ولأجل هذا الأمر وغيره عكف علماء الإسلام منذ فجر الدعوة الإسلامية على دراسة القرآن وقراءته وحفظه وتفسيره والعناية به بشتى الطرق والوجوه. وقد بلغ إقبال المسلمين والعناية بكتابهم مبلغاً لا يوجد له نظير في جميع أنحاء العالم والمجتمعات البشرية. كيف؟ وقد أسّسوا للاستضاءَة من ذلك النور ، علوماً كثيرة خدموا بها القرآن الكريم وعالجوا بها مشاكله ومبهماته ومعضلاته ، شكر الله مساعي الجميع.
منهج التفسير الموضوعي : إنّ السيرة الرائجة في تفسير القرآن الكريم هي تفسيره سورة بعد سورة ، فالمفسر الموفّق هو من يأخذ بتفسير سورة الفاتحة ثم البقرة ثم آل عمران وهكذا إلى أن ينتهي إلى آخر القرآن ، أو إلى ما تصل إليه جهوده ، وهذه سيرة رائجة في جميع القرون ، غير أنّ هناك منهجاً آخر لتفسير الذكر الحكيم لم يقع موضع العناية الكبيرة للسلف الصالح من المفسرين وهو « المنهج الموضوعي » لتفسير القرآن.
والمقصود منه جمع الآيات الواردة في كل موضوع والبحث عنها دفعة واحدة ، وهذا هو الطريق الأمثل الّذي ستحل به معضلات الآيات ، وترتفع مبهماتها ، فإنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ، وينطق بعضه ببعض ، ولا مناص للمجتمع القرآني من العناية بهذا المنهج أيضاً كما كان له العناية بالمنهج الأوّل ، فالمنهجان متواكبان في الإضاءة والتنوير ، ولكل مزيّته ومحاسنه.
ثم إنّ من الذين عانوا في سد هذا الفراغ وبذلوا جهوداً واسعة في سبيله العلاّمة الحجّة المحقّق الأخ الشيخ جعفر السبحاني أدام الله تأييده.
فقد سلك هذا الطريق وكشف حقائق قيّمة ، فشكر الله مساعيه ووفقّه
(12)
لإدامة هذا المشروع.
فقد اختار من بين الموضوعات أوّلاً ما يتصل بالله سبحانه ، وصفاته وأفعاله ، والنبوات العامة والخاصّة ، فلأجل ذلك قام بطرح مباحث التوحيد في الجزء الأوّل في اثني عشر فصلاً على وجه بديع.
ولقد أعجبني من هذه الفصول الفصل المعقود لتفسير التوحيد في العبادة ، وما يتميّز به ما يشبه العبادة عن غيره ، فقد اعتمد في هذا المبحث على ضابطة قيّمة استنبطها من الذكر الحكيم.
ولما انتهى بحثه في هذا الجزء إلى قسم خاص من التوحيد وهو « التوحيد في الحاكمية » وانّ الحكم حق مختص بالله سبحانه ، لا يناله غيره إلاّ بإذنه ، جعل مدار البحث في الجزء الثاني « معالم الحكومة الإسلامية » باسلوب رائق وطريقة جديدة في نوعها ، إلى غير ذلك ممّا يراه القارئ في أجزاء هذا الكتاب القيّم من الموضوعات الهامّة.
أضف إلى ذلك كلّه أنّ الكتاب يشتمل على مزايا أُخرى قيّمة في ذاتها ، منها الصراحة في البحث ، وطرح المباحث بقلم واضح بعيد عن التعقيد ، والإيجاز المخل ، والإطناب الممل.
ومنها الحفاظ على المفاهيم الإسلامية من دون أيّ تحوير فيها وتغيير ، والتحرّز عن المناهج المزيجة الملفقة ، الّتي تأخذ من الإسلام شيئاً ، ومن المناهج غير الإسلامية شيئاً آخر ، فتمزجهما وتقدّم المجموع الملفّق باسم الإسلام ، من المناهج الّتي لها الضرر الكثير على الإسلام وأهله ، أعاذنا الله من شرور هذه الفكرة وخطورة هذه المناهج.
(13)
وقد مشى المؤلف فيما يمتّ إلى هذه المباحث في ضوء القرآن الكريم من دون أي خضوع للأفكار المادية ، أو إخضاع المفاهيم الإسلامية لتلك المناهج ، فشكر الله سعيه ، وضاعف أجره وجزاه الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء.
ناصر مكارم الشيرازي قم ـ الحوزة العلمية 12 ـ شوال ـ 1407 هـ
إنّ الذكر الحكيم يشتمل على معارف وأُصول كما يشتمل على أحكام وفروع ، والغاية المتوخّاة من المعارف والأُصول ، هي تحصيل العلم والمعرفة أوّلاً ، والإذعان والإيمان ثانياً ، كما أنّ الهدف من تشريع الأحكام والفروع هو الدعوة إلى العمل والتطبيق.
فلو كان شرف كل علم بشرف موضوعه ، فالعلم الأوّل ـ بما أنّه يبحث عن معرفة الله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله وما ينبغي له وما لا ينبغي له ـ يكون هو الأشرف والفقه الأكبر ، كما أنّ العلم الثاني ـ بما أنّه يبحث عن حكمه سبحانه بما يتعلّق بأفعال العباد ـ يكون هوالفقه الأصغر. ولكلٍّ أئمّةٌ وقادة مفكرّون ، وكثيراً ما يكون الإنسان إماماً في باب المعارف والعقائد ، وفي الوقت نفسه يكون غير رفيع المستوى في باب معرفة الأحكام ، وربّما يكون على العكس ، فالكل إذا تكلموا فيما أحسنوا ، أرشدوا إلى الطريق المهيع والحق المبين ، فإذا نطقوا في غيره أتوا بما تندهش منه العقول ويقضي منه العجب. (1) فاللازم على روّاد العلم حسب ما أمر به الرسول من تنزيل كل أمرئ
1 ـ قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « لو سكت من لا يعلم لرفع الاختلاف » لاحظ درر الحكم للآمدي.
(16)
منزلته (1) والأخذ عنهم فيما برعوا وفاقوا فيه ، وترك الاقتفاء والتبعية فيما لا حذق لهم فيه ولا براعة ، وهذا هو دأب الدين ، وهي السنّة القرآنية الّتي أمر الله سبحانه بها حيث قال : ( وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ) (2).
وكذلك علم الحديث والسنّة ، فربّما يكون الرجل قدوة في الحفظ ، عارفاً بمتون الأحاديث وأسانيدها ، وليس له مقدرة علمية لتحليل مفادها والغور في أعماقها ، فيكون ذلك من موارد قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها ، فربّ حامل فقه غير فقيه ، وربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه ». (3) فليس كل من روى كلاماً للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، يقبل رأيه الّذي رأى ، ولا كل من حفظ اللفظ ، كان أهلاً لبيان كنه المعنى ، وما يستنبط منه ، بل لكل من الحفظ والنقد والتحليل رجال متخصّصون ، ولكل فن أهل وأرباب ، فمن خاض في علم بلا كفاءة كان خطاؤه أكثر من صوابه وكان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه.
هذا هو الأصل الّذي دعا إليه القرآن ، واستقرّت عليه سيرة العقلاء ، ولكن الغفلة عن هذا الأصل في بدايات القرون الهجرية الأُولى ، أحدثت تخبّطاً في الأوساط الإسلامية فنجمت بين المسلمين بدع يهودية وآراء مسيحية ، من القول بالتشبيه ، وإثبات المحل لله تعالى ، والجهة له سبحانه ، فوصف الباري ـ المنزّه عن كل نقص ـ بالجلوس ، والنزول إلى الأرض ، وأثبتت له الأجزاء والأعضاء كالوجه والعين واليد والرجل ، ونسب إليه الاستعلاء الحسي على العرش ، وكان السبب لهذا
1 ـ روى مسلم في صحيحه : ( 1 / 5 ) عن عائشة أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمرنا أن ننزل الناس منازلهم. 2 ـ البقرة : 189. 3 ـ سنن الترمذي : 5 / الباب 7 ، كتاب العلم ، الحديث 2657 ; مسند أحمد : 2 / 225.
(17)
التخبّط أمران :
أوّلاً : الاغترار بما وضعه أعداء الإسلام من الأحبار والرهبان الذين تظاهروا بالإيمان وأضمروا الكفر تنفيذاً لحقدهم وعدائهم ، ويقف القارئ على نماذج كثيرة من هذه الإسرائيليات فيما روي عن كعب الأحبار ، ووهب من منبه ، وعبد الملك بن جريج ، ومن شاكلهم من المتأسلمين لا المسلمين الحقيقيّين.
ثانياً : الجمود على ظواهر بعض الآيات والأحاديث من دون تعمّق في أغوارها ، ولا تفحّص في مفاهيمها وأعماقها ، حتّى عاد التفكّر في مفاد الآية والحديث تأويلاً بغيضاً ، فعند ذاك هاجت بحار الفتن وتلاطمت أمواجها بالبدع المهلكة ، فسمّي التفكّر في القرآن والتدبّر في كلمات الرسول « كفراً » و « زندقة » وعدّ إقصاء العقل وعزله عن القضاء في المعارف والأُصول « قداسة » و « نزاهة » !!!
ففي هذه الظروف والأحوال قامت قيامة تأسيس المناهج ، ونجمت فرق كثيرة ، كلٌّ يدّعي الانتساب إلى الوحي والسنّة.
وكلٌّ يدّعي وصلاً بليلى
وليلى لا تقرّ لهم بذاكا
وإليك تسمية بعض هذه الفرق وبيان رؤوسها :
1. مبتدعة السلف : وهم المغترون بكل حديث وقعت أعينهم عليه ، فجمعوا في حقائبهم كل رطب ويابس ، وأخذوا بالظواهر وتركوا الاستعانة بالقرائن ، وسمّوا كل بحث من أيّ أصل من الأُصول والمعارف « تأويلاً » و « خروجاً عن الدين » وكبحوا العقل بتهمة الزندقة ، واستراحوا لما رووا عن أئمتهم من ذم علم الكلام ، فوصفوا الجمال
(18)
المطلق والكمال اللامتناهي بالمحل والجسم ، والنزول والصعود ، وخرقوا له كثيراً من الأشباه والنظائر.
ترى كثيراً من هذه الأحاديث في مرويات حمّاد بن سلمة ، ونعيم بن حمّاد ، ومقاتل بن سليمان ، ومن لف لفهم ، ففي مروياتهم تلك الآثار المشينة ، وقد قلّدهم كثير من البسطاء في القرون المتأخرة ، فحسبوها حقائق راهنة وألّفوا فيها الكتب.
وعلى هذا الأساس أُلّف كتاب « التوحيد » لمحمد بن إسحاق بن خزيمة ( المتوفّى عام 321 هـ ) ، وكتاب « السنّة » لعبد الله بن أحمد بن حنبل ، وكتاب « النقض » لعثمان بن سعيد الدارمي السجزي المجسّم فإنّه أول من اجترأ من المجسّمة بالقول : بأنَّ الله لو شاء لاستقرّ على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ، فكيف على عرش بعيد. (1) ولقد عزب عن هؤلاء المساكين أنّ التفكّر في آي الذكر الحكيم والغور في أعماقها ممّا أمر به منزّله سبحانه حيث قال : ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ) (2). وليس صرف آيات الاستواء على العرش والوجه واليد والعين وما شابهها ، عن الظاهر المتبادر من مفرداتها ، إلى ما هو المتبادر عند أئمّة البلاغة ، تأويلاً وخروجاً عن ظاهر الكلام ، إذ للكلمة بمفردها حكم ، وللجملة المتكوّنة من بعض الكلمات حكم آخر.
وإن كنت في ريب من هذا فلاحظ لفظ الأسد بمفرده ، ونفس اللفظ في قول القائل : « رأيت أسداً يرمي » ، فحملها في الجملة الثانية على الحيوان المفترس
1 ـ لاحظ مقدمة الشيخ محمد زاهد الكوثري على كتاب الأسماء والصفات للبيهقي. 2 ـ ص : 29.
(19)
صرف لظاهر الكلام بلا دليل ، وتأويل بلا مسوّغ.
وبهذا يظهر أنَّ الصفات الخبرية الواردة في القرآن كالوجه وغيره لها حكم عند الإفراد ، ولها حكم آخر إذا ما جاءت في ضمن الجمل ، فلايصحّ حملها على المعاني اللغوية إذا كانت هناك قرائن صارفة عنها ، فإذا قال سبحانه : ( وَ لاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَ لاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) (1) ، فيحمل على ما هو المتبادر من الآية عند العرف العام ، أعني : الإسراف والتقتير ، فبسط اليد كناية عن الإنفاق بلا شرط ، كما أنّ جعل اليد مغلولة إلى العنق كناية عن البخل والتقتير ، ولا يعني به بسط اليد بمعنى مدّها ، ولا غلّ اليد إلى العنق بمعنى شدّها إليه.
وعلى هذا يجب أن يفسر قوله سبحانه : ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) (2) ، فالعرش في اللغة هو السرير ، والاستواء عليه هو الجلوس ، غير أنَّ هذا حكم مفرداتها ، وأمّا معنى الجملة فيتفرع الاستظهار منها ، على القرائن الحافة بها ، فالعرب الأقحاح لا يفهمون منها سوى العلو والاستيلاء ، وحملها على غير ذلك يعد تصرّفاً في الظاهر ، وتأويلاً لها ، فإذا سمع العرب قول القائل :
قد استوى بشر على العراق
من غير سيف ودم مهراق
أو سمع قول الشاعر :
ولما علونا واستوينا عليهم
تركناهم مرعى لنسر وكاسر
فلا يتبادر إلى أذهانهم سوى العلو والسيطرة والسلطة ، لا العلو المكاني
1 ـ الإسراء : 29. 2 ـ طه : 5.
(20)
الّذي يعد كمالاً للجسم ، وأين هو من العلو المعنوي الّذي هو كمال الذات.
وقد جاء استعمال لفظ الاستواء على العرش في سبع آيات مقترناً بذكر فعل من أفعاله ، وهو رفع السماوات بغير عمد ، أو خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، فكان ذاك قرينة على أنّ المراد منه ليس هو الاستواء المكاني بل الاستيلاء والسيطرة على العالم كله ، فكما لا شريك له في الخلق والإيجاد لا شريك له أيضاً في الملك والسلطة ، ولأجل ذلك يقول في بعض هذه الآيات : ( أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَ الأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (1).
فالتأويل بلا قيد وشرط ، إذا كان ضلالاً ـ كما سيوافيك بيانه ـ فكذلك الجمود على ظهور المفردات ، وترك التفكّر والتعمّق أيضاً ابتداع مفض إلى صريح الكفر ، فلو حمل القارئ قوله سبحانه : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء ) (2) على أنّ لله مثلاً ، وليس لهذا المثل مثل ... إذن يقع في مغبّة الشرك وحبائله ، وقد نقل الرازي في تفسيره لهذه الآية كلاماً عن ابن خزيمة فراجعه. (3) وما أحسن قول ابن العربي في هؤلاء المجسّمة المشبهة :
قالوا الظواهر أصل لايجوز لنابينوا عن الخلق لستم منهم أبداً
عنها العدول إلى رأي ولا نظرما للأنام ومعلوف من البقر
وهؤلاء سلف المشبهة وأئمّة المجسّمة ، وقد اغتر بقولهم جماعة من البسطاء المحدثين إلى أن طلع إمام الأشاعرة فادّعى في الفترات الأخيرة من حياته أنّه تاب
1 ـ الأعراف : 54. 2 ـ الشورى : 11. 3 ـ مفاتيح الغيب : 8 / 388.