مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: 151 ـ 160
(151)
نوح ( عليه السلام ) بعد استماع خطابه سبحانه : ( رب إنّي أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ).
    ولو كان سأل شيئاً من قبل لكان عليه أن يقول : أعوذ بك ممّا سألت أو ما يشابه ذلك ، وممّا يوضح أنّ نوحاً لم يسأل شيئاً من ربّه قوله سبحانه : ( انّي أعظك أن تكون من الجاهلين ) تعليلاً لنهيه ( فلاتسألن ) ، فلو كان نوح ( عليه السلام ) سأل شيئاً من قبل لكان من الجاهلين ، لأنّه سأل ما ليس له به علم.
    وأيضاً لو كان المراد من النهي عن السؤال أن لا يتكرر منه ذلك بعد ما وقع منه مرّة لكان الأنسب أن يصرّح بالنهي عن العود إلى مثله دون النهي عن أصله ، كما ورد نظيره في القرآن الكريم : ( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ... يَعِظُكُمْ اللّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً ) (1). (2)
    إلى هنا تبيّن الجواب عن السؤال الثاني ، واتضح أنّه لم يسبق منه ( عليه السلام ) سؤال غير لائق بساحته ، بقي الكلام في السؤال الثالث.

الوجه الثالث : تفسير قوله تعالى : ( وإلاّ تغفر لي وترحمني ).
    وحاصله : أنّ طلب الغفران في قوله : ( وإلاّ تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ) لا يجتمع مع العصمة.
    أقول : إنّ هذا كلام ، صورته التوبة وحقيقته الشكر على ما أنعم اللّه عليه من التعليم والتأديب ، أمّا أنّ صورته صورة التوبة ، فإنّ في ذلك رجوعاً إلى اللّه تعالى بالاستعاذة ، ولازمها طلب مغفرة اللّه ورحمته ، أي ستره على الإنسان ما فيه زلته ،
    1 ـ النور : 15 ـ 17.
    2 ـ الميزان : 10/245.


(152)
وشمول عنايته لحاله ، والمغفرة بمعنى طلب الستر أعم من طلبه على المعصية المعروفة عند المتشرعة ، وكل ستر إلهي يسعد الإنسان ويجمع شمله.
    وأمّا كون حقيقته الشكر ، فإنّ العناية الإلهية التي حالت بينه وبين السؤال الذي كان يوجب دخوله في زمرة الجاهلين ، كانت ستراً إلهياً على زلة في طريقه ، ورحمة ونعمة أنعم اللّه سبحانه بها عليه فقوله : ( وإلاّ تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ) بمعنى أنّه إن لم تعذني من الزلاّت ، لخسرت ، فهو ثناء وشكر لصنعه الجميل. (1)
    وتظهر حقيقة ذلك الكلام ممّا قدمناه في قصة آدم من أنّ كثيراً من المباحات تعد ذنباً نسبياً بالنسبة إلى طبقة خاصة من الأولياء والأنبياء ، فعند صدور مثل ذلك يجب عليهم ـ تكميلاً لعصمتهم ـ طلب الغفران والرحمة ، حتى لا يكونوا من الخاسرين ، وليس الخسران منحصراً في الإتيان بالمعصية ، بل ربّ فعل سائغ يعد صدوره من الطبقة العليا خسراناً وخيبة ، كما أوضحناه في قصة آدم.
    نعم لم يصدر من شيخ الأنبياء في ذلك المقام فعل غير أنّه وقع في مظنة صدور ذلك الفعل ، وهو السؤال عمّا لا يعلم ، فلأجل ذلك صح له أن يطلب الستر على تلك الحالة بالعناية الإلهية الحائلة بينه وبين صدوره.
    إلى هنا تبيّن مفاد الآيات وأنّه ليس فيها إشعار بصدور الذنب بل حتى ما يوجب العتاب واللوم.
    ثم إنّ لبعض المفسرين من العدلية أجوبة أُخرى للأسئلة المطروحة ، فمن أراد الوقوف عليها ، فليرجع إلى مظانها. (2)
    1 ـ الميزان : 10/238.
    2 ـ لاحظ تنزيه الأنبياء : 18 ـ 19; مجمع البيان : 3/167; بحار الأنوار : 11/213 ـ 314 إلى غير ذلك.


(153)
3
عصمة إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) والمسائل الثلاث (1)
     إنّ اللّه سبحانه أثنى على إبراهيم ( عليه السلام ) بطل التوحيد بأجمل الثناء ، وحمد محنته في سبيله سبحانه أبلغ الحمد ، وكرر ذكره باسمه في نيّف وستين موضعاً من كتابه ، وذكر من مواهبه ونعمه عليه شيئاً كثيراً وقال : ( وَلَقَد اصْطَفَيْناهُ في الدُّنْيَا وإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين ) (2). وقد حفظ اللّه سبحانه حياته الكريمة وشخصيته الدينية لما سمّى هذا الدين القويم بالإسلام ونسب التسمية به إليه قال تعالى : ( مِلَّة أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ) (3). وقال سبحانه : ( قُلْ إِنَّني هَدَاني رَبِّي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (4).
    ومع هذا الثناء المتضافر منه سبحانه على إبراهيم ( عليه السلام ) نرى أنّ بعض المخطّئة للأنبياء يريد أن ينسب إليه ما لا يليق بشأنه مستدلاً بآيات نأتي بها واحدة بعد واحدة ونبيّن حالها.
    1 ـ أ. قوله للنجم : ( هذا ربي ). ب. قوله : ( بل فعله كبيرهم ). ج. قوله لقومه : ( إنّي سقيم ).
    2 ـ البقرة : 130.
    3 ـ الحج : 78.
    4 ـ الأنعام : 161.


(154)
الآية الأُولى
    ( وكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمواتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِين * فَلَمّا رَأَى القَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِني رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْركُونَ ) (1).
    قالت المخطّئة : إنّ قوله : ( هذا ربي ) في المواضع الثلاثة ظاهر في أنّه ( عليه السلام ) كان يعتقد في وقت من الأوقات بربوبية هذه الأجرام السماوية ، وهذا ممّا لا يجوز على الأنبياء عند العدلية ، وإن زعمت العدلية أنّه ( عليه السلام ) تكلّم بها ظاهراً غير معتقد باطناً ، فهذا أيضاً غير جائز على الأنبياء ، لأنّه يقول شيئاً غير معتقد به ، وهو أمر قبيح سواء سمّي بالكذب أم لا.
    والجواب : انّ الاستدلال ضعيف ، لأنّ الحال لا تخلو من إحدى صورتين :
    الأُولى : انّ إبراهيم كان في مقام التحرّي والتعرّف على الربّ المدبّر للعالم ، ولم يكن آنذاك واقفاً على الحقيقة ، لأنّه ـ كما قيل ـ كان صبياً لم يبلغ الحلم ، وصار بصدد التحقيق والتحري ، فعندئذ طرح عدّة احتمالات واحداً بعد واحد ، ثم شرع في إبطال كل واحد منها ، إلى أن وصل إلى الرب الواقعي والمدبّر الحقيقي.
    وهذا نظير ما يفعله الباحثون عن أسباب الظواهر وعللها ، فتراهم يطرحون على طاولة التحقيق سلسلة من الفرضيات والاحتمالات ، ثم يعمدون إلى التحقيق عن حال كل واحد منها إلى أن يصلوا إلى العلة الواقعية ، وعلى هذا يكون معنى
    1 ـ الأنعام : 75 ـ 78.

(155)
قوله : ( هذا ربي ) مجرّد فرض لا إذعان قطعي ، وليس مثُل هذا غيرَ لائق بشأن الأنبياء.
    وفي هذا الصدد يقول السيد المرتضى ـ جواباً عن السؤال ـ : إنّه لم يقل ذلك مخبراً ، وانّما قال فارضاً ومقدّراً على سبيل الفكر والتأمّل.
    ألا ترى أنّه قد يحسن من أحدنا إذا كان ناظراً في شيء وممتثلاً بين كونه على إحدى صفتيه أن يفرضه على إحداهما لينظر فيما يؤدي ذلك الفرض إليه من صحة أو فساد ، ولا يكون بذلك مخبراً عن الحقيقة ، ولهذا يصح من أحدنا إذا نظر في حدوث الأجسام وقدمها أنْ يفرض كونها قديمة ليتبين ما يؤدي إليه ذلك الفرض من الفساد. (1)
    وقد روي هذا المعنى عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) حيث سئل عن قول إبراهيم : ( هذا ربّي ) أأشرك في قوله : ( هذا ربّي ) ؟ فقال ( عليه السلام ) : « لا ، بل من قال هذا ، اليوم فهو مشرك ، ولم يكن من إبراهيم شرك ، وانّما كان في طلب ربّه وهو من غيره شرك ». (2)
    وفي رواية أُخرى عن أحدهما ( الباقر والصادق ( عليهما السلام ) ) : « انّما كان طالباً لربّه ولم يبلغ كفراً ، وانّه من فكّر من الناس في مثل ذلك فإنّه بمنزلته ». (3)
    غير أنّ هذا الفرض ربّما لا يكون مرضياً عند بعض العدلية ، لأنّ الأنبياء منذ أن فطموا من الرضاع إلى أن ادرجوا في أكفانهم ، كانوا عارفين بتوحيده سبحانه ذاتاً وفعلاً ، خالقاً وربّاً ، ولو كان هناك إراءة من اللّه لخليله كما في قوله : ( وكذلك نري إبراهيم ) كانت لزيادة المعرفة وليكون من الموقنين.
    1 ـ تنزيه الأنبياء : 22.
    2 ـ نور الثقلين : 1/610 ـ 611 ، الحديث 149 و 150 و 151.
    3 ـ نور الثقلين : 1/610 ـ 611 ، الحديث 149 و 150 و 151.


(156)
    الثانية : انّه كان معترفاً بربوبيته نافياً ربوبية غيره ، ولكنّه حيث كان بصدد هداية قومه وفكّهم من عبادة الأجرام ، جاراهم في منطقهم لكي لا يصدم مشاعرهم ويثير عنادهم ولجاجهم ، فتدرج في إبطال ربوبية معبوداتهم الواحد تلو الآخر ، بما يطرأ عليها من الأُفول والغيبة والتحوّل والحركة مما لا يليق بالربّ المدبّر ، ومثل هذا جائز للمعلم الذي يريد هداية جماعة معاندة في عقيدتهم ، منحرفة عن جادة الصواب ، وهذه إحدى طرق الهداية والتربية ، فأين التكلّم بكلمة الشرك عن جد ؟!
    وإلى ذلك الجواب أشار السيد المرتضى في كلامه بأنّ إبراهيم ( عليه السلام ) لم يقل ما تضمّنته الآيات على طريق الشك ، ولا في زمان مهلة النظر والفكر ، بل كان في تلك الحال موقناً عالماً بأنّ ربَّه تعالى لا يجوز أن يكون بصفة شيء من الكواكب ، وانّما قال ذلك على أحد وجهين :
    الأوّل : انّه ربّي عندكم ، وعلى مذاهبكم ، كما يقول أحدنا على سبيل الإنكار للمشتبه هذا ربّه جسم يتحرك ويسكن.
    الثاني : انّه قال ذلك مستفهماً وأسقط حرف الاستفهام للاستغناء عنها. (1)
    والوجه الأوّل من الشقين في هذا الجواب هو الواضح.

الآية الثانية
    قوله سبحانه : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمينَ ... وَتَاللّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرين* فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ... قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا
    1 ـ تنزيه الأنبياء : 23.

(157)
فَاسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُون * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الْظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤلاءِ يَنْطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيئَاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (1).
    فزعمت المخطّئة أنّ قوله ( عليه السلام ) ( بل فعله كبيرهم ) كذب لا شك فيه ، لأنّه هو الذي كسر الأصنام وجعلها جذاذاً إلاّ كبيرها ، فكيف نسب التكسير إلى كبيرها ؟
    ولا يخفى أنّ الشبهة واهية جداً ، مثل الشبهة السابقة ، لأنّ الكذب في الكلام إنّما يتحقق إذا لم يكن هناك قرينة على أنّه لم يرد ما ذكره ، بالإرادة الجدية ، وانّما ذكره لغاية أُخرى ، ومع تلك القرينة لا يُعد الكلام كذباً ، والقرينة في الكلام أمران :
    الأوّل : قوله ( عليه السلام ) عند مغادرة قومه البلد ومخاطبتهم بقوله : ( وتَاللّهِ لأَكيدنَّ أصنامَكُمْ بَعْدَ أنْ تُوَلُّوا مُدْبِرين ) (2) ، ولا يصح حمل ذلك على أنّه قاله في قلبه وفكرته ، لا بصورة المشافهة والمصارحة ، وذلك لأنّ إبراهيم كان مشهوراً بعدائه وكرهه للأصنام ، حتى أنّهم بعد ما رجعوا إلى بلدهم ووجدوا الأصنام جذاذاً ، أساءوا الظن به ، واتهموه بالعدوان على أصنامهم وتخريبها و ( قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إبراهِيمُ ) (3).
    الثاني : انّ من المسلّم بين إبراهيم وعبدة الأصنام أنّ آلهتهم صغيرها وكبيرها
    1 ـ الأنبياء : 51 ـ 67.
    2 ـ الأنبياء : 57.
    3 ـ الأنبياء : 60.


(158)
لا تقدر على الحركة والفعل ، فمع تلك القرينة والتسليم الواضح بينه وبينهم ، بل وبين جميع العقلاء ، إذا أجاب إبراهيم بهذا الكلام يعلم منه أنّه لم يتكلم به لغاية الجد ، بل لغاية أُخرى حتى ينتبه القوم إلى خطئهم في العقيدة.
    ويزيد توضيحاً ما ورد في القصص : إنّ إبراهيم بعد أنْ حطّم الأصنام الصغيرة جعل الفأس على عنق كبيرها ، حتى تكون نسبة التحطيم إلى الكبير مقرونة بالقرينة وهي : أنّ آلة الجرم تشهد على كون الكبير هو المجرم دون إبراهيم ، ومن المعلوم أنّ هذا العمل والشهادة المزعومة ، أشبه شيء في مقام العمل باستهزائه بالقوم وسخريته مما يعتقدون.
    فعلى تلك القرائن قد تكلّم إبراهيم بهذه الكلمة لا عن غاية الجد ، بل لغاية أُخرى كما يبيّنها القرآن ، فإذا انتفى الجد بشهادة القرائن القاطعة ينتفي الكذب.
    وأمّا الغاية من هذا الكلام فهو أنّه طرح كلامه بصورة الجد وإن لم يكن عن جد حقيقي ، وطلب منهم أن يسألوا الأصنام بأنفسهم ، وأنّه مَن فعل هذا بهم؟ لغاية أخذ الاعتراف منهم بما أقرّوا به في الآية ، أعني قولهم : ( لقد علمت ما هؤلاء ينطقون ) حتى يتسنّى للخليل ( عليه السلام ) كبتهم وتوبيخهم ـ بأنّه إذا كان هؤلاء على ما يصفون ـ بقوله ( عليه السلام ) : ( أفتعبدون من دون اللّه ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم * أُف لكم ولما تعبدون من دون اللّه أفلا تعقلون ) (1) ، وفي موضع آخر يقول : ( أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) (2) ، فتبين من ذلك أنّ قوله : ( بل فعله كبيرهم ) لم يكن كلاماً عن جد وجزم وعزم حتى يوصف بالكذب ، بل
    1 ـ الأنبياء : 66 ـ 67.
    2 ـ الصافات : 95 ـ 96.


(159)
كان كلاماً أُلقي على صورة الجد ليكون ذريعة لإبطال عبادتهم وشركهم ، وكانت القرائن تشهد على أنّه ليس كلاماً جديّاً ولو كان هذا الكلام صادراً من عاقل غير النبي ( عليه السلام ) لأجزنا لأنفسنا أن نقول : إنّ الغاية ، الاستهزاء والتهكّم بعبدة الأصنام والأوثان حتى يتنبهوا بذلك الوجه إلى بطلان عقيدتهم.
    ولما كان هذا النمط من الحوار والاحتجاج الذي سلكه إبراهيم في غاية القوّة والمتانة ، لم يجد القوم جواباً له إلاّ الحكم عليه بالتعذيب والإحراق شأن كل مجادل ومعاند إذا أفحم ، كما يقول سبحانه : ( قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيم * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ ) (1) ، وفي آية أُخرى : ( قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ) (2) ، هذا هو الحق الصراح لمن طالع القصة في القرآن الكريم ، ومن أمعن النظر فيها يجد أنّ الجواب هو ما ذكرنا.
     جواب آخر عن السؤال
    وربّما يجاب بأنّه لم يكذب وانّما نسب الفعل إلى كبيرهم مشروطاً لا منجزاً ، وانّما يلزم الكذب لو نسبه على وجه التنجيز حيث قال : ( بل فعله كبيرهم هذا فاسئَلوهم إن كانوا ينطقون ) فكأنّه قال : فعل كبيرهم هذا العمل إن كانت الأصنام المكسورة ناطقة ، وبما أنّ المشروط ينتفي بانتفاء شرطه ، وكان الشرط ـ أعني نطقها ـ منتفياً كان المشروط ـ أي كون الكبير قائماً بهذا الفعل ـ منتفياً أيضاً.
    وهذا الجواب لا ينطبق على ظاهر الآية ، لأنّها تشتمل على فعلين :
    أحدهما قريب من الشرط ، والآخر بعيد عنه ، ومقتضى القاعدة رجوع
    1 ـ الصافات : 97 ـ 98.
    2 ـ الأنبياء : 68.


(160)
الشرط إلى القريب من الفعلين لا إلى البعيد ، والرجوع إلى كلا الفعلين خلاف الظاهر أيضاً ، وإليك توضيحه :
    1 ـ بل فعله كبيرهم : الفعل البعيد من الشرط.
    2 ـ فاسألوهم : الفعل القريب من الشرط.
    3 ـ ان كانوا ينطقون : هذا هو الشرط.
    فرجوعه إلى الأوّل وحده ، أو كليهما ، خلاف الظاهر ، والمتعين رجوعه إلى الثاني ، فصار الحكم بأنّه فعله كبيرهم منجزاً لا مشروطاً.

الآية الثالثة
    استدلت المخطّئة لعصمة إبراهيم بالآية الثالثة ، أعني قوله سبحانه : ( وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْب سَلِيم * إِذْ قَالَ لأِبيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أئِفكاً آلِهَةً دُونَ اللّهِ تُريدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ العَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوا عَنْهُ مُدْبِرينَ * فَرَاغَ إلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ) (1).
    فاستدلوا بقوله : ( إنّي سقيم ) قائلين بأنّه لم يكن سقيماً ، وانّما ذكر ذلك عذراً لترك مصاحبتهم في الخروج عن البلد.
    أضف إلى ذلك انّ قوله : ( فنظر نظرة في النجوم ) يشبه ما يفعله المنجمون حيث يستكشفون من الأوضاع الفلكية ، الأحداث الأرضية.
    والجواب : انّ الإشكال مبني على أنّه ( عليه السلام ) قال : ( إنّي سقيم ) ولم يكن سقيماً ، ولم يدل على ذلك دليل إذ من الممكن أنّه كان سقيماً في ذلك الوقت ، وأمّا
    1 ـ الصافات : 83 ـ 91.
مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: فهرس