مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: 31 ـ 40
(31)
    والعجب أنَّ علاّمة مصر الشيخ محمد عبده شيخ الأزهر الّذي كان يرتجى منه الحفاظ على المفاهيم الأصيلة ، تورّط في هذا المأزق ، ففسر الملائكة وإبليس تفسيراً ماديّاً بعيداً عن ساحته. (1)
    كما أنّ موقفه في تفسير السحر كذلك أيضاً ، حيث يفسر قوله سبحانه : ( مِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ ) (2) بالنّمامين المقطعين لروابط الإلفة ، المحرقين لها بما يلقون عليها من ضرام نمائمهم. (3)
    وقد تأثر بهذا المنهج تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا ، فعاد ينكر أن يكون للنبي معجزة غير القرآن الكريم ، ويقول في جواب المحتجين بانشقاق القمر : قد بيّنّا أنّ ما تدلّ عليه الآيات القرآنية المؤيدة بحديث الصحيحين الصريح في حصر معجزة نبوّته في القرآن ، هوالحق الّذي لا ينهض لمعارضته شيء. (4)
    فإذا كان شيخ الأزهر ( عبده ) وتلميذه سائرين على هذا النمط من التأويل ، فما الظن بغيرهما من البسطاء؟!!
إذا كان ربُّ البيت بالدف مولعاً فشيمة أهل البيت كلُّهم الطرب
    ولقد كان المفسّر المعاصر سيد قطب يميل إلى هذا النوع من التأويل ، ولكنّه عندما وصل إلى تفسير سورة الجن تنبّه إلى أنّ في هذا اللون من التأويل ضرراً وبيلاً وقال : الجزم بنفي وجود الجن ، ومعلومات البشر عن هذا الكون وقواه وسكانه من الضآلة بحيث لا تسمع بإنسان يحترم عقله أن يجزم بشيء.
    1 ـ لاحظ المنار : 1 / 267.
    2 ـ الفلق : 4.
    3 ـ تفسير جزء عم : 180.
    4 ـ تفسير المنار : 11 / 333 ; الوحي المحمدي : 69.


(32)
    إنّ طريقنا هو إبطال الخرافات والأساطير كما صنع القرآن الكريم ، لا التبجح بنفي وجود هذا الخلق من الأساس بلاحجة ولا دليل. (1)
    وهذه المناهج المنحرفة ممّا لا يوافق عليها العقل ولا الكتاب العزيز ولا السنّة النبوية ولا أحاديث العترة الطاهرة ، فلا مناص من الحفاظ على المعارف الغيبية والتعمّق فيها ، مجانباً الجمود على الظواهر ، والتأويل بلا دليل وحجة ، وهذا هو الّذي سلكناه في فهم كتاب الله واستخراج معارفه ، أرجو منه سبحانه أن يجعله ضياءً ونوراً يسعى بين أيدينا في يوم القيامة إنّه بذلك قدير وبالإجابة جدير.
جعفر السبحاني
قم المقدّسة
15 شوال المكرم 1407 هـ

    1 ـ في ظلال القرآن الكريم : 29 / 140.

(33)
1
عصمة الأنبياء ( عليهم السلام )
في القرآن الكريم


(34)
في هذا الفصل
    1 ـ مبدأ ظهور فكرة العصمة في الأُمّة الإسلامية.
    2 ـ ما هي حقيقة العصمة ؟
    3 ـ العصمة هي الدرجة القصوى من التقوى.
    4 ـ العصمة نتيجة العلم القطعي بعواقب المعاصي.
    5 ـ العصمة الاستشعار بعظمة الرب وكماله.
    6 ـ هل العصمة موهبة إلهية أو أمر اكتسابي؟
    7 ـ هل العصمة تسلب الاختيار؟
    8 ـ مراحل العصمة الثلاث.
    9 ـ الآيات الدالة على عصمة الأنبياء في أمر الرسالة.
    10 ـ الآيات الدالة على مصونية الأنبياء عن المعصية.
    11 ـ حجة المخالفين للعصمة.
    12 ـ ما يستدل به من الآيات على عدم عصمتهم في مورد مطلق الأنبياء.
    13 ـ ما يستدل به من الآيات الّتي تمس عصمة عدة خاصة من الأنبياء.
    14 ـ عصمة النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وما تمسّكت به المخطّئة.
    15 ـ عصمة النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الخطأ والسهو.
    16 ـ دين النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قبل البعثة ، والآيات الخمس الّتي تمسّكت بها المخطّئة في ذلك المجال.


(35)
عصمة الأنبياء في القرآن الكريم
    قد استعملت لفظة « العصمة » في القرآن الكريم بصورها المختلفة ثلاث عشرة مرة ، وليس لها إلاّ معنى واحد وهو الإمساك والمنع ، ولو استعملت في موارد مختلفة فإنّما هو بملاحظة هذا المعنى.
    قال ابن فارس : « عصم » أصل واحد صحيح يدل على إمساك ومنع وملازمة ، والمعنى في ذلك كله معنى واحد ، من ذلك : « العصمة » أن يعصم اللّه تعالى عبده من سوء يقع فيه ، « واعتصم العبد باللّه تعالى » : اذا امتنع ، و « استعصم » : التجأ ، وتقول العرب : « أعصمت فلاناً » أي هيّأت له شيئاً يعتصم بما نالته يده. أي يلتجئ ويتمسك به. (1)
    إنّ اللّه سبحانه يأمر المؤمنين بالاعتصام بحبل اللّه بقوله : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ). (2)
    والمراد التمسك والأخذ به بشدة وقوة وينقل سبحانه عن امرأة العزيز قولها : ( وَلَقَدْ رَاودتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ). (3)
    وقد استعملت تلك اللفظة في الآية الأُولى في الإمساك والتحفّظ ، وفي الآية
    1 ـ المقاييس : 4/331.
    2 ـ آل عمران : 103.
    3 ـ يوسف : 32.


(36)
الثانية في المنع والامتناع ، والكل يرجع إلى معنى واحد.
    ولأجل ذلك نرى العرب يسمّون الحبل الذي تشد به الرحال : « العصام » ، لأنّه يمنعها من السقوط والتفرّّق.
    قال المفيد : إنّ العصمة في أصل اللغة هي ما اعتصم به الإنسان من الشيء كأنّه امتنع به عن الوقوع في ما يكره ، ومنه قولهم : اعتصم به الإنسان من الشيء كأنّه امتنع به عن الوقوع في ما يكره. ومنه قولهم : « اعتصم فلان بالجبل » إذا امتنع به ، ومنه سميت العصم وهي وعول الجبال لامتناعها بها.
    والعصمة من اللّه هي التوفيق الذي يسلم به الإنسان في ما يكره إذا أتى بالطاعة ، وذلك مثل إعطائنا رجلاً غريقاً حبلاً ليتشبث به فيسلم ، فهو إذا أمسكه واعتصم به ، سمّي ذلك الشيء عصمة له ، لما تشبّث به فسلم به من الغرق ، ولو لم يعتصم به لم يسم عصمة. (1)
    وعلى كل تقدير فالمراد من العصمة صيانة الإنسان من الخطأ والعصيان ، بل الصيانة في الفكر والعزم ، فالمعصوم المطلق من لا يخطأ في حياته ، ولا يعصي اللّه في عمره ولا يريد العصيان ولا يفكر فيه.

مبدأ ظهور فكرة العصمة في الأُمّة الإسلامية
    إنّ الكتب الكلامية ـ قديمها وحديثها ـ مليئة بالبحث عن العصمة ، وإنّما الكلام في مبدأ ظهور تلك الفكرة بين المسلمين ، وانّه من أين نشأ هذا البحث وكيف التفت علماء الكلام إلى هذا الأصل؟
    لا شك انّ علماء اليهود ليسوا بالمبدعين لهذه الفكرة ، لأنّهم ينسبون إلى
    1 ـ أوائل المقالات : 11.

(37)
أنبيائهم معاصي كثيرة ، والعهد القديم يذكر ذنوب الأنبياء التي يصل بعضها إلى حد الكبائر ، وربّما يخجل القلم عن ذكر بعضها استحياء ، فالأنبياء عندهم عصاة خاطئون ، وعند ذلك لا تكون أحبار اليهود مبدعين لهذه المسألة.
    نعم انّ علماء النصارى ، وإن كانوا ينزهون المسيح من كل عيب وشين ، ولكن تنزيههم ليس بملاك انّ المسيح بشر أرسل لتعليم الإنسان وإنقاذه ، بل هو عندهم « الإله المتجسد » أو هو ثالث ثلاثة.
    وعند ذلك لا يمكن أن يكون علماؤهم مبدعين لهذه المسألة في الأبحاث الكلامية ، لأنّ موضوع العصمة هو « الإنسان ».
    ويذكر « المستشرق رونالدسن » في كتابه « عقيدة الشيعة » انّ فكرة عصمة الأنبياء في الإسلام مدينة في أصلها وأهميتها التي بلغتها بعدئذ ، إلى تطور « علم الكلام » عند الشيعة وأنّهم أوّل من تطرق إلى بحث هذه العقيدة ووصف بها أئمتهم ، ويحتمل أن تكون هذه الفكرة قد ظهرت في عصر الصادق ، بينما لم يرد ذكر العصمة عند أهل السنة إلاّ في القرن الثالث للهجرة بعد أن كان الكليني قد صنّف كتابه « الكافي في أُصول الدين » (1) وأسهب في موضوع العصمة.
    ويعلّل « رونالدسن » بأنّ الشيعة لكي يثبتوا دعوى الأئمّة تجاه الخلفاء السنيّين أظهروا عقيدة عصمة الرسل بوصفهم أئمّة أو هداة. (2)
    1 ـ لقد توفي محمد بن يعقوب الكليني في العقد الثالث من القرن الرابع أي عام 328 هـ ، فلو استفحلت مسألة العصمة في القرن الثالث عند أهل السنّة حسب اعتراف الرجل ، فكيف يكون كتاب الكافي منشئاً لهذه الحركة الفكرية ، أفهل يمكن تأثير المتأخر في المتقدم ، وهل يكون العائش في القرن الرابع مؤثراً في فكر من يعيش في القرن الثالث ، أضف إليه أنّ كتاب الكافي لم يؤلف في الأُصول وحدها ، بل هو كتاب مشتمل على أحاديث تربو على ستة عشر ألف حديث حول أُصول الدين وفروعه.
    2 ـ عقيدة الشيعة : 328.


(38)
    إنّ هذا التحليل لا يبتنى على أساس رصين وإنّما هو من الأوهام والأساطير التي اخترعتها نفسية الرجل وعداؤه للإسلام والمسلمين أوّلاً ، والشيعة وأئمّتهم ثانياً ، وسيوافيك بيان منشأ ظهور تلك الفكرة.

القرآن يطرح مسألة العصمة
    إنّ العصمة بمعنى المصونية عن الخطأ والعصيان مع قطع النظر عمن يتصف بها ، قد ورد في القرآن الكريم ، فقد جاء وصف الملائكة الموكلين على الجحيم بهذا الوصف إذ يقول : ( عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ). (1)
    ولا يجد الإنسان كلمة أوضح من قوله سبحانه : ( لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) في تحديد حقيقة العصمة ، وواقعها ، والفات الإنسان المتدبر في القرآن إلى هذه الفكرة ، وذاك الأصل.
    إنّ اللّه سبحانه يصف الذكر الحكيم بقوله : ( لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيم حَمِيد ). (2)
    كما يصفه أيضاً بقوله : ( إِنَّ هذَا الْقُرآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنينَ ). (3)
    فهذه الأوصاف تنص على مصونية القرآن من كل خطاء وضلال.
    وعلى ذلك فالعصمة بمفهومها الوسيع ، مع قطع النظر عن موصوفها ، قد طرحها القرآن وألفت نظر المسلمين إليها ، من دون أن يحتاج علماؤهم إلى أخذ
    1 ـ التحريم : 6.
    2 ـ فصلت : 42.
    3 ـ الإسراء : 9.


(39)
هذه الفكرة من الأحبار والرهبان.
    نعم انّ الموصوف في هذه الآيات وان كانت هي الملائكة أو القرآن الكريم والمطروح عند علماء الكلام هو عصمة الأنبياء والأئمّة ، لكن الاختلاف في الموصوف لا يضر بكون القرآن مبدعاً لهذه الفكرة ، لأنّ المطلوب هو الوقوف على منشأ تكوّن هذه الفكرة ، ثم تطورها عند المتكلّمين ، ويكفي في ذلك كون القرآن قد طرح هذه المسألة في حق الملائكة والقرآن.

عصمة النبي في القرآن الكريم
    إنّ العصمة ذات مراحل أربع ، وقد تكفل القرآن ببيان تلك المراحل في مورد الأنبياء عامة ، ومورد النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خاصة ، وسيوافيك بيان تلك المراحل ودلائلها القرآنية.
    فإذا كان القرآن هو أوّل من طرح هذه المسألة بمراحلها ودلائلها ، فكيف يصح أن ينسب إلى الشيعة ويتصور أنّهم الأصل في طرح هذه المسألة؟!
    وإن كنت في ريب مما ذكرناه ـ هنا ـ فلاحظ قوله سبحانه في حق النبي الأكرم حيث يصف منطقه الشريف بقوله : ( وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّوَحْيٌ يُوحى ). (1)
    فترى الآيتين تشيران ـ بوضوح ـ إلى أنّ النبي لا ينطق عن ميول نفسانية وانّ ما ينطق به ، وحي أُلقي في روعه وأُوحي إلى قلبه ، ومن لا يتكلم عن الميول النفسانية ، ويعتمد في منطقه على الوحي يكون مصوناً من الزلل في المرحلتين : مرحلة الأخذ والتلقّي ومرحلة التبليغ والتبيين.
    على أنّ الآيات القرآنية تصف فؤاده وعينه بأنّهما لا يكذبان ولا يزيغان ولا
    1 ـ النجم : 3 ـ 4.

(40)
يطغيان ، إذ قال سبحانه : ( ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأَى * ... ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى ). (1)
    أفيصح بعد هذه الآيات القرآنية تصديق ما ذكره هذا المستشرق اليهودي أو ذاك المستشرق النصراني فيما زعما في كون الشيعة مبدأ لطرح العصمة على بساط البحث ، وانّه وليد تكامل علم الكلام عند الشيعة في عصر الإمام الصادق ( عليه السلام ) مع أنّا نرى أنّ للمسألة جذوراً قرآنية ولا عتب على الشيعة أن يقتفوا أثر كتاب اللّه سبحانه ، ويصفوا أنبياءه ورسله بما وصفهم به صاحب العزة في كتابه.

نظرية أحمد أمين حول كلام الشيعة
    إنّ بعض المصريين كأحمد أمين ومن حذا حذوه يصرّون على أنّ الشيعة أخذت منهجها الفكري في العدل والعصمة وغيرهما من الأفكار ، من المعتزلة حيث قالوا : إنّ الشيعة يقولون في كثير من مسائل أُصول الدين بقول المعتزلة ، فقد قال الشيعة كما قال المعتزلة بأنّ صفات اللّه عين ذاته ، وبأنّ القرآن مخلوق وبإنكار الكلام النفسي ، وإنكار رؤية اللّه بالبصر في الدنيا والآخرة ، كما وافق الشيعة المعتزلة في القول بالحسن والقبح العقليين ، وبقدرة العبد واختياره وانّه تعالى لا يصدر عنه قبيح وانّ أفعاله معللة بالأغراض.
    وقد قرأت كتاب الياقوت لأبي إسحاق إبراهيم من قدماء متكلمي الشيعة الإمامية (2) فكنت كأني أقرأ كتاباً من كتب أُصول المعتزلة إلاّ في مسائل معدودة ، كالفصل الأخير في الإمامة وإمامة علي وإمامة الأحد عشر بعده ، ولكن أيّهما أخذ من الآخر ؟!
    1 ـ النجم : 11 ـ 17.
    2 ـ قال أحمد أمين تعليقاً على هذه الجملة : وهو مخطوط نادر تفضل صديقي الأُستاذ أبو عبد اللّه الزنجاني فأهدانيه. أقول : إنّ هذا الكتاب طبع أخيراً في إيران مع شرح العلامة الحلّي.
مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: فهرس