مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: 141 ـ 150
(141)
قول الدهريين ، وأُخرى إلى الكواكب كما هو قول المنجمين ، وثالثة إلى الأصنام كما هو قول عبدتها ، فردَّ اللّه سبحانه على تلك المزاعم بقوله : ( فتعالى اللّه عما يشركون ) (1). وعلى ما ذكرنا يحتمل أن يكون المراد من الشرك هو الشرك في التدبير ، ومثل هذا لا يليق أن ينسب إلى من هو دون الأنبياء والأولياء ، فكيف يمكن أن يوصف به صفي اللّه آدم ( عليه السلام ) ؟!
    وأقصى ما يمكن أن يقال هو أنّ المراد من النفس الواحدة وزوجها في صدر الآية هو آدم وحواء الشخصيّان ، ولكنه سبحانه عندما انتهى إلى قوله : ( ليسكن إليها ) التفت من شخصهما إلى مطلق الذكور والأُناث من أولادهما أو إلى خصوص المشركين من نسلهما ، فيكون تقدير الكلام ( فلما تغشاها ) أي تغشى الزوج الزوجة من نسلهما ( حملت حملاً خفيفا فمرت به ) ... إلى آخر الآية.
    وهذا ما يسمّى في علم المعاني بالالتفات ، وله نظائر في القرآن الكريم قال تعالى : ( هُوَ الّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيح طَيِّبَة ) (2). ترى أنّه سبحانه خاطب الجماعة بالتسيير ثم خص راكب البحر بأمر آخر ومثله الآية ، ترى أنّه سبحانه أخبر عن عامّة أمر البشر بأنّهم مخلوقون من نفس واحدة وزوجها وهما آدم وحواء ، ثم ساق الكلام إلى مطلق ذرية آدم من البشر.
    وهذا الوجه نقله المرتضى في « تنزيه الأنبياء » عن أبي مسلم محمد بن بحر الاصفهاني. (3)
    وتوجد وجوه أُخر في تفسير الآية غير تامة. (4) وفيما ذكرنا غنى وكفاية.
    1 ـ مفاتيح الغيب : 4/343.
    2 ـ يونس : 22.
    3 ـ تنزيه الأنبياء : 16.
    4 ـ لاحظ مفاتيح الغيب : 4/341 ـ 343; مجمع البيان : 4/508 ـ 510; أمالي المرتضى : 137 ـ 143.


(142)
2
عصمة شيخ الأنبياء نوح ( عليه السلام ) والمطالبة
بنجاة ابنه العاصي
     قد استدل المخطّئة لعصمة الأنبياء على عدم عصمة نوح ( عليه السلام ) بما ورد في سورة هود من الآية 45 إلى 47 ، وإليك الآيات :
    ( وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أحْكَمُ الحَاكِمين * قَالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاّ تَغْفِرْ لي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الخَاسِرينَ ).
    وقد استدل بهذه الآيات بوجوه :
    1 ـ انّ ظاهر قوله تعالى : ( انّه ليس من أهلك ) تكذيب لقول نوح ( إنّ ابني من أهلي ) ، وإذا كان النبي لا يجوز عليه الكذب ، فما الوجه في ذلك؟
    2 ـ قوله : ( فلا تسألن ما ليس لك به علم إنّي أعظك أن تكون من الجاهلين ) ، فإنّ ظاهره صدور سؤال منه غير لائق بساحة الأنبياء ، ولأجل ذلك خوطب بالعتاب ونهي عن التكرار.


(143)
    3 ـ قوله : ( وإلاّ تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ) فإنّ طلب الغفران آية الذنب ، وهو لا يجتمع مع العصمة.
    وإليك الجواب عن الوجوه الثلاثة :

الوجه الأوّل : كيف يجتمع قول نوح ( عليه السلام ) : ( إنّ ابني من أهلي ) مع قوله سبحانه : ( إنّه ليس من أهلك ) ؟
    فتوضيح دفعه : أنّه سبحانه قد وعد نوحاً بإنجاء أهله إلاّ مَنْ سبق عليه القول وقال : ( حَتّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إلاّ قَليلٌ ) (1) ، وهذا الكلام يعرب عن أنّه سبحانه وعد بكلامه شيخ الأنبياء بأنّه ينجّي أهله ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر يجب أن نقف على حالة ابن نوح وأنّه إمّا أن يكون متظاهراً بالكفر وكان أبوه واقفاً على ذلك ، وإمّا أن يكون متظاهراً بالإيمان مبطناً للكفر ، وكان أبوه يتصوّر أنّه من المؤمنين به.
    فعلى الفرض الأوّل : يجب أن يقال : إنّ نوحاً قد فهم من قوله سبحانه : ( وأهلك إلاّ من سبق عليه القول ) في سورتي هود الآية 40 والمؤمنون الآية 27 (2) انّه قد تعلّقت مشيئته بإنجاء جميع أهله الذين ينتمون إليه بالوشيجة النسبية والسببية ، سواء أكانوا مؤمنين أم كافرين غير امرأته التي كانت كامرأة لوط تخونه ليلاً ونهاراً ، وعندئذ يكون المراد من قوله : ( إلاّ من سبق عليه القول منهم ) هو
    1 ـ هود : 40.
    2 ـ قال سبحانه في سورة هود : ( قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلاّ من سبق عليه القول ).
    وقال سبحانه في سورة المؤمنون : ( فَاسْلُكْ فِيها مِن كُلّ زَوجَينِ اثنينِ وأهْلَكَ إلاّ مَن سَبقَ عَليهِ القولُ مِنهمْ ولا تُخاطِبْني في الذينَ ظَلَموا إنّهم مُغرَقون ).


(144)
زوجته فقط ، ولما رأى نوح أنّ الولد أدركه الغرق تخالج في قلبه أنّه كيف يجتمع وعده سبحانه بإنجاء جميع الأهل مع هلاك ولده؟ وعند ذلك اعتراه الحزن ورفع صوته بالدعاء منادياً : ( انّ ابني من أهلي ) من دون أن يسأل منه شيئاً بل أظهر ما اختلج في قلبه من الصراع والتضاد بين الأمرين : الإيمان بصدق وعده ، كما يفصح عنه قوله : ( انّ وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ) وغرق ولده وهلاكه.
    وعلى هذا الفرض لم يكذب نوح ( عليه السلام ) حتى بكلمة واحدة ، بل لما فهم من قوله ( وأهلك ) نجاة مطلق المنتمين إليه بالوشيجة الرحمية أو السببية ، أبرز ما فهم وقال : ( انّ ابني من أهلي ) ، فلا يعد الإنسان كاذباً عند نفسه إذا أبرز ما اعتقده وأفرغه في قالب القول وان كان المضمون خلاف الواقع في حد نفسه ، وحينئذ أجابه سبحانه بأنّ الموعود بإنجائهم هم الصالحون من أهلك لا مطلق المنتمين إليك بالوشائج الرحمية أو السببية.
    وبعبارة أُخرى : انّ ولدك وإن كان من أهلك حسب الوشيجة الرحمية ، لكنّه ليس من الأهل الذين وعدت بنجاتهم وخلاصهم.
    وبعبارة ثالثة : ( انّ ابنك ) داخل في المستثنى ، أعني قوله : ( إلاّ من سبق عليه القول منهم ) كما أنّ زوجتك داخلة فيه أيضاً.
    وهذا الجواب على صحة الفرض تام لا غبار عليه ، لكن أصل الفرض وهو كون ابن نوح متظاهراً بالكفر وكان الأب واقفاً عليه غير تام لما فيه :
    أوّلاً : انّ من البعيد عن ساحة نوح ( عليه السلام ) أن يطلب من اللّه سبحانه أن لا يذر على الأرض من الكافرين ديّاراً ، كما يعرب عنه قوله سبحانه حاكياً عنه ( عليه السلام ) : ( وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إلاّ فَاجِراً كَفَّاراً ) ، ويتبادر (1) إلى ذهنه من قوله سبحانه :
    1 ـ نوح : 26 ـ 27.

(145)
( وأهلك ) مطلق المنتمين إليه مؤمناً كان أم كافراً. بل يعد دعاؤه هذا قرينة على أنّ الناجين من أهله هم المؤمنون فقط لا الكافرون ، وانّ المراد من ( من سبق عليه القول ) مطلق الكافرين سواء كانوا منتمين إليه أو لا.
    ثانياً : انّه لا دليل على أنّه فهم من قوله : ( إلاّ من سبق عليه القول منهم ) خصوص زوجته ، بل الظاهر أنّه فهم أنّ المراد من المستثنى كل من عاند اللّه وحاد رسوله من غير فرق في ذلك بين الزوجة وغيرها.
    وثالثاً : انّه سبحانه بعدما أمر نوحاً ( عليه السلام ) بصنع الفلك أوحى إليه بقوله : ( وَلاَ تُخَاطِبْني فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ) (1) ، والظاهر من قوله : ( الذين ظلموا ) مطلق المشركين حميماً كان أو غريباً ، فإذا قال بعد ذلك : ( وأهلك إلاّ من سبق عليه القول ) يكون إطلاق الجملة الأُولى قرينة على أنّ المراد من الأهل هو خصوص المؤمن لا الظالم منهم ، إذ الظالم منهم داخل في قوله : ( ولا تخاطبني في الذين ظلموا ).
    وإن شئت قلت : إنّ صراحة الجملة الأُولى قرينة على أنّ المراد من قوله : ( إلاّ من سبق عليه القول ) مطلق الظالم والكافر زوجة كانت أم غيرها ، رحماً كان أم غيره ، وهذه الصراحة قرينة على أنّ المراد من ( أهلك ) هو خصوص المؤمن لا الأعم منه.
    وبالجملة : فلو صحت النظرية صح الجواب ، لكنها باطلة لأجل الأُمور الثلاثة التي ألمعنا إليها.
    وأمّا الفرض الثاني ، فالظاهر أنّه الحق ، وحاصله : أنّ الابن كان متظاهراً بالإيمان مبطناً للكفر ، ويدل على ذلك قول نوح لابنه عندما امتنع أن يواكب أباه
    1 ـ هود : 37.

(146)
في ركوبه السفينة : ( يَا بُنَيَّ ارْكَب مَعَنَا وَلاَ تَكُن مَعَ الْكَافِرينَ ) (1) ، أي لا تكن معهم حتى تشاركهم في البلاء ، ولو كان عارفاً بكفره لكان عليه أن يقول : « ولا تكن من الكافرين » وبما انّه كان معتقداً بإيمان ولده كان مذعناً بدخوله في قوله : ( وأهلك ) ولما أدركه الغرق أدركته الحيرة في أنّه كيف غرق مع أنّ وعده سبحانه حق لا يشوبه ريب ، وعندئذ أظهر ما في قلبه وقال : ( انّ ابني من أهلي ) ، وأجابه سبحانه بأنّه ما أدركه الغرق إلاّ لأجل كفره ، فهو كان داخلاً في قوله : ( ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنّهم مغرقون ) (2) أوّلاً ، وثانياً في المستثنى أي قوله : ( إلاّ من سبق عليه القول ) لا المستثنى منه أي ( أهلك ).
    وعندئذ يقع السؤال والجواب في موقعهما ولا يكون نوح ( عليه السلام ) في حكمه كاذباً ، لأنّه كان يتصور أنّ ولده مؤمن فنبّهه سبحانه على أنّه كافر ، فأين الكذب في هذين الحكمين؟ وفي قوله سبحانه : ( انّه عمل غير صالح ) إعلام بأنّ قرابة الدين غامرة لقرابة النسب ، وانّ نسيبك في دينك ومعتقدك من الأباعد وان كان حبشياً وكنت قرشياً ، لصيقك وخصيصك ، ومن لم يكن على دينك وان كان أمس أقاربك رحماً فهو بعيد عنك إيماناً وعقيدة وروحاً.
    ثم إنّ الإخبار عن ابن نوح بأنّه عمل غير صالح مكان كونه عاملاً غير صالح ، لأجل المبالغة في ذمه مثل قوله « فإنما هي إقبال وإدبار ». (3)
    وهاهنا نكتة يجب التنبيه عليها ، وهي أنّ العنصر المقوّم لصدق عنوان الأهل عند أصحاب اللغة والعرف هو انتساب الإنسان إلى شخص بوشيجة من
    1 ـ هود : 42.
    2 ـ هود : 37.
    3 ـ الكشاف : 2/101.


(147)
الوشائج النسبية أو السببية ، وان لم يكن بينهما تشابه ووحدة من حيث المسلك والمنهج.
    غير أنّ التشريع الإلهي أدخل فيه عنصراً آخر وراء الوشيجة المادية وهو صلة الشخص بالإنسان من جهة الإيمان ، ووحدة المسلك ، إلى حد لو فقد هذا العنصر لما صدق عليه ذلك العنوان ، بل صار ذلك العنصر إلى حد ربّما يكتفي به في صدق الأهل على الأفراد سواء أكانت فيه وشيجة نسبية أم لا ، ولأجل ذلك نجد أنّه سبحانه يكتفي بلفظ الأهل في التعبير عن كل المؤمنين ، فيقول في قصة « لوط » : ( فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الغَابِرينَ ) (1) ، وقال أيضاً : ( إنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (2) ، وقال أيضاً : ( وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عَجُوزاً في الغَابِرينَ ) (3) ، ترى أنّه سبحانه اكتفى بلفظ الأهل من دون أن يعطف عليه لفظ « المؤمنين » أو « من آمن به » مع عدم اختصاص النجاة بخصوص أهله وعمومها للمؤمنين ، معرباً عن أنّ الإيمان يجعل البعيد أهلاً ، والكفر يجعل القريب بعيداً.
    ولأجل ذلك اكتفى في قصة نوح بلفظ الأهل فقال : ( وَنُوحاً إِذ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّينَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ العَظِيم ) (4) ، وقال أيضاً : ( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ المُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكَرْبِ الْعَظِيم ) (5) ، ومن المعلوم عدم اختصاص النجاة بخصوص الأهل بشهادة قوله : ( وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ
    1 ـ الأعراف : 83.
    2 ـ العنكبوت : 33.
    3 ـ الصافّات : 133 ـ 135.
    4 ـ الأنبياء : 76.
    5 ـ الصافّات : 75 ـ 76.


(148)
الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ) (1).
    وبذلك يظهر سرّ قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « سلمان منّا أهل البيت » فعد غير العرب من أهل بيته ، وما هذا إلاّ لأنّ التشابه الروحي أوثق صلة وأحكم عرى ، كما أنّ التباين الروحي خير أداة لقطع العرى وهدم الوشيجة المادية.
    ولأجل ذلك قال الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا ( عليهما السلام ) في حق ابن نوح : « لقد كان ابنه ولكن لمّا عصى اللّه عزّ وجلّ نفاه عن أبيه ، وكذا من كان منّا لم يطع اللّه عزّ وجلّ فليس منّا ، وأنت إذا أطعت اللّه فأنت منّا أهل البيت ». (2)
    نعم لا نقول إنّ ما ذكرناه هو المصطلح الوحيد في القرآن ، بل له مصطلح آخر يتطابق مع اصطلاح أهل اللغة والعرف ، وهو الاكتفاء بالوشيجة المادية ، ونرى كلا المصطلحين واردين في سورة هود قال سبحانه : ( وأهلك إلاّ من سبق عليه القول ومن آمن ) ، فأطلق لفظ الأهل على مطلق المنتمي إلى شيخ الأنبياء ، كافراً كان أم مؤمناً ، ثم أخرج الكافر من الحكم ( احمل ) لا من الموضوع وهو ( الأهل ) وقال : ( إلاّ من سبق عليه القول ).
    وفي الوقت نفسه يجيب نداء نوح ( عليه السلام ) بعد قوله : ( انّ ابني من أهلي ) بقوله : ( انّه ليس من أهلك ).

الوجه الثاني : لا دلالة لقوله : ( فلا تسألن ما ليس لك به علم ) على صدور سؤال غير لائق بساحة الأنبياء :
    قد عرفت ما في الوجه الأوّل من نسبة الكذب إلى شيخ الأنبياء نوح ( عليه السلام ) في قوله : ( انّ ابني من أهلي ) ، فهلمّ معي ندرس الوجه الثاني ، وهو أنّ قوله
    1 ـ هود : 40.
    2 ـ البحار : 49/219 ضمن ح 3.


(149)
سبحانه : ( فلا تسألن ما ليس لك به علم انّي أعظك أن تكون من الجاهلين ) يعرب عن وجود سؤال غير لائق بساحة الأنبياء ، فلأجل ذلك خوطب ونهي عن التكرار.
    فنقول : إنّ اللّه عزّ وجلّ قد وعده بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم ، وهذا الاستثناء كان دليلاً على أنّ في جملة « أهله » من هو مستوجب للعذاب ، وأنّهم كلّهم ليسوا بناجين ، وعندئذ كان على نوح أن لا تخالجه شبهة حين أشرف ولده على الغرق في أنّه من المستثنين ، وليس داخلاً في المستثنى منهم ، فعوتب على أنّه اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه عليه. (1)
    وعلى هذا يكون المراد من قوله : ( فلا تسألن ما ليس لك به علم ) النهي عن السؤال الذي لا يليق أن يطرح ويسأل إذا كان الجواب معلوماً بالقرائن والتفكر في أطراف القضية ، وإلاّ فالسؤال انّما يتعلّق بما لا يعلم لا بما يعلم. هذا ما أجاب به صاحب الكشاف.
    وهناك جواب أوضح ولعلّه أليق بساحة الأنبياء ، وهو : أنّه لما وعد نوحاً بنجاة الأهل بقوله : ( إلاّ من سبق عليه القول منهم ) ولم يكن نوح مطّلعاً على باطن ابنه ، بل كان معتقداً بظاهر الحال أنّه مؤمن ، بقي متمسّكاً بصيغة العموم للأهلية ولم يعارضه يقين ولا شك بالنسبة إلى إيمان ابنه ، فلذلك ( نادى ربّه ).
    وأمّا قوله : ( اني أعظك أن تكون من الجاهلين ) فليس راجعاً إلى كلامه وندائه ، بل كان نداؤه ربّه في هذا الظرف واقعاً موقع القبول ، وكان السؤال صحيحاً ورصيناً ، بل هو راجع إلى وقوع السؤال في المستقبل بعد أن أعلمه اللّه باطن أمره ، وأنّه إن سأل في المستقبل كان من الجاهلين ، والغرض من ذلك تقديم
    1 ـ الكشاف : 2/101.

(150)
ما يبقيه ( عليه السلام ) على سمة العصمة ، والموعظة لا تستدعي وقوع الذنب وصدوره بل ربّما يكون الهدف التحفّظ على أن لا يصدر الذنب منه في المستقبل ، ولذلك امتثل ( عليه السلام ) نهي ربِّه وقال : ( أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ) (1).
     جواب ثالث للوجه الثاني
    هذا وللعلاّمة الطباطبائي جواب ثالث أمتن من الجوابين السابقين حيث قال : إنّ قول نوح : ( رب انّ ابني من أهلي وانّ وعدك الحق ) في مظنة أن يسوقه إلى سؤال نجاة ابنه ، وهو لا يعلم أنّه ليس من أهله ، فشملته العناية الإلهية وحال التسديد الغيبي بينه وبين السؤال فأدركه النهي بقوله : ( فلا تسألن ما ليس لك به علم ) بتفريع النهي على ما تقدّم ، مخبراً نوحاً بأنّ ابنك ليس من أهلك ، لكونه عملاً غير صالح ، فلا سبيل لك إلى العلم به ، فإيّاك أن تبادر إلى سؤال نجاته ، لأنّه سؤال ما ليس لك به علم ، والنهي عن السؤال بغير علم لا يستلزم تحقق السؤال منه لا مستقلاً ولا ضمناً ، والنهي عن الشيء لا يستلزم الارتكاب قبلاً ، وانّما يتوقف على أن يكون الفعل اختيارياً ومورداً لابتلاء المكلّف ، فإنّ من العصمة والتسديد أن يراقبهم اللّه سبحانه في أعمالهم ، وكلّما اقتربوا مما من شأنّه أن يزل فيه الإنسان نبههم اللّه لوجه الصواب ، ودعاهم إلى السداد والتزام طريق العبودية ، قال تعالى : ( وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْناكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَتَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ) (2).
    وممّا يدل على أنّ النهي في قوله ( فلا تسألن ) نهي عمّا لم يقع بعد ، قول
    1 ـ الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال للإمام ناصر الدين الاسكندري المالكي : 2/101 على هامش الكشاف.
    2 ـ الإسراء : 74 ـ 75.
مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: فهرس