مفاهيم القرآن ـ جلد الراربع ::: 281 ـ 290
(281)
يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها ) (1) عن مقاتل قوله : الشفاعة إلى اللّه انّما هي دعوة المسلم. (2)
    وقال الاِمام الرازي في تفسير قوله سبحانه : ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرشَ وَمَنْ حَولَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُوَْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذينَ آمَنُوا ربَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَالْجَحيمِ ) (3) انّ هذه الآية تدل على حصول الشفاعة للمذنبين ، والاستغفار طلب المغفرة ، والمغفرة لا تذكر إلاّ في إسقاط العقاب ، أمّا طلب النفع الزائد فانّه لا يسمّى استغفاراً ، وقال : قوله تعالى : ( ويستغفرون للذين آمنوا ) يدل على أنّهم يستغفرون لكل أهل الاِيمان ، فإذا دللنا على أنّ صاحب الكبيرة موَمن وجب دخوله تحت هذه الشفاعة. (4)
    وهذه الجمل تفيد أنّ الاِمام الرازي جعل قول الملائكة في حق الموَمنين والتائبين من أقسام الشفاعة ، وفسر قوله : ( فاغفر للذين تابوا ) بالشفاعة وهذا دليل واضح على أنّ الدعاء في حق الموَمن ، شفاعة في حقه ، وطلبه منه طلب الشفاعة منه ، ويوضح ذلك ويوَيده ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي : « ما من ميت يصلّي عليه أُمّة من المسلمين يبلغون مائة كلّهم يشفعون له إلاّ شفّعوا فيه ». (5)
    وفسّر الشارح قوله ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) : « يشفعون له » بقوله : أي يدعون له ، كما فسر قوله ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) : « إلاّ شفّعوا فيه » بقوله : أي قبلت شفاعتهم.
    1 ـ النساء : 85.
    2 ـ تفسير النيسابوري : 1 والمطبوع في إيران غير مرقم.
    3 ـ غافر : 7.
    4 ـ مفاتيح الغيب : 7/285 ـ 286 ، طبعة مصر في ثمانية أجزاء.
    5 ـ صحيح مسلم : 3/53 ، طبعة مصر ، مكتبة محمد علي صبيح وأولاده.


(282)
    وروي أيضاً عن عبد اللّه بن عباس أنّه قال : سمعت رسول اللّه صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يقول : « ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون باللّه شيئاً إلاّ شفّعهم اللّه فيه » (1) أي قبلت شفاعتهم في حق ذلك الميت فيغفر له.
    وعلى ذلك فلا وجه لمنع الاستشفاع من الصالحين إذا كان مآله إلى طلب الدعاء ، ولو كان للشفاعة معنى آخر من التصرف التكويني في قلوب المذنبين ، وتصفيتهم في البرزخ ، ومواقف القيامة فهو أمر عقلي لا يتوجه إليه إلاّ الاَوحدي من الناس ، فكل من يطلب من النبي الشفاعة لا يقصد منه إلاّ المعنى الرائج.
    الثاني : انّ الاَحاديث الاِسلامية وسيرة المسلمين تكشفان عن جواز هذا الطلب ، ووجوده في زمن النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) ، فقد روى الترمذي في صحيحه عن أنس قوله : سألت النبي أن يشفع لي يوم القيامة ، فقال : « أنا فاعل » ، قال : قلت : يا رسول اللّه فأين أطلبك؟ فقال : « اطلبني أوّل ما تطلبني على الصراط ». (2)
    فإنّ السائل يطلب بصفاء ذهنه ، وسلامة فطرته من النبي الاَعظم ، الشفاعة من دون أن يخطر بباله أنّ في هذا الطلب نوع عبادة للنبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كما زعمه الوهابيون.
    وهذا سواد بن قارب ، أحد أصحاب النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) يقول مخاطباً إياه :
    فكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعةبمغن فتيلا عن سواد بن قارب (3) وروى أصحاب السير والتاريخ ، انّ رجلاً من قبيلة حمير عرف أنه سيولد في أرض مكة نبي الاِسلام الاَعظم ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) ، ولمّا خاف أن لا يدركه ، كتب رسالة وسلّمها لاَحد أقاربه حتى يسلّمها إلى النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم حينما يبعث ، وممّا جاء في تلك
    1 ـ نفس المصدر.
    2 ـ صحيح الترمذي : 4/621 ، كتاب صفة القيامة ، الباب 9.
    3 ـ نقله « زيني دحلان » عن الطبراني في الكبير كما في التوصل إلى حقيقة التوسل : 298.


(283)
الرسالة قوله : « وإن لم أدركك فاشفع لي يوم القيامة ولا تنسني ». (1) ولما وصلت الرسالة إلى يد النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) قال : « مرحباً بتبّع الاَخ الصالح » فإنّ توصيف طالب الشفاعة من النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) بالاَخ الصالح ، أوضح دليل على أنّه أمر لا يصادم أُصول التوحيد.
    وروي أنّ أعرابياً قال للنبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) : جهدت الاَنفس ، وجاع العيال ، وهلك المال ، فادع اللّه لنا ، فإنّا نستشفع باللّه عليك ، وبك على اللّه ، فسبح رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال : « ويحك أنّ اللّه لا يستشفع به على أحد من خلقه ، شأن اللّه أعظم من ذلك ». (2) وأنت إذا تدبرت في الرواية ترى أنّ النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم أقرّه على شيء وأنكر عليه شيئاً آخر ، أقرّه على قوله : إنّا نستشفع بك على اللّه ، وأنكر عليه : نستشفع باللّه عليك ، لاَنّ الشافع يسأل المشفوع إليه ، والعبد يسأل ربه ، ويستشفع إليه ، والرب تعالى لا يسأل العبد ، ولا يستشفع به.
    وروى المفيد عن ابن عباس أنّ أمير الموَمنين ( عليه السلام ) لما غسّل النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) وكفّنه ، كشف عن وجهه وقال : « بأبي أنت وأُمي طبت حياً وطبت ميتاً ... اذكرنا عند ربك ». (3)
    وروي أنّه لما توفي النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) أقبل أبو بكر فكشف عن وجهه ، ثم أكبّ عليه فقبّله ، وقال : بأبي أنت وأُمي طبت حياً وميتاً ، اذكرنا يا محمد عند ربك ولنكن من بالك. (4)
    وهذا استشفاع من النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) في دار الدنيا بعد موته.
    1 ـ مناقب ابن شهر آشوب : 1/12 ، السيرة الحلبية : 2/88.
    2 ـ كشف الارتياب : 264 ، نقلاً عن زيارة القبور : 100.
    3 ـ مجالس المفيد : 103 ، المجلس الثاني عشر.
    4 ـ كشف الارتياب : 265 نقلاً عن خلاصة الكلام.


(284)
    ونقل عن شرح المواهب للزرقاني انّ الداعي إذا قال : اللّهم إنّي استشفع إليك بنبيك يا نبي الرحمة اشفع لي عند ربك ، استجيب له. (1)
    وقد روى الجمهور في أدب الزائر إنّه إذا جاء لزيارة النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم يقول : جئناك لقضاء حقّك ، والاستشفاع بك ، فليس لنا يا رسول اللّه شفيع غيرك ، فاستغفر لنا واشفع لنا. (2)
    كل هذه النصوص تدل على أنّ طلب الشفاعة من النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كان أمراً جائزاً ورائجاً ، وذلك لاَنّهم يرونه مثل طلب الدعاء منه ، ولا فرق بينها وبينه إلاّ في اللفظ ، وقد عرفت صحة إطلاق لفظ الشفاعة على الدعاء والاستشفاع على طلب الدعاء حتى أنّ صحيح البخاري عقد بابين بهذين العنوانين :
    إذا استشفعوا ليستسقى لهم لم يردهم.
    إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط.
    فنرى أنّ البخاري يطلق لفظ الشفاعة والاستشفاع على الدعاء وطلبه من الاِمام في العام المجدب من دون أن يخطر بباله أنّ هذا التعبير غير صحيح.
    وعلى الجملة انّ طلب الشفاعة من النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) داخل فيما ورد من الآيات التالية :
    ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّهَ تَوّاباً رَحِيماً ). (3)
    ( قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِر لَنا ذُنُوبَنا إِنّا كُنّا خاطِئينَ * قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّي ). (4)
    1 ـ نفس المصدر.
    2 ـ الغدير : 5/124 ـ 127 ، وقد نقله عن جمع لا يستهان بعدتهم.
    3 ـ النساء : 64.
    4 ـ يوسف : 97 ـ 98.


(285)
    وقوله سبحانه : ( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْوَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ). (1)
    فكلّما يدل على جواز طلب الدعاء من الموَمن الصالح يمكن الاستدلال به على صحة ذلك.
    وقد عقد الكاتب محمد نسيب الرفاعي موَسس الدعوة السلفية والمدافع القوي عن الوهابية باباً تحت عنوان : « توسل الموَمن إلى اللّه تعالى بدعاء أخيه الموَمن له ». واستدل بالقرآن والسنّة الصحيحة ، فإذا كان ذلك جائزاً فلم لا يجوز طلب الشفاعة من النبي وآله بعد كون الجميع مصداقاً لطلب الدعاء.
    وليعلم أنّ البحث هنا مركّز على طلب الشفاعة من الاَخيار ، وأمّا التوسل بذواتهم أو بمقامهم أو غير ذلك فخارج عن موضوع بحثنا ، وقد أفردنا لجواز تلك التوسلات رسالة مفردة أشبعنا الكلام فيها قرآناً وحديثاً ، وقد طبعت وانتشرت.
    وإذا وقفت على ذلك فهلمّ معي إلى ما لفّقه القوم وزعموه دلائل قاطعة على حرمة طلب الشفاعة من الاَولياء ، ونحن ننقلها واحداً بعد واحد على سبيل الاِجمال ، وقد أتينا ببعض الكلام في الجزء الاَوّل من هذه الموسوعة. (2)

ما استدل به على حرمة طلب الشفاعة
    استدل القائلون بحرمة طلب الشفاعة بوجوه :
    1. انّ طلب الشفاعة من الشفعاء عبادة لهم وهي موجبة للشرك ، أي الشرك في العبادة ، فإنّك إذا قلت يا محمد اشفع لنا عند اللّه ، فقد عبدته بدعائك ،
    1 ـ المنافقون : 5.
    2 ـ راجع معالم التوحيد : 491 ـ 501.


(286)
والدعاء مخ العبادة ، فيجب عليك أن تقول : اللّهم اجعلنا ممن تناله شفاعة محمد ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ).
    والجواب عن هذا الاستدلال واضح كل الوضوح بعد الوقوف على ما أوردناه في الجزء الاَوّل من هذه الحلقات ، حيث قلنا : إنّ حقيقة العبادة ليست مطلق الدعاء ، ولا مطلق الخضوع ، ولا مطلق طلب الحاجة ، بل هو عبارة عن الدعاء أو الخضوع أمام من يعتقد بإلوهيته وربوبيته وانّه الفاعل المختار والمتصرف بلا منازع في الاَُمور التي ترجع إلى اللّه سبحانه.
    وإن شئت قلت : العبادة هي الخضوع عن اعتقاد بإلوهية المسوَول وربوبيته واستقلاله في ذاته أو في فعله.
    وبعبارة ثالثة : العبادة هي الخضوع اللفظي أو العملي أمام من يعتقد بأنّه يملك شأناً من شوَون وجوده وحياته وعاجله وآجله.
    إلى غير ذلك من التعابير التي توضح لنا مفهوم العبادة وحقيقتها.
    فمن الغريب أن نفسر العبادة بمطلق الخضوع أو الخضوع النهائي وإن كان غير صادر عن الاعتقاد بإلوهية المدعو وربوبيته وإلاّ يلزم أن يكون خضوع الملائكة أمام آدم ، وخضوع الاِنسان أمام والديه من الشرك الواضح.
    وما ورد في الحديث من أنّ الدعاء مخ العبادة ، فليس المراد منه مطلق الدعاء ، بل المراد دعاء اللّه مخ العبادة ، وما ورد في الروايات من أنّه : من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن كان ينطق عن اللّه فقد عبد اللّه ، وان كان ينطق عن غير اللّه فقد عبد غير اللّه. (1) فليس المراد من العبادة هنا : العبادة المصطلحة ، بل استعيرت في المقام لمن يجعل نفسه تحت اختيار الناطق.
    1 ـ الكافي : 6/434 ، الحديث 4 ، وعيون أخبار الرضا : 1/303 ، الحديث 63 ، الوسائل : 18 الباب10 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 9 و 13.

(287)
    وعلى ذلك فطلب الشفاعة إنّما يعد عبادة للشفيع إذا كان مقروناً بالاعتقاد بإلوهيته وربوبيته وانّه مالك لمقام الشفاعة. أو مفوض إليه ، يتصرف فيها كيف يشاء ، وأما إذا كان الطلب مقروناً باعتقاد أنّه عبد من عباد اللّه الصالحين يتصرف بإذنه سبحانه للشفاعة ، وارتضائه للمشفوع له ، فلا يعد عبادة للمدعو ، بل يكون وزانه وزان سائر الطلبات من المخلوقين ، فلا تعد عبادة بل طلباً محضاً غاية الاَمر لو كان المدعو قادراً على المطلوب يكون الدعاء أمراً صحيحاً عقلاً ، وإلاّ فيكون أمراً لغواً فلو تردّى الاِنسان وسقط في قعر البئر وطلب العون من الواقف عند البئر القادر على نجدته وإنقاذه ، يعد الطلب أمراً صحيحاً ولو طلبه من الاَحجار المنضودة حول البئر يكون الدعاء والطلب منها لغواً مع كون الدعاء والطلب هذا غير مقترن بشيء من الاِلوهية والربوبية في حق الواقف عند البئر ، ولا الاَحجار المنضودة حوله.
    هذا من جانب ، ومن جانب آخر نرى أنّه سبحانه حثّ على ابتغاء الوسيلة وقال : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) (1) ومن المعلوم انّ المراد من الوسيلة ليست الاَسباب الدنيوية الموصلة للاِنسان إلى غاياته المادية ، إذ ليس هذا أمراً خفياً على الاِنسان حتى يحثّه عليه القرآن كما أنّه ليس من الاَُمور التي يكسل عنها الاِنسان حتى يحض عليه ، بل المراد : التوسل بالاَسباب الموصلة إلى الاَُمور المعنوية ومن المعلوم إنّ أحد الاَسباب هو التوسل بدعاء الاَخ الموَمن ، والولي الصالح ، وعلى ذلك فيرجع طلب الشفاعة إلى طلب الدعاء ، الذي اتفق المسلمون قاطبة على جوازه.
    وإن شئت قلت إنّه سبحانه يقول : ( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاّمَنْ شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) . (2)
    1 ـ المائدة : 35.
    2 ـ الزخرف : 86.


(288)
    ومن الواضح إنّ جملة ( إلاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ ) تدل على أنّ الطائفة الموحدة للّه تملك الشفاعة بإذنه سبحانه ، وعندئذ فلماذا لا يصح طلبها ممن يملك الشفاعة بإذنه؟ غاية الاَمر إنّ الطالب لو كان في عداد من ارتضاه سبحانه نفعه الاستشفاع وإلاّ فلا ، ومن العجب قول محمد بن عبد الوهاب : « إنّ اللّه أعطى النبي الشفاعة ونهاك عن هذا وقال : ( فلا تدعوا مع اللّه أحداً ) وأيضاً الشفاعة أُعطيها غير النبي فصح أنّ الملائكة والاَولياء يشفعون فإن قلت : اللّه أعطاهم الشفاعة ، وأطلبها منهم ، رجعت [عندئذ] إلى عبادة الصالحين ، التي ذكرها اللّه تعالى في كتابه » (1) إذ هذه الكلمة من العجائب فإنّه إذا أعطاه اللّه سبحانه الشفاعة فكيف يمنع طلبها منه؟! وهذا بمنزلة من ملّك أحداً شيئاً ليستفيد منه الآخرون ولكن منع الآخرين عن طلبه منه ، فهذا لو كان صحيحاً عقلاً فهو غير متعارف عرفاً.
    أضف إليه انّه في أي آية وأي حديث منع طلب الشفاعة عنهم. وتصور انّ طلبها عبادة قد عرفت الاِجابة عنها ، وانّ العبادة عبارة عن الطلب اللفظي أو الخضوع العملي عمن يعتقد بنحو من الاَنحاء بإلوهيته وربوبيته ، وذلك الاعتقاد لا ينفك عن الاعتقاد في استقلال المطلوب منه ذاتاً وفعلاً ، وكونه متصرفاً في الاَُمور الاِلهية تصرفاً بلا منازع ، وليس هذا الاعتقاد موجوداً في الاستشفاعات المتعارفة بين المسلمين.
    2. انّ طلب الشفاعة يشبه عمل عبدة الاَصنام في طلبهم الشفاعة من آلهتهم الكاذبة الباطلة وقد حكى القرآن ذلك العمل منهم ، قال سبحانه : ( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هوَلاءِ شُفَعاوَنا عِنْدَ اللّهِ ) (2) وعلى ذلك فالاستشفاع من غيره سبحانه عبادة لهذا الغير.
    1 ـ كشف الشبهات : 6/9.
    2 ـ يونس : 18.


(289)
    والجواب عن هذا بيّن أيضاً ، فانّك إذا أمعنت النظر في مفاد الآية لا تجد فيها أيّة دلالة على أنّ شركهم كان لاَجل الاستشفاع بالاَصنام وكان هذا هو المحقق لشركهم وجعلهم في عداد المشركين ، وإليك توضيح ذلك فنقول :
    إنّ المشركين كانوا يقومون بعملين : ( العبادة ) ويدل عليه ( ويعبدون ... ) و ( طلب الشفاعة ) ويدل عليه : ( ويقولون ... ) وكان علة اتصافهم بالشرك هو الاَوّل لا الثاني ، ولو كان الاستشفاع بالاَصنام عبادة لها بالحقيقة ، لما كان هناك مبرر للاِتيان بجملة أُخرى ، أعني قوله : ( ويقولون هوَلاء شفعاوَنا ) بعد قوله : ( ويعبدون ... ) إذ لا فائدة لهذا التكرار ، وتوهم انّ الجملة الثانية توضيح للاَُولى خلاف الظاهر ، فإنّ عطف الجملة الثانية على الاَُولى يدل على المغايرة بينهما إذ لا دلالة للآية على أنّ الاستشفاع بالاَصنام كان عبادة فضلاً عن كون الاستشفاع بالاَولياء المقربين عبادة لهم.
    نعم ثبت بأدلّة أُخرى ( لا من الآية ) بأنّ طلب الاستشفاع بالاَصنام يعد عبادة لهم وذلك لما قلنا من أنّ المشركين كانوا يعتقدون بإلوهيتها وربوبيتها واستقلالها في الاَفعال. (1)
    3. طلب الحاجة من غيره سبحانه حرام ، فإنّ ذلك دعاء لغير اللّه وهو حرام قال سبحانه : ( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) (2) وإذا كانت الشفاعة ثابتة لاَوليائه وكان طلب الحاجة من غيره حراماً فالجمع بين الاَمرين يتحقق بانحصار جواز طلبها عن اللّه سبحانه خاصة ، ويوضح ذلك قوله سبحانه : ( ادعُونِي أستجِب لَكُم إنّ الّذِينَ يَستَكْبِرُونَ عَن عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنّمَ دَاخِرِين ) (3) ، فقد عبر عن
    1 ـ وان أردت المزيد من التوضيح ، فلاحظ الجزء الاَوّل من هذه الحلقات : معالم التوحيد في القرآن : 493 ـ 501.
    2 ـ الجن : 18.
    3 ـ غافر : 60.


(290)
العبادة في الآية بلفظ الدعوة في صدرها وبلفظ العبادة في ذيلها ، وهذا يكشف عن وحدة التعبيرين في المعنى ، وقد مر قوله ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) : « الدعاء مخ العبادة ».
    والجواب بوجوه : أوّلاً : أنّ المراد من الدعاء في قوله تعالى : ( فلا تدعوا مع اللّه أحداً ) ليس مطلق دعوة الغير بل الدعوة الخاصة المحدودة المرادفة للعبادة ، ويدل عليه قوله سبحانه في نفس هذه الآية ( وانّ المساجد للّه ).
    وعلى ذلك فيكون المراد من النهي عن دعوة الغير هو الدعوة الخاصة المقترنة بالاعتقاد بكون المدعو ذا اختيار تام في التصرف في الكون وفي شأن من شوَونه سبحانه.
    فإذا كان طلب الشفاعة مقترناً بهذه العقيدة يعد عبادة للمشفوع إليه. وإلاّ فيكون طلب الحاجة كسائر الطلبات من غيره سبحانه الذي لا يشك ذو مسكة في عدم كونها عبادة.
    وثانياً : أنّ المنهي عنه هو دعوة الغير بجعله في رتبته سبحانه كما يفصح عنه قوله : ( مع اللّه ) وعلى ذلك فالمنهي هو دعوة الغير ، وجعله مع اللّه ، لا ما إذا دعا الغير معتقداً بأنّه عبد من عباده لا يملك لنفسه ولا لغيره ضراً ولا نفعاً ولا حياة ولا بعثاً ولا نشوراً إلاّ بما يملكه من اللّه سبحانه ويتفضّل عليه بإذنه ويقدر عليه بمشيئته ، فعند ذاك فالطلب منه بهذا الوصف يرجع إلى اللّه سبحانه ، وبذلك يظهر أنّ ما تدل عليه الآيات القرآنية من أنّ طلب الحاجة من الاَصنام كان شركاً في العبادة ، فلاَجل انّ المدعو عند الداعي كان إلهاً أو رباً مستقلاً في شأن من شوَون وجوده أو فعله قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) (1) وقال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ تدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ
    1 ـ الاَعراف : 197.
مفاهيم القرآن ـ جلد الرابع ::: فهرس