقها ، فكما أنّ لكل ظاهرة مادية سبباً مادياً توجد بهذا السبب وتصل إلى الناس عن هذا الطريق ، فهكذا الفيوض الاِلهية تصل إلى عباد اللّه عن الطرق الخاصة المعينة ، وهذا كهداية
    1 ـ يونس : 18.
    2 ـ يونس : 18.
    3 ـ الزمر : 3.
    4 ـ الزمر : 3.


(272)
الناس عن طريق الاَنبياء والرسل ، فالهادي هو اللّه سبحانه لكن عن طريق أنبيائه ورسله ، وقضت مشيئته الحكيمة بهذا ، قال سبحانه : ( كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فبَعَثَ اللّهُ النَّبِيينَ مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرينَ وَأَنْزَلَ مَعهُمُ الكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِفِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) (1) ترى أنّه سبحانه يجري فعله أي الحكم بالحق عن طريق بعث النبيين كيف والقرآن المجيد يصدق هذا النظام السائد في الاَُمور المعنوية والمادية قال سبحانه : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسيلَةَ ). (2)
    فإنّ المراد من الوسيلة ما يتوسل به إلى الشيء والآية تدعو إلى الاِتيان بالقربات والقيام بالوظائف التي يتوسل بها الاِنسان إلى مرضاته ورضوانه.
    وإذا كانت هذه الآية تدعو إلى ابتغاء الوسيلة بشكل عام من دون أن تعيّن شخص الوسيلة ، فقد قامت الآيات الاَُخر بتعيين الوسائل التي تتحصّل معها مغفرته ورضوانه ، ويكتسب بها عفوه وغفرانه ، قال سبحانه : ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (3) ترى أنّه سبحانه يأمر نبيه بأن يصلّي عليهم حتى تنزل عليهم السكينة التي هي فعله سبحانه ولطفه ، فالسكينة تصل إليهم عن طريق سببه وهو دعاء النبي ، وقال سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً ) (4) ترى أنّ الآية تدعو المجرمين والعصاة إلى ابتغاء الوسيلة للوصول إلى غفرانه وهو دعاء النبي واستغفاره في حقهم ، وليست هذه سنّة مخصوصة بالاَُمّة الاِسلامية ، بل جرت عليها مشيئته في الاَُمم السابقة حيث نرى أنّ أبناء يعقوب عندما شعروا بالاِثم
    1 ـ البقرة : 213.
    2 ـ المائدة : 35.
    3 ـ التوبة : 103.
    4 ـ النساء : 14.


(273)
راحوا يطلبون من أبيهم استغفاره في حقّهم فلمّا سمع هو دعوتهم ، وعدهم بالانجاز قال سبحانه : ( قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنّا كُنّا خاطِئينَ * قالَسَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُالرَّحيمُ ). (1)
    وهذه الآيات ونظائرها ترشد الباحث على أنّ للاَُمور المعنوية وتحقّقها نظاماً على غرار النظام السائد في الاَُمور المادية. ولاَجل ذلك لا يصح للقارىَ الكريم أن يتعجب من وصول فيضه ومغفرته سبحانه يوم القيامة إلى عباده المستحقين لها عن طريق الشفعاء ، وأوليائه المخلصين.
    أضف إلى ذلك أنّ في استجابة دعوة الاَولياء ( الذين لا يدعون ولا يطلبون شيئاً مخالفاً للعدالة الاِلهية ، ومشيئته الحكيمة ) نوع تكريم وتبجيل لهم ولمقامهم ، ونوع إشادة بهم ، وإظهار لفضلهم.
    نعم هوَلاء الكرام البررة لا يطلبون فيضه وغفرانه إلاّ لمن استحقها ، وهو من لم يقطع صلته الاِيمانية باللّه وعلاقته الروحية مع أوليائه ، وشفعائه. وإذا أردت أن تقف على الفرق الكبير والواضح بين الشفاعتين ( الشفاعة السائدة في الجماعات المادية والشفاعة القرآنية ) فاستمع لما نتلوه عليك من الفروق الموجودة في الشفاعتين :

الفروق الموجودة في الشفاعتين
    أوّلاً : أنّ زمام الشفاعة التي نطق بها القرآن بيد اللّه سبحانه ، فهو الذي يبعث الشفيع ـ لما فيه من الكمال والمعنوية ـ حتى يشفع في حق المجرم الذي له صلاحية المغفرة ، فتصبح النتيجة أنّ رحمته الواسعة ومغفرته العميمة تصل من طريق الشفيع إلى عباده ، فعلى ذلك فالاَُمور كلها بيده ، وناشئة منه ، وراجعة إليه ،
    1 ـ يوسف : 97 ـ 98.

(274)
وهذا على خلاف النظام السائد في الوساطات المادية المتعارفة إذ المجرم فيها هو الذي يبعث الشفيع ليشفع عند الحاكم بحيث لولاه لما تقدم الشفيع بالشفاعة والوساطة عند الحاكم ، فالاَمر هنا يبدأ من المجرم ويصل إلى الشفيع وينتهي إلى الحاكم على عكس النظام السائد في الشفاعة الاَُخروية.
    فلو انّ القرآن يحث المسلمين على الحضور عند النبي ومطالبته بأن يستغفر لهم فليس ذلك إلاّ بأمر منه سبحانه وحث منه على هذا الطلب ، فلولا أمره وحثّه سبحانه لما قمنا بذلك ، ولو أنّا قمنا به لما كان له أثر بلا أمر منه سبحانه. وعلى ذلك فلا يصح لقائل أن يستدل بالآية على أنّ الشفاعة القرآنية على غرار الشفاعة الدنيوية حيث إنّ المجرم يطلب من النبي ، وينتهي الاَمر إلى اللّه سبحانه ، فإنّ القائل ذهل عن أنّ كل هذه الاَُمور تتحقق بأمره وإذنه ، وإرشاده وطلبه بحيث لولاه لما كان هناك بعث ، وعلى فرض البعث لما كانت أيّة فائدة.
    ثانياً : أنّ الشفيع في الشفاعة الصحيحة يتأثر بالمقام الربوبي ويخضع له حيث يأمره المولى الحكيم بالشفاعة والدعاء في حق المجرمين المستحقين له ولكن الاَمر في الشفاعة الدنيوية على العكس إذ الحاكم يتأثر ، هناك بشفاعة الشفيع كما انّه نفسه يتأثر من تقدم الشفيع إليه وتكلّمه معه.
    ثالثاً : أنّ ماهية الشفاعة الدنيوية وواقعيتها ليست إلاّ نوع تفرقة في تطبيق القانون حيث إنّ نفوذ الشفيع ومكانته عند الحاكم ، يوجبان مغلوبية إرادته وغالبية إرادة الشفيع ، فتصبح النتيجة أن يجري القانون في حق الضعيف الذي لا يجد شفيعاً دون القوي الذي يجد شفيعاً ، وهذا بخلاف الشفاعة الصحيحة فإنّها لا تحمل إرادة الشفيع على مشيئة اللّه ولا تخضع سنته الحكيمة لاِرادة أحد وطلبه ، ولا يوجب التفرقة في التطبيق بل غاية الشفاعة هو جريان مغفرته وفيضه عن طريق أوليائه إلى عباده ، فلو حرم البعض من الشفاعة ، فليس ذلك لاَجل نفاد


(275)
رحمته ، بل لاَجل عدم لياقته لها ، فلو أنّ اللّه سبحانه يقول في حق المشرك : ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) (1) فليس ذلك إلاّ لاَنّ قلب المشرك كالوعاء المسدود لا يتسرب إليه شيء حتى لو غمس في سبعة أبحر لما تسرب إليه الماء ، أو هو كالاَرض المالحة التي لا ينبت فيها شيء ولو أنّ القرآن يصر على أنّ الشفاعة لا تتحقق إلاّ بإذنه سبحانه للشفيع وارتضائه للمشفوع له ، فليس ذلك إلاّ لاَجل أنّ المرضي هو اللائق دون غيره ، فلو حرم المشرك من شفاعة الاَنبياء أو حرم بعض العصاة منها فليس ذلك إلاّ لعدم لياقتهم لهذا الفيض.

الاِشكال السابع
    إنّ المراد من الشفاعة هو الشفاعة القيادية وانّ الاَنبياء والاَولياء يوصلون عباد اللّه إلى الفوز والسعادة عن طريق الوحي وتبليغ الرسالة ، فإطلاق الشفاعة على هذا الاَمر لاَجل أنّ انضمامهم إلى الوحي الاِلهي يمهد الطريق إلى السعادة والنجاة. وهذا الاِشكال مما أثاره المفسر المعاصر الشيخ الطنطاوي في تفسيره وقامبتفسير الشفاعة بذلك ، وإليك نص كلامه : « وفي الحديث يشفع يوم القيامةثلاثة : الاَنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ، فهذا يفيد أنّ الشفاعة تابعة للاقتداء ، فالاَنبياء علّموا العلماء ، والعلماء علّموا الناس ، وأفضل الناس بعد الاَنبياء ، العلماء ، فالشهداء ، فمن لم يعمل بما أنزل اللّه وتجافى عن الحق فقد عطل ما وهب له من بذر الشفاعة ولم يسقه ولم يربه ولم ينمه بالعمل ، فيحرم ثمرته مع أنّهساوى جميع المسلمين في حصول البذر عنده وخالفهم في قعوده عن استثماره ». (2)
    1 ـ النساء : 48 و 116.
    2 ـ الجواهر في تفسير القرآن الكريم : 1/65 ، وقد مضى بعض عباراته عند نقل كلمات العلماء.


(276)
الجواب
    نحن في غنى عن الاِجابة على هذا الاِشكال لما رددنا على هذا في الاَبحاث السابقة حيث قد أشبعنا الكلام عند البحث عن التفسيرات الثلاثة للشفاعة ، ونظير هذا الاِشكال ما ربما تفسر الشفاعة بالعمل بالواجبات والتجنب عن المحرمات فتفسر آيات الشفاعة بهذه الشفاعة العملية.
    ونزيد بياناً هنا على ضعف هذا الاِشكال انّه لو كان المراد هو المغفرة في ضوء الطاعة العملية فلماذا وعد اللّه سبحانه في الآية التالية بأنّه لا يغفر الشرك ويغفر ما دون ذلك؟ قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) (1) فلو كان المراد هو المغفرة في ضوء الاِيمان والعمل لما صح استثناء الشرك في الآية الكريمة ، لاَنّ الشرك يغفر في هذا الاِطار أيضاً ، وبذلك يعلم أنّ للّه سبحانه مغفرة ورحمة خارجة عن إطار العمل وانّ رحمته الواسعة كما تصل إليهم من طريق العمل بالاَحكام ، تصل إليهم عن طريق آخر وهو كون العبد قابلاً للمغفرة والرحمة حافظاً لعلاقاته مع اللّه ومع الشفعاء وان كان قاصراً في العمل.

الاِشكال الثامن
    إنّ الاعتقاد بشفاعة الشفعاء يستلزم أن يكون الشفيع أشد رأفة بالعباد من اللّه سبحانه ، لاَنّ المفروض أنّه لولا دعاء الشفيع وشفاعته لا ترفع العقوبة من المجرم والعاصي.
    وإن شئت قرر هذا الاِشكال بوجه آخر : انّ الاعتقاد بوصول مغفرته سبحانه
    1 ـ النساء : 48.

(277)
عن طريق الشفعاء يستلزم محدودية فيضه ورحمته بحيث يكون دعاء الشفيع وسيلة لتوسعتها وانبساطها.
    الجواب
    إنّ الاِشكال بكلا التقريرين ساقط من الاَساس ، فإنّ الاِشكال مبني على تفسير الشفاعة بالواسطة المتعارفة في الحياة البشرية ، وأمّا على ما ذكرنا من معنى الشفاعة في القرآن من أنّه عبارة عن وصول رحمته وغفرانه إلى عباده من طريق أوليائه فلا وجه له لما قررنا من الفوارق الثلاثة بين الشفاعة القرآنية والشفاعة بمعنى الوساطة العرفية ، وقلنا : إنّ واقع الشفاعة القرآنية هو انّه سبحانه يبعث الشفيع على الدعاء والشفاعة وهو الذي يأذن له ويرتضي من يشاء من عباده وليس للشفيع هنا أيّ دخالة ، أفبعد ذلك يصح للقائل أن يقول إنّ معنى الشفاعة هو كون الشفيع أشد رأفة بالعباد من اللّه سبحانه؟!
    وأمّا التقرير الثاني فهو غفلة عمّا جرت عليه مشيئته سبحانه ، فإنّه جرت السنة الاِلهية على إيصال المسببات عن طريق أسبابها ، فقد جعل لكل شيء سبباً من دون أن يقوم هو سبحانه بنفسه مكان الاَسباب والعلل ، ولو صح ما زعمه المستشكل لزم أن يكون الاعتقاد بتأثير الاَسباب الطبيعية في مسبباتها تحديداً لقدرته ورحمته إذ لولا هذه الاَسباب ، لما وصلت فيوضاته المادية إلى الاِنسان.

الاِشكال التاسع
    انّ الاعتقاد بالشفاعة وتأثير دعاء الشفيع وطلبه في رفع العقوبة ، أو في ارتفاع الدرجة ، يتناقض مع الاَصل الذي أسّسه القرآن الكريم حيث جعل مصير كل أحد قيد عمله ورهن سعيه ، قال سبحانه : ( وَأَنْ لَيْسَ لِلاِنْسانِ إِلاّما


(278)
سَعى
) (1) ، وقال سبحانه : ( هَلْتُجْزَونَ إِلاّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ) (2) وقال تعالى : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداًبَعِيداً ) (3) ، فهذه الآيات تجعل الجزاء قيد العمل والسعي وانّه هو نتيجة ذلك ، فكيف يجتمع هذا مع الشفاعة التي ليست لها واقعية كواقعية السعي والعمل بل هو موجب لفوز الاِنسان ونجاته بسبب دعاء الغير ووجاهته ومكانته من دون سعي صادر من المشفوع له.
    الجواب
    إنّ الجواب على هذا الاِشكال يكون بوجهين :
    الاَوّل : بالنقض ، فإنّ القرآن يصرّح بأنّ دعاء الغير سبب لمغفرة الذنوب ، قال سبحانه في حق حملة العرش : ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْوَيُوَْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَالْجحيمِ ) (4) وقال سبحانه : ( رَبَّنا اغْفِرْ لَنا وَلاِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالاِِيمانِ ) (5) فلو كان ما ذكره المستشكل صحيحاً فكيف يكون دعاء حملة العرش موجباً للمغفرة؟! ومثله الآية الثانية فبملاحظة هاتين الآيتين وما ورد من الحث والتأكيد على دعاء الموَمن في الفرائض والنوافل ، وفي الجلوات والخلوات ، يتضح أنّ لآيات السعي مفاداً غير ما استنبطه المستدل منها ، وسوف يوافيك هذا المعنى في الجواب التالي.
    1 ـ النجم : 39.
    2 ـ يونس : 52.
    3 ـ آل عمران : 30.
    4 ـ غافر : 7.
    5 ـ الحشر : 10.


(279)
    الثاني : بالحل ، فإنّ الشفاعة في الحقيقة فرع للسعي الذي قام به المشفوع له وتعد من آثاره وتوابعه إذ لولا عمله وسعيه وجده واجتهاده في الاِيمان باللّه سبحانه وإقامة الفرائض والاجتناب عن المحرمات في الجملة ، لما نالته شفاعة الاَولياء ، فالسعي الذي قام به طيلة حياته على وجه حفظ به علاقاته مع اللّه سبحانه ومع أوليائه ، هو المصحح للشفاعة والموجب لمغفرته بدعاء الشفيع.
    ولاَجل ذلك حثّت الاَحاديث على تحديد شفاعة الاَولياء وانّه لا تنال عدة من العصاة ، كتارك الصلاة وعاق الوالدين وغير ذلك.

الاِشكال العاشر
    إنّ طلب الشفاعة من الاَولياء والاَنبياء شرك باللّه سبحانه ، أو أمر محرم.
    الجواب
    قد أشبعنا الكلام في معنى الشفاعة وحدودها وشرائطها وبقي هنا بحث ، وهو انّه هل يجوز طلب الشفاعة من الشفعاء الحقيقيين أو لا ؟ ذهب ابن تيمية وخريج مدرسته محمد بن عبد الوهاب إلى أنّه لا يجوز طلبها من غيره سبحانه ، لاَنّ طلبها من غيره عبادة له ، أو لا أقل من أنّه أمر محرم ، واختار جمهرة المسلمين جوازه من غير فرق بين أن يكون الشفيع حياً أو ميتاً.
    وهذا الاِشكال وان لم يكن مربوطاً بأصل الشفاعة لكنه يمت إليها بنحو من الارتباط ، فأردنا أن نبحث عنه في عداد الاِشكالات فنقول : اتفق المسلمون على أصل الشفاعة وانّ هناك عباداً مخلصين وأصفياء كراماً يشفعون يوم القيامة بل يشفعون في هذه الدنيا والبرزخ ويوم القيامة وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين ، إلاّ من شذ وندر ممن فسر الشفاعة بغير معناها الصحيح ، إلاّ انّ الكلام في أنّه هل
    يجوز طلب الشفاعة من المأذون له من الاَنبياء والاَولياء بعد الاتفاق على تحريم ذلك الطلب من غير المأذون ، أو لا يجوز؟
    قال ابن تيمية ومن لف لفه من أنّه لا يجوز للموَمن إلاّ أن يقول : اللّهم شفّع نبينا محمداً فينا يوم القيامة ، أو اللّهم شفّع فينا عبادك الصالحين أو ملائكتك أو نحو ذلك مما يطلب من اللّه لا منهم ، فلا يقال : يا رسول اللّه أو يا ولي اللّه أسألك الشفاعة أو غيرها مما لا يقدر عليه إلاّ اللّه ، فإذا طلبت ذلك في أيام البرزخ كان من أقسام الشرك. (1)
    ولاَجل هذا يجب الغور في هذه المسألة حتى يتضح الحق لمبتغيه بأجلى مظاهره.

(280)
ما يدل على جواز طلب الشفاعة
    يمكن الاستدلال على جواز هذا الطلب بوجوه كثيرة نشير إلى بعضها :
    الاَوّل : انّ حقيقة الشفاعة ليست إلاّ دعاء النبي والولي في حق المذنب ، وإذا كانت هذه حقيقته في جميع المواقف أو في بعضها فلا مانع من طلبها من الصالحين ، لاَنّ غاية هذا الطلب هو طلب الدعاء ، فلو قال القائل : « يا وجيهاً عند اللّه اشفع لنا عند اللّه » يكون معناه : ادع لنا عند ربك ، فهل يرتاب في جواز ذلك مسلم؟
    ولست أراك تشك في أنّ طلب الدعاء هو نفس الاستشفاع ، وانّ حقيقة الشفاعة هي الدعاء ، ولاَجل ذلك نرى انّ العلاّمة نظام الدين النيسابوري ، صاحب التفسير الكبير ينقل في تفسير قوله سبحانه : ( مَنْ يَشْفَعُ شَفاعَةً حَسَنَةً
    1 ـ الهدية السنية : 42.
مفاهيم القرآن ـ جلد الرابع ::: فهرس