مفاهيم القرآن ـ جلد الراربع ::: 351 ـ 360
(351)
إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيّاً ) (1) وقال عز من قائل : ( كَذَّبَ أَصْحابُ الاََيْكَة الْمُرْسَلينَ * إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) (2) وقال سبحانه : ( إِذ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ). (3)
    فهذه العصابة من الرسل لم يكونوا أصحاب كتب سماوية ولم يذكر أحد من الباحثين القدامى والمتأخرين كتاباً لهم ، وما عزا إليهم أحد من أصحاب الملل وكتاب السير والتاريخ ، كتاباً وما جاء لكتبهم ذكر في الاَحاديث الشريفة ، وفي مثل هذا المورد ، يصح أن يستدل بعدم الوجدان على عدم الوجود.
    وقال سبحانه : ( أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهيمَ وَأَصحابِ مَدْيَنَ وَالْمُوَْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (4) فقد بعث اللّه هوداً إلى عاد ، وصالحاً إلى ثمود ، وشعيباً إلى مدين ، الذين عدتهم الآية من الرسل ولم يثبت لواحد منهم كتاب. نعم نص القرآن على صحف إبراهيم وقال : ( صُحُفِ إِبْراهيمَ وَمُوسَى ) (5) كما نصت الروايات على كتاب نوح. (6)
    وبذلك يظهر المقصود من قوله سبحانه : ( وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ ... ) (7) فالآية
    1 ـ مريم : 54.
    2 ـ الشعراء : 176 ـ 178.
    3 ـ الشعراء : 161 ـ 162.
    4 ـ التوبة : 70.
    5 ـ الاَعلى : 19.
    6 ـ أخرج الصدوق في عيونه : 234 عن أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) : ... انّ كل نبي بعد نوح كان على شريعته ومنهاجه وتابعاً لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل » ، راجع البحار : 11/34.
    7 ـ آل عمران : 81.


(352)
أمّا تنظر إلى الاَنبياء بنظرة واحدة وتصف الجميع بقوله : ( لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ ) أو المراد هو الكتب التشريعية السماوية التي تعد أساس دعوة الاَنبياء ويحتمل أن يكون المراد من ( النبيين ) خصوص أصحاب الشرائع فلاحظ.
    وخامساً : أنّ هذا القول لا يتلاءم مع ما رواه الفريقان في عدد المرسلين والكتب ، فعن أبي ذر انّه قال : قلت يا رسول اللّه كم النبييون؟ قال : « مائة ألف ، وأربعة وعشرون ألف نبي » ، قلت : كم المرسلون منهم؟ قال : « ثلاثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً ... » إلى أن قال : قلت : يا رسول اللّه! كم أنزل اللّه من كتاب؟ قال : « مائة كتاب وأربعة كتب ، وأنزل اللّه تعالى على شيث ، خمسين صحيفة ، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة ، وعلى إبراهيم عشرين صحيفة ، وأنزل التوراة والاَنجيل والزبور والفرقان ». (1)
    ولم يذكر فيه كتاب نوح ... ولعلّه لم يكن في مقام الحصر والعد. روى صاحب الاختصاص تلك الرواية بسنده عن الصادق ( عليه السلام ) بصورة أُخرى تختلف عن ما تقدم في عدد الاَنبياء قال : « يا رسول اللّه! كم بعث اللّه من نبي؟ قال ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) : ثلاثمائة ألف وعشرين ألف نبي ، قال : يا رسول اللّه! كم المرسلون؟ فقال : ثلاثمائة وبضعة عشر ، قال : يا رسول اللّه كم أنزل اللّه من كتاب؟ فقال : مائة كتاب وأربعة وعشرين كتاباً ، أنزل على إدريس خمسين صحيفة ، وهو « اُخنوخ » وهو أول من خط بالقلم ، وأنزل على نوح (2) وأنزل على إبراهيم عشراً ، وأنزل التوراة على موسى ، والزبور على داود ، والاِنجيل على عيسى ، والقرآن على محمد ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) ». (3)
    نعم روى في الاختصاص أيضاً عن ابن عباس أنّه قال : أوّل المرسلين آدم
    1 ـ معاني الاَخبار : 59 ، الخصال : 2/104. ولاحظ العقائد النسفية للتفتازاني : 169.
    2 ـ كذا في النسخ.
    3 ـ بحار الاَنوار : 11/60.


(353)
وآخرهم محمد ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) وكانت الاَنبياء مائة ألف وأربعة وعشرين ألف نبي ، الرسل منهم ثلاثمائة ... إلى أن قال : والكتب التي أُنزلت على الاَنبياء مائة كتاب وأربعة كتب ، منها على آدم خمسون صحيفة ، وعلى إدريس ثلاثون ، وعلى إبراهيم عشرون ، وعلى موسى التوراة ، وعلى داود الزبور ، وعلى عيسى الاِنجيل ، وعلى محمد ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) الفرقان. (1)
    فالرواية على ما نرى ، مع أنّها متفاوتة في حصر عدد الاَنبياء والكتب ومن نزلت إليهم هذه الصحف ، إلاّ أنّها تنص على قلة الكتب عن الرسل ، وانّ الرسل كانوا أكثر من الكتب المنزلة بأضعاف ، فكيف يمكن القول بأنّ الرسول من أُنزل عليه كتاب؟!
    * الفرق الثالث (2)
    الرسول من جاء بشرع جديد ، والنبي يشمل هذا ومن جاء لتقرير شرع سابق. (3)
    قال الرازي : قيل انّ من كان صاحب المعجزة وصاحب الكتاب ونسخ شريعة من قبله ، فهو الرسول ، ومن لم يكن مستجمعاً لهذه الخصال ، فهو النبي ، غير الرسول.
    قال البيضاوي في تفسير قوله سبحانه : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ) الرسول من بعثه اللّه بشريعة مجددة يدعو الناس إليها ، والنبي من يعمه ومن بعث لتقرير شرع سابق.
    1 ـ بحار الاَنوار : 11/42 ، الكشاف : 2/352.
    2 ـ وهذا الفرق كسابقيه داخل تحت عنوان واحد ، وهو كون الرسول أخص من النبي.
    3 ـ تفسير المراغي : 17/127.


(354)
    ولكن باب المناقشة في هذا القول واسع ، فإنّ الظاهر من القرآن ونصوص الاَحاديث ، انّ عدد الشرائع لا يتجاوز الخمسة ، وبينما تعداد الرسل قد تجاوزها بكثير ، فكيف يجوز لنا أن نفسر الرسول بأنّه المبتدىَ بوضع الشرائع والاَحكام أو هو من بعثه اللّه بشريعة مجددة.
    قال سبحانه : ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَالَّذي أَوحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) (1) فإنّ الآية في مقام الامتنان على الاَُمة الاِسلامية ، من أنّ شريعتها جامعة لكل ما اشتملت عليه الشرائع السابقة النازلة على السلف من الاَنبياء ، فلو كان هناك أصحاب شرائع غير ما ذكر في الآية لكان اللازم ذكره ليكون الامتنان آكد ، فظاهر الآية انّ الشريعة مختصة بالمذكورين في الآية : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ).
    ولكن يمكن القول إنّ قوله سبحانه : ( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) تفسير لما ( شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً و ... ) ومعناه هو الاَخذ بالدين بأجمعه والتدين بأحكامه وتشريعاته كافة وعدم الاختلاف فيه بأخذ طائفة ببعض الدين ، وطائفة أُخرى ببعضه الآخر ، كما فعلته الاَُمم السابقة ، فهذا ما أوصى به سبحانه كل من ذكر اسمه في الآية.
    وعلى ذلك فلا تدل الآية على أنّ شريعة الاِسلام جامعة للشرائع السابقة وتسقط دلالتها على كون أصحاب الشرائع خمسة ، زعماً بأنّها في مقام الامتنان لما عرفت من أنّها ليست إلاّ بصدد الحث على الاَخذ بالدين بمجموعه ، وان هذا هو حكم اللّه سبحانه في جميع الاَجيال والاَزمنة ، لا بصدد الامتنان على الاَُمّة الاِسلامية بأنّ دينهم جامع لما شرع للاَُمم السابقة ، حتى يستدل بالاكتفاء بذكر
    1 ـ الشورى : 13.

(355)
الاَربعة والسكوت عن غيرهم ، على عدمها ، نعم لا تخلو الآية من إشعار بانحصارها في الخمسة ، كما لا يخفى.
    نعم يوَيد انحصار الشرائع في الخمسة المذكورة ما أُثر عن أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) انّه قال : « إنّما سمّي أُولو العزم ، أُولي العزم ، لاَنّهم كانوا أصحاب العزائم والشرائع ، وذلك إنّ كل نبي بعد نوح كان على شريعته ومنهاجه ، وتابعاً لكتابه إلى زمن إبراهيم الخليل ، وكل نبي كان في أيام إبراهيم وبعده ، كان على شريعة إبراهيم ومنهاجه ، وتابعاً لكتابه إلى زمن موسى ، وكل نبي كان في زمن موسى وبعده ، كان على شريعة موسى ومنهاجه وتابعاً لكتابه ، إلى أيام عيسى ، وكل نبي كان في أيام عيسى وبعده ، كان على منهاج عيسى وشريعته وتابعاً لكتابه إلى زمن نبينا محمد ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) ، فهوَلاء الخمسة أُولو العزم ، وهم أفضل الاَنبياء والرسل وشريعة محمد صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم لا تُنسخ إلى يوم القيامة ولا نبي بعده إلى يوم القيامة ، فمن ادّعى بعده نبوة أو أتى بعد القرآن بكتاب ، فدمه مباح لكل من سمع ذلك منه ». (1)
    وفي الرواية جهات من البحث يجب تنقيحها في محل آخر ، وملخصها :
    1. انّ تفسير « أُولي العزم » بما ذكر فيها ، لا يلائم ظاهر الكتاب ، أعني قوله سبحانه : ( فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ) (2) إذ الظاهر أنّ المقصود من العزم فيه هو الثبات على العهد المأخوذ منهم ، بقوله سبحانه : ( وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً ) (3) ، وقد أمر سبحانه نبيه الاَعظم بالصبر والثبات اقتداء بمن سبق من أُولي العزم من الرسل ، حيث قال سبحانه : ( فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ
    1 ـ بحار الاَنوار : 11/35 ، عيون الاَخبار : 234.
    2 ـ الاَحقاف : 35.
    3 ـ الاَحزاب : 7.


(356)
الرُّسُلِ ). (1)
    وبما أنّ آدم ( عليه السلام ) لم يعهد منه العزم في بعض المواقف ، ونسى العهد المأخوذ منه ، لم يعد من أُولي العزم ، قال سبحانه : ( وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْلَهُ عَزْماً ). (2)
    2. انّ موسى ( عليه السلام ) وان دعا فرعون وكل قبطي إلى توحيده سبحانه ، غير انّ ما جاء به من الشريعة والاَحكام كانت مختصة ببني إسرائيل فقط ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( إِنّا أَنْزَلْنَا التَّوراةَ فِيها هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا ) (3) ولكن المستفاد من الرواية خلافه ، وان شريعته كانت عامة لهم ولغيرهم.
    3. انّ المراد من العزائم ما يقابل الرخص ، والمراد منها هو الواجبات والمحرمات ، فإذا كان الملاك لكونهم من أُولي العزم هو كونهم أصحاب فرائض وذوي واجبات ومحرمات أُوحيت إليهم ، فلماذا لم يكن غيرهم كصالح وهود وشعيب ممن أتوا بواجبات ومحرّمات ، منهم أيضاً مع كونهم مثلهم.
    وروى صاحب المحاسن عن سماعة قال : قلت لاَبي عبد اللّه الصادق ( عليه السلام ) : قول اللّه : ( فاصبر كما صبر أُولوا العزم من الرسل ) فقال : « نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) » قلت : كيف صاروا أُولي العزم؟ قال : « لاَنّ نوحاً بعث بكتاب وشريعة ، فكل من جاء بعد نوح ، أخذ بكتاب نوح وشريعته ومنهاجه ، حتى جاء إبراهيم بالصحف ، وبعزيمة ترك كتاب نوح لا كفراً به ، فكل نبي جاء بعد إبراهيم ، جاء بشريعته ومنهاجه وبالصحف ، حتى جاء موسى بالتوراة وبعزيمة ترك الصحف ، فكل نبي جاء بعد موسى أخذ بالتوراة وشريعته ومنهاجه ، حتى جاء المسيح بالاِنجيل ، وبعزيمة
    1 ـ الاَحقاف : 35.
    2 ـ طه : 115.
    3 ـ المائدة : 44.


(357)
ترك شريعة موسى ومنهاجه ، فكل نبي جاء بعد المسيح أخذ بشريعته ومنهاجه ، حتى جاء محمد ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) بالقرآن وشريعته ومنهاجه ، فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، فهوَلاء أُولو العزم من الرسل ». (1)
    وعلى ذلك جرى شيخنا الصدوق في « الاعتقادات » وقال :
    « إنّ سادة الاَنبياء خمسة ، الذين دارت عليهم الرحى ، وهم أصحاب الشرائع وهم أُولو العزم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ». (2)
    * ركام من الاَوهام والاَكاذيب
    قد عرفت هذه الفروق المذكورة في كتب التفسير والمعاجم واتضح لك أنّه لا يوافقها الذكر الحكيم ، والذي يحصل من الجميع أنّ الرسول أخص من النبي وهم أعم منه ، ولكن هناك من الضالين من حرّف الكلم عن مواضعه (3) فصوّر
    1 ـ المحاسن : 269 ، بحار الاَنوار : 11/56.
    لو كان الملاك بعدهم من أُولي العزم ، هو ترك كل واحد كتاب من قبله بعزيمة ، يلزم أن لا يكون نوح منهم إذ لم يكن شريعة ولا كتاب قبله ، حتى يتركها بعزيمة.
    أضف إلى ذلك أنّ المسيح لم يترك شريعة موسى ، بل بيّ ـ ن لبني إسرائيل بعض الذي اختلفوا فيه ( الزخرف : 63 ) وأحلّ لهم بعض الذي حرم عليهم ( آل عمران : 50 ) وليس ذلك تركاً للشريعة ورفضاً لها ، كما هو ظاهر الرواية ، ولاَجل هذه الجهات تحتاج هذه الرواية وما تقدم عليها ، إلى البحث والاِمعان أكثر من هذا ، وقد أوضحنا الحال في الجزء الثالث من هذه السلسلة. لاحظ : 107 ـ 115.
    2 ـ اعتقادات الصدوق : 92.
    3 ـ ثاني الفروق وثالثها.


(358)
المعنى بصورة شوهاء ، وشتان بين كاتب يكتب بدافع الاِيمان والعقيدة طلباً للحقيقة ، وكاتب مستأجر لا هدف له إلاّ دعم ما نوى واضمر ، وتحكيم ما أُستوجر عليه ، وذلك يفرض عليه اختلاق الاَوهام ونحت الاَكاذيب التي يتحير عندها العقل والفكر.
    نعم حرّف هوَلاء (1) ما أُثر عن القوم في المقام فقالوا : النبي هو الذي ينبىَ عن اللّه وليس معه كتاب ، والرسول هو الذي بُعث إلى الناس وأُنزل معه كتاب ، أو أنّ النبي هو الذي يقرّر الشريعة السابقة فقط ، والرسول هو الذي يأتي بشريعة مستقلة (2) ، وعلى هذا تصير النسبة بين المفهومين ، هي التباين ، يفختص النبي بمن ليس له كتاب أو من يقرر شريعة من قبله.
    ومن الواضح أنّ هذا القول باطل تماماً ، فهذا هو الذكر الحكيم قد خاطب نبي الاِسلام المبعوث بأفصح الكتب وأحكمها وقد تضمن شريعة مستقلة عن غيرها من الشرائع ، بقوله : ( يا أيّها النبي ) فهل يمكن لهوَلاء الكتّاب المستأجرين أن ينكروا نزول الكتاب إليه أو مجيئه بشريعة مستقلة. فدونك نص ما خاطبه سبحانه بلفظ ( يا أيّها النبي ) :
    1 ـ البهائية الضالة.
    2 ـ الفرائد : 135 ، نعم نقل هذا الفرق الجزائري في فروقه : 106 قولاً ولا يعبأ بهذا النقل تجاه تلكم التصاريح المضادة له ، وأضعف منه ، ما نقله في تفسير الجلالين في تفسير قوله تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ) من أنّ الرسول هو من أُمر بالتبليغ ، ولا يخفى شذوذ هذا القول ، كسابقه ، ومضادتهما مع تصاريح أئمّة الاَدب والتفسير.
    ومما يثير العجب ما ذكره الطنطاوي بقوله : الرسول هو الذي معه كتاب ، والنبي ينبىَ عن اللّه وليس معه كتاب ، فمثال الاَوّل موسى ، والثاني يوشع ، فيوشع نبي لا رسول وانّما ينبىَ قومه وموسى ينبىَ قومه بكتاب معه أُرسل به من اللّه ... الجواهر : 10/40 ، إذ فيه مع ضعف القول في نفسه أنّ ليوشع كتاباً معروفاً طبع مع كتب العهدين.


(359)
    1. ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْلاََزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها ... ). (1)
    2. ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لاََزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُوَْمِنينَ ... ). (2)
    3. ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ... ). (3)
    وهكذا ... فعلم مما أوردناه من الآيات أنّ النبوة غير مقيدة بتقرير الشريعة ولا النبي منحصر في كونه غير ذي كتاب.
    والغاية من هذا التحريف للقائل هو نفي دلالة قوله سبحانه : ( وَلَكِن رسُولَ اللّهِ وخاتَمَ النبيّين ) (4) على ختم الرسالة والنبوة معاً ، مدعياً أنّه إنّما ختمت الثانية ، دون الاَُولى وإنّ كونه ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) خاتم النبيين ، لا يلازم كونه خاتم الرسل.
    وقد عرفت أنّ كلا الفريقين لا يعاضدهما القرآن ، فكيف وقد حرفا وخصص النبي بمن يقرر الشريعة ، أو لا يأتي بكتاب ، إذ أنّه باطل بنص الكتاب العزيز ، فقد استعمل النبي في أصحاب الشرائع والكتب وبذلك يظهر سقوط ما نقله الطبرسي عن الجاحظ ، انّه قال : إنّ النبي يحفظ شريعة غيره والرسول هو المبتدىَ بوضع الشرائع والاَحكام. (5)

الفرق الرابع (6)
    إنّ العلوم والحقائق التي تفاض على الاِنسان بواسطة الملك بحيث يعاينه
    1 ـ الاَحزاب : 28.
    2 ـ الاَحزاب : 59.
    3 ـ الاَحزاب : 45.
    4 ـ الاَحزاب : 40.
    5 ـ مجمع البيان : 7/91.
    6 ـ وهذا الفرق يخصص الرسالة بمعاينة الملك وأخذ الوحي منه مشافهة. وأمّا النبي فهو مقيد بأخذ الوحي بلا توسيط ملك ، بل بإحدى الطرق المألوفة من الروَية في المنام وغيره كما سيصرح ، فبينهما تباين في النسبة.


(360)
ويشاهده ويكلّمه مشافهة أو يلقى في روعه تسمّى رسالة ، والاِنسان الحامل لها رسولاً وباعتبار إنّ مثل هذا الاِنسان يتلقّى رسالة اللّه بواسطة رسل السماء ، حيث أدّوا إليه رسالة ربهم ، يسمّى رسولاً ، أي ذا رسالة.
    وأمّا ما يفاض من العلوم بغير هذا الطريق فيسمّى نبوة ، والاِنسان العالم عن هذا الطريق نبياً ، سواء كان بالاِلهام مثل ما أوحى اللّه إلى نبينا ليلة المعراج وما أوحي إلى موسى في طور سيناء ، أو بسماع صوت بلا روَية شخص أو غير ذلك.
    وعلى ذلك فالنبوة والرسالة مرتبتان للنفس في أخذ المعارف والحقائق من العلوم العلوية ، إحداهما مشروطة بحضور الملك ومعاينته ومشافهته للرسول ، والاَُخرى مقيدة بأخذها من دون توسيط ملك بل بطرق أُخرى.
    وهذا الوجه هو مختار بعض الاَجلّة (1) ولم أجد هذا الفرق برمته في كلام من تقدم عليه ، وما أُثر من النقول في المقام يوافقه في بعض ما ذكره لا كله ، بل بعضها يشير إلى خامس الفروق الذي سيوافيك بيانه ، وحاصله تخصيص النبوة بالروَية في المنام.
    ودونك بعض كلماتهم :
    1. انّ الرسول هو الذي يرى الملك ويسمع منه ، والنبي يرى في المنام ولا يعاين. (2)
    وهذه العبارة توافق المذكور في ناحية الرسول فقط ، لا في جانب النبي ولا صراحة لها في ما ادّعاه القائل من التعميم في النبي ، أعني : من يأخذ الوحي بغير توسيط ملك سواء أكان بالروَية في المنام أم بغيرها ، بل هي تحتمل هذا الوجه من
    1 ـ العلاّمة الشيخ محمد باقر الملكي دام ظله.
    2 ـ الميزان : 15/222.
مفاهيم القرآن ـ جلد الرابع ::: فهرس