مفاهيم القرآن ـ جلد الراربع ::: 361 ـ 370
(361)
التعميم في جانب النبي ، وما يأتي في خامس الوجوه من تخصيص النبوة بالروَية في المنام.
    2. « النبي » هو الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك ، والرسول هو الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين. (1)
    وهذا كما ترى يوافق الفرق المذكور في جانب النبي ويخالفه في ناحية الرسول ، إذ لا يخص الرسول بمن يتحمل الرسالة بواسطة الملك بل يعمم إلى محتملها بسبب الاِيحاء في المنام.
    3. « الرسول » من يأتيه الملك بالوحي عياناً ويشافهه ، و « النبي » يقال لمن يوحى إليه في المنام. (2)
    وهذا يوافق الفرق المذكور في جانب الرسول ويخالفه في ناحية النبي حيث يخصصه بالروَية في المنام وهو جعل النبي أعم منها ، وإن كان قيده بعدم توسيط الملك.
    4. « الرسول » الذي تنزل عليه الملائكة بالوحي ، والنبي الذي يوحى إليه في منامه ، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً. (3)
    ولولا إنّه قد رتب على كلامه ما رتب ، لكان ظاهره في بدء الاَمر موافقاً لما تقدمه غير انّه لما جعل النسبة بينهما أعم وأخص مطلقاً ، وفرض أنّ النبي أعم من الرسول ، فقد خالف الكلام المذكور قبله في جانب النبي وإن كان يوافقه من جانب آخر.
    1 ـ مجمع البحرين : مادة « النبأ ».
    2 ـ فروق اللغة : 106.
    3 ـ مجمع البيان : 7/91.


(362)
    وكيف كان فقد استدل على كون النبوة والرسالة مرتبتين مختلفتين ، وإنّ الرسول خصوص من ينزل عليه الملك ، بقوله سبحانه :
    ( وَما مَنَعَ النّاسَ أَنْ يُوَْمِنُوا إِذْجاءَهُمُ الهُدى إِلاّ أَنْ قالُوا أَبَعثَ اللّهُ بَشَراً رَسُولاً * قُلْ لَوْ كانَ فِي الاََرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ (1) لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً ). (2)
    ومحصل مضمون الآيتين : انّ الذي يمنع الناس عن أن يوَمنوا برسالتك أنّهم يحيلون رسالة البشر من جانب اللّه ( حيث قالوا : ( أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَسُولاً ) ) وقد أخطأوا في ذلك ، فإنّ مقتضى الطبيعة الاِنسانية والاَرضية وعناية اللّه بهداية عباده ، أن ينزل إلى بعضهم من أبناء جلدتهم ملكاً ، من السماء رسولاً لاِرشادهم ، حتى أنّ الملائكة ، لو كانوا كالاِنسان من حيث العيش على سطح هذه الاَرض ، لنزّل اللّه إلى بعضهم ملكاً من السماء رسولاً حاملاً لوحيه ، وهذا يعطي أنّ الرسول إنسان ينزل عليه ملك من السماء بدين اللّه ثم هو يبلغه إلى الناس بأمر اللّه. (3)
    قال في الكشاف في تفسير قوله : ( لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً ) يعلمهم الخير ويهديهم الرشاد ، فأمّا الاِنس فما هم بهذه المثابة إنّما يرسل الملك إلى مختار منهم للنبوة ، فيقوم ذلك المختار بدعوتهم وإرشادهم. (4)
    إلى غير ذلك من الكلمات حول الآية ، وهي تفيد أنّ رسالة أي فرد من البشر أو الملائكة القاطنين في الاَرض إلى أمثالهم ، لا تستقيم إلاّ بنزول ملك من السماء يحمل رسالة اللّه إلى فرد مختار في الاَرض يتحملها إلى أعداله وأمثاله.
    1 ـ أي يمشون على أقدامهم كما يمشي الاِنس ولا يطيرون بأجنحتهم إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويتعلّموا ما يلزمهم علمه.
    2 ـ الاِسراء : 94 ـ 95.
    3 ـ الميزان : 13/221.
    4 ـ الكشاف : 2/246.


(363)
    ويشعر بذلك ما قاله موسى ( عليه السلام ) عندما خاطبه سبحانه بقوله : ( أَنِائْتِ القَومَ الظّالِمينَ ) ( رَبِّ إِنّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْإِلى هارُونَ ) (1) أي أرسل إليه جبرئيل واجعله رسولاً مثلي واشدد عضدي به وقد أُجيبت دعوته حيث جعل سبحانه أخاه رسولاً مثله بقرينة قوله سبحانه : ( فَأْتِياهُ فَقُولا إِنّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائيلَ ) (2) وقوله سبحانه : ( فَأْتِيا فِرْعَونَ فَقُولا إِنّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمينَ ) (3) ، وهذا الوجه يوَيده بعض الاَحاديث المروية بطرق صحيحة سوف نشير إليها ونترجم رجال أسنادها حسب اقتضاء المقام.
    هذا غاية ما يمكن أن يوجه هذا القول ، غير انّ في دلالة الآيتين على كون حقيقة الرسالة متقومة بنزول الملك على الرسول خفاء واضح.
    فلاَنّها سيقت لرد مزاعم بعض المشركين من امتناع أن يكون البشر رسولاً مبعوثاً من اللّه إلى الناس ، وانّه لابد أن يكون الرسول ملكاً لا بشراً ، بأنّ التماثل بين المرسل والمرسل إليهم أوفق في الغرض الذي لاَجله بُعث الرسول ، لاَنّ بين المتماثلين من التجاذب والتلاحم ما ليس في غيره ، ولاَجل ذلك جرت حكمة اللّه على جعل الرسل بشراً ولو استقرت الملائكة في الاَرض لجعل رسلهم من جنسهم أيضاً ملائكة ، وليست الآية بصدد تحديد مفهوم الرسالة وإنّها متقومة بنزول الملك إلى الرسول.
    أضف إلى ذلك أنّ دلالة قوله : ( لنزلنا عليهم من السّماء ملكاً رسولاً ) على ما يرتئيه القائل مبنية على أن يكون الملك النازل من السماء ، رسولاً إلى الرسول
    1 ـ الشعراء : 10 ـ 13.
    2 ـ طه : 47.
    3 ـ الشعراء : 16.


(364)
المختار منهم لا رسولاً إليهم جميعاً ، وعند ذاك يصح ما يراه القائل من كون رسالة الرسول حتى رسالة الملك بين الملائكة ، تتوقف على نزول ملك من السماء إليه ، ينبئه بأخبار السماء ، مع أنّ ظاهر الآية خلافه وانّ الملك النازل هو بنفسه نبي الملائكة ورسولهم لا أنّه ينزل هذا الملك على ملك آخر ليكون هو الآخر رسولاً.
    وأمّا الآية الثانية فلها إشعار بهذا القول ، ولا يبلغ حد الدلالة ، لاَنّ طلب موسى من اللّه سبحانه أن يرسل جبرئيل إلى أخيه ليخلع عليه الرسالة ، لا يدل على تحديد مفهوم الرسالة بنزول الملك فقط بل هو أحد طرقها لا طريقها المنحصر.

الفرق الخامس
    النبي من يوحى إليه في المنام (1) فيطلع على بعض الملاحم والمغيبات ، ولكن الرسول يشاهد الملك ويعاينه ويكلّمه ويراه.
    والموافقة مع هذا القول مشكلة.
    فإن أُريد أنّ النبي عبارة عمن يوحى إليه في المنام ، وان حيثية النبوة قائمة بالاِيحاء إلى النبي بالمنام فقط ، كما انّ الرسالة متقومة بمعاينة الملك ومشاهدته ، فيرده أنّ النبي صفة مشبهة بمعنى المطلع على الغيب على زنة اللازم أو المخبر عن الغيب ( إذا كان بمعنى الفاعل كما هو ظاهر بعض المعاجم ) من أي طريق اتفق ، سواء أكان بالاِيحاء إليه في النوم ، أو بإلقاء في قلبه وروعه ، أو بسماع الكلام من جبل أو شجرة أو بمعاينة الملك ومخاطبته ، فلا دليل على اختصاصه بالاطلاع على الغيب بالاِيحاء إليه في المنام.
    1 ـ أوعز إليه في مجمع البحرين في مادة « النبأ » ، ونقله قولاً في مجمع البيان : 7/91 ، والرازي في مفاتيحه : 6/344 ، واختاره صاحب الميزان في مواضع من كتابه : راجع 1/280 ، و 13/221 ـ 222 ، و 14/429 ـ 430 ، وما نقلناه من الكلمات في ذيل الفرق الرابع الماضي ربما يمكن أن يشير بعضها إلى هذا الوجه.

(365)
    وقد خاطب اللّه سبحانه نبيه الكريم في كتابه المجيد بقوله : ( يا أيها النبي ) في مواضع كثيرة ، أو أطلق عليه النبي ، فهل ترى من نفسك أن تقول : إنّ ذلك الاِطلاق إنّما هو بملاك الاِيحاء إليه في المنام ، مع أنّ الاِيحاء إليه إنّما كان بنزول الملك ـ دائماً أو غالباً ـ كما هو ظهور قوله سبحانه : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاََمِينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ). (1)
    نعم اتفق الاِيحاء إليه في المنام قليلاً ، كما يعرب عنه قوله سبحانه : ( لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّوَيا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسّجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنينَ مُحَلِّقينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ ) (2) وقوله سبحانه : ( وَما جَعَلْنَا الرُّوَْيَا الّتي أَرَيْناكَ إِلاّفِتْنَةً لِلنّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْياناً كَبِيراً ). (3)
    على أنّه يمكن أن يقال : إنّ تلك الروَيا وما تقدم عليها وإن كان اطلاعاً منه على الغيب ولكنه لم يكون وحياً مصطلحاً ، وليس مطلق الكشف ومجرد الشهود والروَيا الصادقة ، وحياً مصطلحاً.
    وإن أراد أنّ النبي مطلق من يصل إليه الخبر من جانب اللّه ويطلع على الغيب بواحد من الطرق التي ألمحنا إليها ، وإليها يشير قوله سبحانه : ( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (4) وانّ الاِيحاء في المنام أحد هذه الطرق ، فهو حق في جانب النبي وتعاضده اللغة وموارد الاستعمال ، فالنبي مطلق المطّلع على الغيب
    1 ـ الشعراء : 193 ـ 194.
    2 ـ الفتح : 27.
    3 ـ الاِسراء : 60.
    4 ـ الشورى : 51.


(366)
أو المخبر عنه سواء أكان اطلاعه عليه بالاِيحاء إليه في المنام أو غيره.
    وأمّا تخصيصه الرسول بمعاينة الملك ، فقد استدل عليه ببعض الآيات وأيّدته بعض الروايات الآتية وقد تقدم بيانه.
    وقد تمسكت الطائفة الضالة « البهائية » بهذا القول وادّعت بأنّ النبي هو خصوص من يوحى إليه في الروَيا فقط ، وانّ المختوم إنّما هو النبوة بهذا المعنى ، لا الرسالة بمعنى مشاهدة الملك ومعاينته قبلاً ، فختم النبوة لا يلازم ختم الرسالة.
    وقد وافاك إنّ هذا قول مجرد عن البرهنة ، وفارغ عن أي شاهد ، بل هو عبارة عن منصب معنوي يستدعي الاطلاع على الغيب بإحدى الطرق التي ألمحنا إليها ، فختم هذا الباب وسده يستلزم ختم الرسالة لما سنوضح من أنّ النبوة أساس الرسالة وإنّ ختم النبوة يلازم ختم الرسالة ، فانتظر.

الفرق السادس
    إنّ النبي والرسول كليهما مبعوثان إلى الناس ، غير أنّ النبي بعث لينبىَ الناس بما عنده من نبأ الغيب لكونه خبيراً بما عند اللّه ، والرسول هو المرسل برسالة خاصة زائدة على أصل نبأ النبوة كما يشعر به أمثال قوله تعالى : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَبَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ ) (1) وقوله تعالى : ( وَما كُنّا مُعَذِّبينَ حَتّى نَبْعَثَرَسُولاً ) (2) وعلى هذا فالنبي هو الذي يبين للناس صلاح معاشهم ومعادهم من أُصول الدين وفروعه على ما اقتضته عناية اللّه ، من هداية الناس إلى سعادتهم ، هلاكاً أو عذاباً أو نحو ذلك قال تعالى : ( لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلى اللّهِ حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسُلِ ) (3) ، وعلى هذا يصير الرسول أخص من النبي كما هو صريح
    1 ـ يونس : 47.
    2 ـ الاِسراء : 15.
    3 ـ النساء : 165.


(367)
قول القائل : « والرسول هو الرسول الحامل لرسالة خاصة ». (1)
    وهذا الفرق لا يخلو من خفاء أيضاً فإنّ جعل الرسول من له رسالة خاصة تستتبع مخالفة العذاب لم يدل عليه دليل وما استدل به من قوله سبحانه : ( وما كنّا معذّبين حتى نبعث رسولا ) لا يدل على أنّ ما رآه داخل في حقيقة الرسالة ، وإنّها محددة به ، والدليل على ذلك إنّه لو قال مكانه : « حتى نبعث نبياً » لكان صحيحاً أيضاً ، لتمامية الحجة ، ببعث النبي والرسول كليهما ، كما في قوله سبحانه : ( كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعثَ اللّهُ النَّبِيّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرينَ ) (2) فلولا إتمام الحجة ببعث النبي لما صح توصيفهم بعد البعث ، بكونهم مبشرين ومنذرين.
    وعلى أي حال فقد اضطرب رأيه في إبداء الفرق بين اللفظين فاختار في المقام ما نقلناه عنه ، وقال في موضع آخر انّ النبي هو الذي يرى في المنام ما يوحى به إليه ، والرسول هو الذي يشاهد الملك فيكلّمه. (3)
    وقد دفعه إلى اختيار ثاني النظرين وروده في الروايات ويظهر منه في موضع ثالث (4) ما هو المختار عندنا ، وسوف يوافيك بيانه.
    1 ـ الميزان : 2/145 و 3/216 حيث قال : إنّ النبوة هي منصب البعث والتبليغ ، والرسالة هي السفارة الخاصة التي تستتبع الحكم والقضاء بالحق بين الناس ، أمّا بالبقاء والنعمة أو بالهلاك ، وسيوافيك امكان إرجاع كلامه هذا إلى ما هو المعتمد عندنا ، أعني : سابع الوجوه ، مع تصريحه به في : 16/345 من ميزانه.
    2 ـ البقرة : 213.
    3 ـ الميزان : 13/221 و 14/429.
    4 ـ الميزان : 1/274 حيث قال : النبوة معناها تحمل النبأ من جانب اللّه والرسالة معناها تحمل التبليغوالمطاعية والاِطاعة ، ونظيره ما أفاده في 16/345 فقد عدّ التبليغ من شوَون الرسالة ، مع أنّه عدّه في الجزء الثالث ص 216 من شوَون النبوة ، والعصمة للّه سبحانه ولمن اصطفاه من عباده.


(368)
ما هو المختار عندنا؟
    وقبل الدخول في البحث نقدم أُموراً ، تلقي الضوء على الحقيقة وتكشف الشك عن محيا الواقع.
    الاَوّل : النبأ في العرف العربي (1) الخبر الخطير الذي يستدعي الاهتمام به بالنظر إلى غاياته وآثاره فهو أخص من مطلق الخبر ، وبه يسمّى النبي نبياً ، لاَنّه منبىَ بما هو خطير من إنذار أو تبشير ، والتنبّوَ إخبار بالغيب ، لاَنّه أظهر أفراد الخبر الخطير وأعظم مصاديق لنبأ العظيم. (2)
    النبي في اللغة مأخوذ من مادة « النبأ » بمعنى الخبر المهم العظيم الشأن أو بمعنى الارتفاع وعلو الشأن ، والاَوّل أظهر ، وأكثر العرب لا تهمزه ، بل نقل أنّه لم يهمزه إلاّ أهل مكة ، وقد أنكر النبي على رجل قال له : « يا نبيء اللّه » (3) حيث روي أنّ رجلاً قال له : يا نبيء اللّه ، فقال : « لا تنبر (4) اسمي ، إنّما أنا نبي اللّه ».
    النبي « فعيل » بمعنى فاعل للمبالغة من النبأ : الخبر ، لاَنّه ينبىَ عن اللّه ، أي يخبر عنه ، ويجوز فيه تحقيق الهمزة وتخفيفها ، يقال : نَبَأ ونَبَّأ وأنبأ ، قال سيبويه : ليس أحد من العرب إلاّ ويقول : تنبّأ مسيلمة بالهمزة غير انّهم تركوا الهمزة في النبي ، كما تركوه في الذرية والبرية والخابية إلاّ أهل مكة فإنّهم يهمزون هذه الاَحرف الثلاثة ولا يهمزون غيرها ويخالفون العرب في ذلك كله. (5)
    قال الجوهري : يقال نبأت على القوم إذا طلعت عليهم ، ونبأت من أرض
    1 ـ ننقل في المقام نصوص أهل اللغة والعلم في تفسير النبي والرسول.
    2 ـ المعجزة الخالدة : 71.
    3 ـ المنار : 9/225 ، ورواه الصدوق في معاني الاَخبار : 113.
    4 ـ أي لا تهمز اسمي ، النبر همز الحروف.
    5 ـ النهاية لابن الاَثير : 5/3 ، مادة « نبأ ».


(369)
إلى أرض ، إذا خرجت من هذه إلى هذه ، وهذا المعنى أراده الاَعرابي بقوله « يا نبيء اللّه » لاَنّه خرج من مكة إلى المدينة فأنكر عليه الهمزة ، لاَنّه ليس من لغة قريش ، وقيل إنّ النبي مشتق من النبأة وهي الشيء المرتفع. (1)
    حكى الصدوق في معانيه عن أبي بشر اللغوي أنّه سمع منه في مدينة « السلام » أنّ « النبوّة » مأخوذة من « النبوة » وهو ما ارتفع من الاَرض ، فمعنى النبوّة : الرفعة ، ومعنى النبي : الرفيع. (2)
    قال ابن فارس : إنّ النبي من النبوة وهو الارتفاع كأنّه مفضل على سائر الناس برفع منزلته ، ويقولون : النبي ، الطريق « النبأ » الخبر ، والمعنى المخبر ومن يهمز النبي فلاَنّه أنبأ عن اللّه سبحانه. (3)
    وقال في المعجم الوسيط (4) النبوة سفارة بين اللّه عز وجل وبين ذوي العقول لاِزاحة عللها ، النبي المخبر عن اللّه وتبدل الهمزة وتدغم فيقال : النبي.
    هذه نصوص أئمّة اللغة والتفسير ، ولو أردنا الاستيعاب لخرجنا عما هو المقصود وكلها تهدف إلى أنّ لفظ ( النبي ) لو كان مشتقاً من « نبو » ( الناقص الواوي ) بمعنى ارتفع ، فهو بمعنى المرتفع منزلة ، وإن كان من النبأ بالهمزة ، فهو المخبر عن اللّه وعلى أي تقدير ، فلا ترى في كلام واحد من أصحاب المعاجم دخول أحد هذه الفروق المذكورة في صلب معناه وجوهره حسب الوضع الاَوّلي ، فلو دل على شيء منها فإنّما هو لعلّة أُخرى كما نشير إليه في آخر البحث.
    وأمّا الرسول فقد قال الراغب في مفرداته : « أصل الرسل هو الانبعاث على
    1 ـ راجع الصحاح مادة « النبأ ».
    2 ـ معاني الاَخبار : 39.
    3 ـ المقاييس : مادة « النبأ ».
    4 ـ أصدره مجمع اللغة العربية بالقاهرة.


(370)
التوَدة ( التأنّي ) يقال ناقة مرسلة ، سهلة المسير ، وإبل مراسيل منبعثة انبعاثاً سهلاً ، ومنه « الرسول » المنبعث ، وتصور منه تارة الرفق فقيل على رسلك ، إذا أمرته بالرفق ، وتارة الانبعاث ، فاشتق منه الرسول.
    وقال العسكري في فروقه : أرسلت زيداً إلى عمرو ، ويقتضي أنّك حملته رسالة إليه أو خبراً أو ما أشبه ذلك ... إلى أن قال : والنبوة يغلب عليها الاِضافة إلى النبي فيقال نبوة النبي ، لاَنّه يستحق منها الصفة التي هي على طريقة الفاعل والرسالة تضاف إلى اللّه لاَنّه المرسل بها ، ولهذا قال برسالتي ولم يقل بنبوتي ، والرسالة جملة من البيان يحملها القائم بها ليوَدّيها إلى غيره ، والنبوة تكليف القيام بالرسالة فيجوز إبلاغ الرسالات ، ولا يجوز إبلاغ النبوات. (1)
    وكلا النصين من الراغب والعسكري ، يهدفان إلى أمر واحد ، وهو أنّ الرسالة نحو سفارة من الغير ، لتنفيذ ما تحمله الشخص من جانب مرسله ، وانّ ما نقل من الفروق من أعلام التفسير وغيره خارج عن جوهرها وصلب معناها ، فإن دلّ عليها فإنّما هو لاَمر آخر ، كما سيوافيك بيانه.
    الثاني : المفهوم من التدبر في الآيات وما في كلمات أعلام اللغة : انّ النبي هو الاِنسان الموحى إليه من اللّه بإحدى الطرق المعروفة ، وأمّا الرسول فهو الاِنسان (2) ( أو الاَعم ) القائم بالسفارة من جانب شخص سواء أكان هو الله أو غيره بإبلاغ قول أو تنفيذ عمل.
    وإن شئت قلت : إنّ النبوة منصب معنوي وارتقاء للنفس الاِنسانية ،
    1 ـ الفروق اللغوية : 222 ، الباب الرابع والعشرون.
    2 ـ وما أشبه حال اللفظين : النبي والرسول بلفظي « المجتهد » و « المبلغ ».
    3 ـ سيوافيك بيان انّه لا يشترط في صدق الرسول كونه مبعوثاً من جانبه سبحانه ، بل يعم ما لو كان مبعوثاً من شخص عادي ، فانتظر.
مفاهيم القرآن ـ جلد الرابع ::: فهرس