مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: 21 ـ 30
(21)
من الاعتزال وصار من شيعة منهج أحمد بن حنبل ، وأنّ مذهبه لا يفترق عنه قيد شعرة ، فقام بتعديله وإصلاحه بشكل خاص خال عمّا يناقض عقول الناس ، إلاّ فيما شذ وندر. وليس مذهب الأشعري إلاّ صورة معدلة من مذهب الحنابلة وأهل الحديث ، كما سيوافيك ، فصار القول بالتشبيه والتجسيم الصريح متروكاً بعده إلى قرون.
    ولكن العجب أنّ هذه البدع بعد إخمادها ، أخذت تنتعش في أوائل القرن الثامن بيد أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحرّاني ( المتوفّى عام 728 هـ ) ، فجدّد ما اندرس من آثار تلك الطائفة المشبهة ، وقد وصفه السبكي في السيف الصقيل : « بأنّه رجل جسور يقول بقيام الحوادث بذات الرب » ، ولكنه يقول بأنكر من ذلك ، وقد أتى بنفس ما ذكره الدارمي المجسّم في كتابه « غوث العباد » المطبوع بمصر عام 1351 هـ في مطبعة الحلبي.
    وعلى ذلك فابن تيمية إذن إمام المدافعين عن بيضة أهل التشبيه ، وشيخ أهل التجسيم ممن سبقه من الكرامية وجهلة المحدّثين ، الذين اهتموا بالحفظ المجرّد ، وغفلوا عن الفهم والتفكير ، ولأجل ذلك نرى أنّ الشيخ الحراني يرمي المفكرين من المسلمين كإمام الحرمين ، والغزالي ، في كتابيه « منهاج السنّة والموافقة المطبوع على هامش الأوّل » بأنّهما أشدّ كفراً من اليهود والنصارى. مع أنّه ( أي ابن تيمية ) يعتنق عقائد يخالف جمهرة المسلمين وأئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ).

2. معطّلة السلفية
    وهذه الزمرة من السلفية وإن كانت بريئة ممّا ذهبت إليه المجسّمة فهم لا يقتفون أثر الظواهر ، بل يصرفونها عمّا يتبادر منها في بادئ النظر ، إلاّ أنّهم


(22)
لا يخوضون في المراد منها حذراً ممّا يسمى بـ « وصمة التأويل ».
    فعقيدة هؤلاء في الصفات الخبرية أنّ لله سبحانه يداً وعيناً واستواءً على العرش ، لكن لا نعلم كنهها ، وفي مقدم هؤلاء مالك بن أنس ، وقد سئل عن معنى قوله سبحانه : ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) أنّه كيف استوى؟ فقال في جواب السائل : ما أظنّك إلاّ صاحب بدعة ، فالاستواء مذكور ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب. وفي رواية : والكيف غير معقول.
    فلو صحت نسبة هذا الكلام إلى إمام المالكية ، فهو بلا شك من المعطّلة ، خصوصاً إذا كانت الرواية على قوله : « الكيف مجهول » ، فهو يعتقد أنّ لله سبحانه جلوساً على العرش ، لكن مجهولاً كنهه أو محالاً دركه ، فيجب الإيمان به لا السؤال عن حقيقته ، فيتوجه السؤال إلى إمام المذهب المالكي أنّه لماذا هجم على السائل بقوله ما أظنّك إلاّ صاحب بدعة؟! مع أنّ وظيفة العالم إرشاد الجاهل لا الهجوم عليه بكلمة لاذعة ، كما أنّه يتوجه إليه أنّ الآية ونظائرها تصبح عند ذاك من الألغاز الّتي لا يفهم معناها ، بل يجب الإيمان بها ، ومع ذلك كلّه فقد راج هذا المذهب بعد ما رجع الإمام الأشعري من مذهب الاعتزال إلى مذهب المحدّثين ، وفي مقدمهم أحمد بن حنبل ، يقول ابن خلكان : كان أبوالحسن الأشعري أوّلاً معتزلياً ، ثم تاب من القول بالعدل ، وخلق القرآن في المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة ورقى كرسياً ونادى بأعلى صوته : من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أُعرفه بنفسي ، أنا فلان بن فلان كنت أقول بخلق القرآن ، وإنّ الله لا تراه الأبصار ، وإنَّ أفعال الشر أنا أفعلها وأنا تائب مقلع ، معتقد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم ومعايبهم. (1)
    1 ـ وفيات الأعيان : 3 / 285.

(23)
    فغاية ما عند الإمام الأشعري وأتباعه أنَّ لله سبحانه صفات خبرية مثل اليدين ، والوجه ، ولكن لا نعرف كنه اللفظ الوارد فيه ، ولسنا مكلّفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها ، بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنّه لا شريك له وليس كمثله شيء ، وذلك قد أثبتناه يقيناً. (1)
    وهذه الطائفة قد خرجت من مغبة التشبيه والتجسيم ، غير أنّهم تورّطوا في أشراك التعطيل وحبائله ، فعطّلوا العقول عن التفكّر في المعارف والأُصول كما عطّلوها عن التدبّر في الآيات والأحاديث ، فكأنّ القرآن ألغاز نزلت إلى البشر ، وليس كتاباً للتعليم والإرشاد ، قال تعالى : ( ونَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيءْ ) (2) ، فإذا كان القرآن مبيّناً لكل شيء فكيف لا يكون مبيّناً لنفسه؟! وكيف يكون المطلوب منه نفس الاعتقاد من دون فهم معناه؟ وفي الختام نشير إلى عدّة أُمور :
    1 ـ انّ القوم يطلقون عنوان « المعطّلة » على القائلين بوحدة الذات والصفات بمعنى أنّ صفاته سبحانه عين ذاته لا شيء زائد عليه ، وأنّ الذات كلّها علم وكلّها قدرة ، وكلّها حياة ، وليست هذه الصفات أُموراً زائدة على نفس الذات.
    والقوم لما لم يصلوا إلى مغزى تلك العقيدة رموا القائلين بها بالتعطيل ، أي تعطيل الذات عن الاتصاف بالصفات ، وهم برآء عن هذه التهمة ، إذ لم يعطّلوها عن الاتصاف بها ، بل نزّهوا الذات عن الاتصاف بالصفات الزائدة ، فكم فرق بين تعطيل الذات عن الصفات ، وبين تنزيهه عن الصفات الزائدة؟ فتوصيفهم بالتعطيل ظلم واضح ، بل المعطّلة حقيقة هم الذين عطّلوا العقول عن البحث
    1 ـ الملل والنحل للشهرستاني : 1 / 92.
    2 ـ النحل : 89.


(24)
حول المعارف واكتفوا بالإيمان المجرّد الخالي عن التعمّق والتفهم.
    2 ـ انّ معطّلة السلف كانوا يحرمون النظر في المعارف بحجة أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : عليكم بدين العجائز ، فإنّه الفائز. غير أنّ هذا النص لم يوجد في صحاح القوم ، ولا في مسانيدهم ، بل الصحيح ما روي أنّ « عمرو بن عبيد » لمّا أثبت منزلة بين الكفر والإيمان ، فقالت عجوزة : قال الله تعالى : ( هُوَ الذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ) فلم يجعل الله من عباده إلاّ الكافر والمؤمن. فقال سفيان : عليكم بدين العجائز.
    وأقصى ما يمكن أن يقال : إنَّ الرواية صدرت من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عندما استدلت العجوز على وجود الصانع بحركة دولابها ، وكف اليد عن تحريكها ، على ما هو معروف ، فاستدلت بحركة الأجرام السماوية على أنّ لها محركاً كما أنّ لحركة دولابها محركاً ، وأين هذا من تعطيل العقول عن المعارف؟!
    3 ـ ثم إنّ تعطيل العقول عن البحث والمعرفة أخذ في هذه الأعصار صبغة علمية مادية بحتة بحجة أنّ مبادئها ومقدماتها ليست في متناول الباحثين ، لأنّها موضوعات وراء الحس والطبيعة ولا تعمل فيها حواس الإنسان ، فهذا هو السيد الندوي يتمسّك بهذا الوجه ويعدّ ترك البحث فضيلة ، والبحث عن المعارف القرآنية كفراناً للنعمة.
    يقول : وقد كان الأنبياء ( عليهم السلام ) أخبروا الناس عن ذات الله وصفاته وأفعاله ، وعن بداية هذا العالم ومصيره ، وما يهجم عليه الإنسان بعد موته ، وآتاهم علم ذلك كلّه بواسطتهم عفواً بدون تعب ، وكفوهم مؤونة البحث والفحص في علوم ليس عندهم مبادئها ولا مقدماتها الّتي يبنون عليها بحثهم ليتوصلوا إلى مجهول ، لأنّ هذه العلوم وراء الحس والطبيعة ، لا تعمل فيهما حواسّهم ، ولا يؤدي إليها


(25)
نظرهم ، وليست عندهم معلوماتها الأوّلية.
    لكن الناس لم يشكروا هذه النعمة وأعادوا الأمر جذعاً ، وأبدوا البحث أنفاً ، وبدأوا رحلتهم في مناطق مجهولة لا يجدون فيها مرشداً ولا خرّيتاً. (1)
    إنّ الكاتب حسب ما توحي عبارته متأثر بالفلسفة المادية الّتي تحصر أدوات المعرفة بالحس ، ولا يقيم وزناً للعقل الّذي هو إحدى أدواتها ، وهذا من الكاتب أمر عجيب جداً ، فإنّ الله سبحانه كما دعا إلى الانتفاع بالحس ومطالعة الطبيعة وكشف قوانينها وأنظمتها دعا إلى التعقّل والتفكّر في كل ما ورد في القرآن الكريم حيث قال : ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا ) (2).
    وليست الآية ناظرة إلى التدبّر في خصوص الأنظمة السائدة على النبات والحيوان والإنسان ، بل التدبّر في مجموع ما جاء في القرآن ، فقد جاء في القرآن الكريم معارف دعي إلى التدبّر فيها ، نظير : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء ) (3). ( وَ للهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى ) (4). ( لهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ) (5). ( الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ) (6).
    ( فَأَيْنَ مَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ) (7).
    1 ـ ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين : 97.
    2 ـ محمد : 24.
    3 ـ الشورى : 11.
    4 ـ النحل : 60.
    5 ـ طه : 8.
    6 ـ الحشر : 23.
    7 ـ البقرة : 115.


(26)
    ( هُوَ الأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْبَاطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيء عَلِيمٌ ) (1).
    ( وَ إِنْ مِنْ شَيء إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَ مَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَر مَعْلُوم ) (2).
    ( وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ) (3).
    ( يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (4).
    إلى غير ذلك من المعارف العليا الواردة في القرآن الكريم ، ولا يحصل عليها الإنسان إلاّ بالتدبّر والتعقّل ، ولا تكفي في التعرّف عليها العلوم الحسّية وإن بلغت القمة.
    ثم إنّ لصدر المتألّهين كلاماً حول هذه الطائفة طوينا الحديث عن ذكره ، كما أنّ للسيد العلاّمة الطباطبائي كلاماً قيماً آخر تركنا ذكره روماً للاختصار. (5)
    4 ـ انّ العقيدة الأشعرية هي عقيدة حنبلية معدّلة ، وقد تصرّفت في جميع ما كان غير معقول في العقيدة الأُولى ، فلأجل ذلك حلّت محل ذلك المذهب بعد اضطرابات واشتباكات بين معدّل المذهب وأتباع العقائد الحنبلية.
    وقد توفق الرجل في تعديل المذهب ، وأوّلَ منه ما يناقض العقول ، ومع ذلك كلّه أبقى من المذهب الحنبلي أُموراً على وجهها ولم يقدر على تأويلها ، وهي عبارة عن : مسألة قدم القرآن أوّلاً ، ورؤية الله سبحانه ثانياً ، والقول بالقضاء والقدر على وجه يجعل الإنسان مكتوف الأيدي ، فلو أغمضنا النظر عن هذه المسائل الثلاث ،
    1 ـ الحديد : 3.
    2 ـ الحجر : 21.
    3 ـ الحديد : 4.
    4 ـ الرعد : 39.
    5 ـ لاحظ الأسفار الأربعة : 1 / 5 ; الميزان : 8 / 158.


(27)
فقد توفّق الإمام الأشعري في إصلاح العقائد الحنبلية بعد ثبوتها في نفوس الناس وانتشارها في العالم.

3. المؤوّلة
    إنّ المؤوّلة من الباطنية ليسوا بأقل خطراً من أصحاب الجمود ، فقد وضعوا لتفسير المفاهيم الإسلامية ضابطة باطلة لا يوافقها العقل ولا دلّ عليها من الشرع شيء ، قالوا :
    للقرآن ظاهر وباطن ، والمراد منه باطنه دون ظاهره المعلوم من اللغة ، ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة اللب إلى القشر ، وانّ باطنه يؤدي إلى ترك العمل بظاهره ، واستدلوا على ذلك بقوله سبحانه : ( فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُور لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ) (1). (2)
    فإذا كانت تلك الضابطة في فهم الشريعة والعمل بالقرآن صحيحة ، إذن أصبحت الشريعة غرضاً لكل نابل ، وفريسة لكل آكل ، فلا يبقى منها شيء ، وفي هذه الحالة يدّعي كل مؤوّل أنّ الحق معه ، وأنّ المراد ما اختاره من التأويل على الرغم من اختلاف تأويلاتهم ، انظر إلى ما يقولون حول المفاهيم الإسلامية وأنّهم كيف يتلاعبون بها ، فالصلاة عبارة عن الناطق الّذي هو الرسول ، لقوله سبحانه : ( إِنَّ الصَّلَوةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَ الْمُنْكَرِ ). (3)
    والغسل عبارة عن تجديد العهد ممن أفشى سراً من أسرار الباطنية من غير
    1 ـ الحديد : 13.
    2 ـ الفرق بين الفرق : 18.
    3 ـ العنكبوت : 45.


(28)
قصد ، والاحتلام عبارة عن إفشائه ، والزكاة هي تزكية النفس بمعرفة ما هم عليه من الدين ، والجنة راحة الأبدان عن التكاليف ، والنار مشقتها بمزاولة التكاليف. (1)
    فإذاكان ما ذكروه حقيقة الدين والتكاليف فلم يبق بين الديانة والإلحاد حد ولا فصل.
    هذه نماذج من تأويلات الباطنية ، وقد ظهرت بوادر هذه الفتنة ونبتت نواتها زمن المأمون العباسي إلى أن صاروا طائفة كبيرة حاقدة على الإسلام والمسلمين ، ومحاربة لهم بغير السيف والنار ، عن طريق الاحتيال الموصل لهم إلى مآربهم وأهوائهم.
    ويليهم في التخريب والإضرار التصوّف الّذي جاء به ابن العربي شيخ هذه الطريقة ، فقد قام بتأويل المفاهيم القرآنية على وجه لا دليل عليه ، فيقول : إنّ جبرائيل هو العقل الفعّال ، وميكائل هو روح الفلك السادس ، وإسرافيل هو روح الفلك الرابع ، وعزرائيل هو روح الفلك السابع. (2)
    كما يفسر قوله سبحانه : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ ) (3) بأنَّ مرج البحرين هو بحر الهيولى الجسمانية الّذي هو الملح الأُجاج ، وبحر الروح المجرّد ، وهو العذب الفرات ، يلتقيان في الموجود الإنساني ، وأنّ بين الهيولى الجسماني والروح المجرّد برزخ ، هو النفس الحيوانية الّتي ليست في صفاء الروح المجرّدة ولطافتها ولا في كثرة الأجساد الهيولانية وكثافتها.
    1 ـ المواقف : 8 / 390.
    2 ـ تفسير ابن العربي : 1 / 150.
    3 ـ الرحمن : 19 ـ 20.


(29)
    ولكن مع ذلك لا يبغيان ، أي لا يتجاوز أحدهما حدّه فيغلب على الآخر بخاصيته ، فلا الروح المجرّدة تجرّد البدن وتخرج به وتجعله من جنسه ، ولا البدن يجسّد الروح ويجعله مادياً. (1)
    تجد نظائر هذا في كتبه ، كالفتوحات المكية ، والفصوص ، فيطبّق كثيراً من الآيات القرآنية على كثير من نظرياته الصوفية ، وقد مني الإسلام بأصحاب الجمود في القرون الأُولى وحتى الآن ، كما مني بالمؤوّلة من الباطنية والمتصوّفة من أوائل القرن الثالث حتى الآن.

التأويل باسم التفسير العلمي
    غير أنّ التأويل قد اتخذ في العصر الحاضر لوناً خاصّاً واسماً فخماً ، يطلق عليه التفسير العلمي ، فالغاية عند هذه الطبقة إخضاع القرآن للمكتشفات العصرية فيما يتعلق بالأجرام السماوية والأرضية ، والحيوانات والنباتات ، والجواهر المعدنية ، وقد ظهرت هذه النزعة في أواخر القرن الثالث عشر الهجري ، وأُلّفت هناك كتب أبسطها كتاب « الجواهر في تفسير القرآن الكريم » للشيخ طنطاوي جوهري المصري.
    لكن التفسير بهذا النمط ، إنّما يستحسن إذا وافق ظاهر الآية ، غير أنَّ المؤلفين في هذا القسم لا يكتفون بذلك بل يفسرون القرآن لغاية إخضاعه للمكتشفات ، ترى أنّهم يفسرون قوله سبحانه : ( وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ) (2) بالميكروب ، وقد ناقشنا هذا اللون من التفسير في بعض مسفوراتنا.
    1 ـ تفسير ابن العربي : 2 / 280.
    2 ـ الفيل : 3.


(30)
التأويل الإلحادي
    هذا النوع من التأويل مني به الإسلام منذ زمن بعيد غير أنّه أخذ في هذه الأعصار صبغة علمية تخدع عقول الشباب ، والحافز إلى هذا النوع من التأويل هو إخضاع المفاهيم الغيبية للأُمور الحسيّة المادية ، ونأتي بنماذج من هذا النوع حتى يقف القارئ الكريم على أنّ هذا النوع من التأويل في العصر الحاضر ، والتأويل عند الباطنية في الأعصار السالفة ، وجهان لعملة واحدة.
    1 ـ انّه سبحانه عندما يعدّ معاجز عيسى وآياته يقول : ( قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَ أُبْرِءُ الأَكْمَهَ وَ الأَبْرَصَ وَ أُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَ مَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (1) فأصحاب تلك المدرسة يزعمون أنّه تمثيل لأخراج الناس من ثقل الجهل وظلماته إلى خفة العلم ونوره ، وأنّ المراد من ( الأَكْمَهَ ) من ليس عنده نظر ، كما أنّ المراد من ( الأَبْرَصَ ) المتلوّن بما يشوّه الفطرة. (2)
    فإذا كان هذا هو المقياس في تفسير القرآن الكريم فهو تفسير القرآن على عمى ، فلا تراعى فيه اللغة ، ولا قوانين الأدب ، ولاقوانين البلاغة ، ولا السنّة الصحيحة ولا ... ولا ...
    وعلى هذا الأساس عاد الكاتب ينكر أن يكون إبراهيم قد أُلقي في النار وخرج منها سالماً. (3) كما ينكر معاجز داود وسليمان ، وينكر الملائكة والجن والشيطان. (4) إلى غير ذلك من التأويلات المزيّفة الّتي تساير الروح الإلحادية.
    1 ـ آل عمران : 49.
    2 ـ الهدية والعرفان في تفسير القرآن : 45.
    3 ـ لاحظ المصدر نفسه : 7 ، 256 ، 357.
    4 ـ المصدر السابق.
مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: فهرس