مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: 171 ـ 180
(171)
قبيل الثاني ، فقوله سبحانه : ( ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربِّه ) يؤوّل إلى جملتين : إحداهما مطلقة ، والأُخرى مشروطة.
    أمّا المطلقة فهي قوله : ( ولقد همّت به ) ، وهو يدل على تحقّق « الهم » من عزيزة مصر بلا تردد.
    أمّا المقيدة فهي قوله : ( وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربِّه ) وتقديره : « لولا أن رأى برهان ربّه لهمّ بها » فيدل على عدم تحقق الهم منه لما رأى برهان ربّه ، وأمّا الجملة المتقدمة على « لولا » أعني قوله ( وهم بها ) فلا تدل على تحقق الهم ، لأنّها ليست جملة منفصلة عمّا بعدها ، حتى تدل على تحقق الهمّ ، وانّما هي قائمة مكان الجواب ، فتكون مشروطة ومعلّقة مثله ، وسيوافيك تفصيله عن قريب.

3. ما هو البرهان؟
    البرهان هو الحجة ويراد به السبب المفيد لليقين ، قال سبحانه : ( فَذَانِكَ بُرْهَانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلائِه ) (1) ، وقال تعالى : ( يَا أَيُّها النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) (2) ، وقال سبحانه : ( أَ إِلهٌ مَعَ اللّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (3) ، فالبرهان هو الحجة اليقينية التي تجلي الحق ولا تدع ريباً لمرتاب ، وعلى ذلك فيجب أن يعلم ما هذا البرهان الذي رآه يوسف ( عليه السلام ) ؟
    والذي يمكن أن يكون مصداق البرهان في المقام هو العلم المكشوف واليقين المشهود الذي يجر النفس الإنسانية إلى طاعة لا تميل معها إلى معصية ،
    1 ـ القصص : 32.
    2 ـ النساء : 174.
    3 ـ النمل : 64.


(172)
وانقياد لا تصاحبه مخالفة ، وقد أوضحنا عند البحث عن العصمة انّ إحدى أُسس العصمة هو العلم اليقين بنتائج المآثم وعواقب المخالفة علماً لا يغلب ، وانكشافاً لا يقهر ، وهذا العلم الذي كان يصاحب يوسف هو الذي صدّه عمّا اقترحت عليه امرأة العزيز.
    ويمكن أن يكون المراد منه سائر الأُمور التي تفيض العصمة على العباد التي أوضحنا حالها. (1)

4. دلالة الآية على عصمة يوسف ( عليه السلام )
    إنّ الآية على رغم ما ذهبت إليه المخطّئة تدل على عصمة يوسف ( عليه السلام ) قبل أن تدلّ على خلافها.
    توضيحه : انّه سبحانه بيّن همّ العزيزة على وجه الإطلاق وقال : ( وهمّت به ) ، وبيّن همّ يوسف بنحو الاشتراط وقال : ( وهمَّ بها لولا أن رأى برهان ربِّه ) ، فالقضية الشرطية لا تدل على وقوع الطرفين خصوصاً مع كلمة « لولا » الدالة على عدم وقوعهما.
    فإن قلت : إنّ كلاًّ من الهمين مطلق حتى الهم الوارد في حق يوسف وانّما يلزم التعليق لو قلنا بجواز تقدم جواب لولا الامتناعية عليها وهو غير جائز بالاتفاق وعليه فيكون قوله : ( وهمّ بها ) مطلقاً إذ ليس جواباً لكلمة « لولا ».
    قلت : إنّ جواب « لولا » محذوف وتقديره « لهمّ بها » وليست الجملة المتقدمة جواباً لها حتى يقال : انّ تقدم الجواب غير جائز بالاتفاق ، ومع ذلك فليست تلك الجملة مطلقة ، بل هي أيضاً مقيدة بما قيد به الجواب ، لأنّه إذا كان الجواب مقيداً
    1 ـ راجع ص 21 ـ 25 من هذا الكتاب.

(173)
فالجملة القائمة مكانه تكون مثله ، وله نظير في الكتاب العزيز مثل قوله : ( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) (1) ، والمعنى انّه سبحانه ثبّت نبيه فلم يتحقّق منه الركون ولا الاقتراب منه.
    وقال سبحانه : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْء ) (2) والمعنى أنّ تفضّله سبحانه على نبيه صار سبباً لعدم هم الطائفة على إضلاله.
    والآية مثل الآيتين غير أنّ الجواب فيها محذوف لدلالة الجملة المتقدمة عليه بخلافهما.
    وحاصل الكلام : أنّه في مورد الآية ونظائرها يكون الجزاء منتفياً بانتفاء شرطه ، غير انّ هذه الجمل إنّما تستعمل في ما إذا كانت هناك أرضية صالحة لتحقق الجزاء ، وإن لم يتحقق لانتفاء الشرط ، وفي مورد الآية ، أرضية الهم كانت موجودة في جانب يوسف لتجهزه بالقوى الشهوية ، وغيرها من قوى النفس الأمارة ، وكانت هذه العوامل مقتضية لحدوث الهم بالفحشاء ، ولكن صارت خائبة غير مؤثرة لأجل رؤية برهان ربّه ، والشهود اليقيني الذي يمنع النبي عن اقتراف المعصية والهم بها.
    وإن شئت قلت : منعته المحبة الإلهية التي ملأت وجوده وشغلت قلبه ، فلم تترك لغيرها موضع قدم ، فطرد ما كان يضاد تلك المحبة.
    وهذا هو مفاد الآية ولا يشك فيه من لاحظ المقدمات الأربع التي قدّمناها.
    وعلى ذلك فبما انّ « اللام » في قوله : ( ولقد همّت به ) للقسم يكون معنى
    1 ـ الإسراء : 74.
    2 ـ النساء : 113.


(174)
قوله : ( وهمّ بها ) بحكم عطفه عليه والمعنى : واللّه لقد همت امرأة العزيز به وواللّه لولا أن رأى يوسف برهان ربّه لهمّ بها ، ولكنّه لأجل رؤية البرهان واعتصامه ، صرف عنه سبحانه السوء والفحشاء ، فإذا به ( عليه السلام ) لم يهم بشيء ولم يفعل شيئاً ، لأجل تلك الرؤية.

أسئلة وأجوبة
    ولأجل رفع الغطاء عن وجه الحقيقة على الوجه الأكمل تجب الإجابة عن عدة من الأسئلة التي تثار حول الآية ، وإليك بيانها وأجوبتها :
     السؤال الأوّل
    انّ تفسير الهمّ الوارد في الآية في كلا الجانبين بالعزم على المعصية ، تكرار لما جاء في الآية المتقدمة بصورة واضحة وهي قوله : ( وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلّقت الأبواب وقالت هيت لك ) ومع هذا البيان الواضح لا وجه لتكراره ثانياً بقوله : ( ولقد همّت به وهمّ بها ) خصوصاً في همّها به إذ ورد في الآية المتقدمة بصورة واضحة أعني قوله : ( هيت لك ).
    والجواب : انّ الدافع إلى التكرار ليس هو لإفادة نفسه مرة ثانية بل الدافع هو بيان كيفية نجاة يوسف من هذه الغائلة ، ولأجل ذلك عاد إلى نفس الموضوع مجدّداً ليذكر مصير القصة ونهايتها ، وهذا نظير ما إذا حدّث أحد عن تنازع شخصين وإضرار أحدهما بالآخر واستعداده للدفاع عن نفسه ، فإذا أفاد ذلك ثم أراد أن يشير إلى نتيجة ذلك العراك يعود ثانيةً إلى بيان أصل التنازع حتى يبين مصيره ونهايته والآيتان من هذا القبيل.


(175)
    وبذلك يظهر أنّ ما أفاده صاحب المنار في هذا المقام غير سديد حيث قال : إنّه قد علم من القصة أنّ هذه المرأة كانت عازمة على ما طلبته طلباً جازماً مصرّة عليه ليس عندها أدنى تردّد فيه ولا مانع منه يعارض المقتضى له ، فإذاً لا يصح أن يقال : إنّها همّت به مطلقاً إذ الهم مقاربة الفعل المتردد فيه. (1)
    أقول : قد عرفت دافع التكرار فلا نعيده ، بقي الكلام فيما أفاده في تفسير الهم بأنّه عبارة « عن مقاربة الفعل المتردّد فيه » ولا يخفى أنّه لا يصح في قوله سبحانه : ( وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ) (2) ، أي إخراج الرسول من مكة ، فهم كانوا جازمين بذلك ، وقد تآمروا عليه في ليلة خاصة معروفة في السيرة والتاريخ ، كما لا يصح في قوله سبحانه : ( وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ) (3) ، حيث حاول المنافقون أن ينفروا بعير النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في العقبة في منصرفه من غزوة تبوك.
     السؤال الثاني
    إنّ تفسير البرهان بالعصمة لا يتناسب مع سائر استعمالاته في القرآن مثلاً البرهان في قوله سبحانه : ( فَذانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ ) (4) عبارة عن معاجز موسى من العصا واليد البيضاء ، وعلى ذلك فيجب أن يفسر البرهان بشيء ينطبق على الإعجاز لا العصمة التي هي من مقولة العلم.
    والجواب : انّ البرهان بمعنى الحجة وهي تنطبق تارة على المعجزة وأُخرى على العلم المكشوف واليقين المشهود الذي يصون الإنسان عن اقتراف المعاصي ،
    1 ـ تفسير المنار : 12/286.
    2 ـ التوبة : 13.
    3 ـ التوبة : 74.
    4 ـ القصص : 32.


(176)
وقد سبق منا أنّ العصمة (1) لا تسلب القدرة ، فهي حجة للنبي في آجله وعاجله ودليل في حياته إلى سعادته.
     السؤال الثالث
    إنّ قوله سبحانه : ( كَذلِكَ لِنَصرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والفَحْشَاءَ ) ظاهر في أنّ ( السوء ) غير ( الفحشاء ) فلو فسر قوله : ( ولقد همّت به وهمّ بها ) بالعزم على المعصية يلزم كونهما بمعنى واحد وهو خلاف الظاهر.
    والجواب : انّ المراد من ( السوء ) هو الهم والعزم ، والمراد من ( الفحشاء ) هو نفس العمل ، فاللّه سبحانه صرف ببركة العصمة ـ نفس الهم ونفس الاقتراف ـ كلا الأمرين.
    قال العلاّمة الطباطبائي : الأنسب أنّ المراد بالسوء هو الهم بها والميل إليها ، كما أنّ المراد بالفحشاء اقتراف الفاحشة وهي الزنا ، ثم قال : ومن لطيف الإشارة ما في قوله : ( لِنَصرف عنه السوء والفحشاء ) حيث جعل السوء والفحشاء مصروفين عنه لا هو مصروفاً عنهما ، لما في الثاني من الدلالة على أنّه كان فيه ما يقتضي اقترافه لهما المحوج إلى صرفه عن ذلك ، وهو ينافي شهادته تعالى بأنّه من عباده المخلصين ، وهم الذين أخلصهم اللّه لنفسه فلا يشاركهم فيه شيء ، ولا يطيعون غيره من تسويل شيطان أو تزيين نفس أو أيّ داع من دون اللّه سبحانه.
    ثم قال : وقوله : ( انّه من عبادنا المخلصين ) في مقام التعليل لقوله : ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ) ، والمعنى عاملنا يوسف كذلك ، لأنّه من عبادنا المخلصين ، ويظهر من الآية انّ من شأن المخلصين أن يروا برهان ربّهم
    1 ـ راجع الجزء الرابع من مفاهيم القرآن : 401 ـ 405.

(177)
وإنّ اللّه سبحانه يصرف كل سوء وفحشاء عنهم فلا يقترفون معصيته ولا يهمون بها بما يريهم اللّه من برهانه ، وهذه هي العصمة الإلهية. (1)
     السؤال الرابع
    لو كان المراد من ( برهان ربّه ) هو العصمة ، فلماذا قال سبحانه : ( رأى برهانه ربّه ) ، فإنّ هذه الكلمة تناسب الأشياء المحسوسة كالمعاجز والكرامات لا العصمة التي هي علم قاهر لا يغلب ويصون صاحبه عن اقتراف المعاصي.
    أقول : إنّ الرؤية كما تستعمل في الرؤية الحسية والرؤية بالأبصار ، تستعمل أيضاً في الإدراك القلبي والرؤية بعين الفؤاد قال سبحانه : ( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ) (2) ، وقوله سبحانه : ( أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَآهُ حَسَناً ) (3) ، وقوله سبحانه : ( وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنْا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرينَ ) (4) ، وهذه الآيات ونظائرها تشهد بوضوح بأنّ الرؤية تستعمل في الإدراك القلبي والاستشعار الباطني.
    وعلى ذلك فيوسف الصديق لمّا وقع مقابل ذلك المشهد المغري ، الذي يسلب اللب والعقل عن البشر ، كان المتوقع بحكم كونه بشراً ، الميل إلى المخالطة معها والعزم على الإتيان بالمعصية ، ولكنّه لما أدرك بالعلم القاطع أثر تلك المعصية صانه ذلك عن أي عزم وهمّ بالمخالطة.
    هذا هو المعنى المختار في الآية ، وبذلك تظهر نزاهة يوسف عن أي هم
    1 ـ الميزان : 11/142.
    2 ـ النجم : 11.
    3 ـ فاطر : 8.
    4 ـ الأعراف : 149.


(178)
وعزم على المخالطة.
    وهناك تفسير آخر للآية يتفق مع المعنى المختار في تنزيه يوسف عن كل ما لا يناسب ساحة النبوة غير أنّه من حيث الانطباق على ظاهر الآية يعد في الدرجة الثانية ، وهذا المعنى هو الذي اختاره صاحب « المنار » وطلاه بعض المعاصرين وزوّقه ، وسيوافيك بيان صاحب المنار وما جاء به ذلك المعاصر في البحث التالي :
     المعنى الثاني للآية
    انّ المراد من الهم في كلا الموردين هو العزم على الضرب والقتل مثل قوله سبحانه : ( وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ) (1) حيث قصد المشركون اغتيال النبي عند منصرفه من تبوك ، فيكون المعنى أنّ امرأة العزيز همت بضربه وجرحه وبطبيعة الحال لم يكن أمام يوسف إلاّ أن يدافع عن نفسه غير انّه رأى انّ ذلك ربّما ينجر إلى جرح امرأة العزيز ويكون ذلك ذريعة بيدها لاتّهام يوسف وبهته ، فقد أدرك هذا المعنى ولم يهم بها وسبقها إلى الباب ليتخلّص منها ، وعلى ذلك فيكون معنى الهم في كلا الموردين هو المضاربة لكنه من جانب العزيزة بدافع ومن جانب يوسف بدافع آخر.
    وهذا التوجيه يتناسب مع حالة العاشق الواله عندما يخفق في نيل ما يصبو إليه ويتوق إلى تحصيله ، فإنّه في مثل هذا الموقف تحدث له حالة باطنية تدفعه إلى الانتقام من معشوقه الذي لم يسايره في مطلبه ولم يحقق له غرضه ، وقد حدث مثل هذا لامرأة العزيز ، فإنّ ـ ها عندما أخفقت في نيل ما تريد من يوسف ، دفعها الشعور بالهزيمة والإخفاق إلى الانتقام من يوسف وهذا هو معنى قوله : ( ولقد همّت به )
    1 ـ التوبة : 74.

(179)
على الإطلاق وبلا تقييد.
    ولم يكن في هذه الحالة أمام يوسف إلاّ أن يدافع عن نفسه ، ولكنّه لما استشعر بأنّ ضرب العزيزة سوف يتخذ ذريعة لبهته واتهامه ، اعتصم عن ضربها والهمّ بها ، وهذا معنى قوله : ( وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه ).
    وهذا المعنى هو المختار لبعض أهل التفسير ، واختاره صاحب المنار ، وسعى في تقويته بقوله : تاللّه لقد همّت المرأة بالبطش به لعصيانه أمرها وهي في نظرها سيدته وهو عبدها وقد أذلّت نفسها له بدعوته الصريحة إلى نفسها بعد الاحتيال عليه بمراودته عن نفسه ، ومن شأن المرأة أن تكون مطلوبة لا طالبة ، ولكن هذا العبد العبراني قد عكس القضية وخرق نظام الطبيعة فأخرج المرأة من طبع أُنوثتها في دلالها وتمنعها وهبط بالسيدة المالكة من عز سيادتها وسلطانها وعندئذ همّت بالبطش به في ثورة غضبها وهو انتقام معهود من مثلها وممن دونها في كل زمان ومكان. (1)
    ثم إنّ بعض المعاصرين اختار المعنى المذكور غير انّه فسر ( برهان ربِّه ) بغير الوجه المذكور في هذا الرأي بل فسره بانفتاح الباب بإرادة اللّه سبحانه حيث إنّ امرأة العزيز كانت قد غلقت الأبواب وأحكمت سدها ، وعندما وقع هذا الشجار بينها وبين يوسف ، سبق يوسف إلى الباب فراراً منها وانفتح الباب له بإرادة اللّه سبحانه ، وهذا هو برهان الرب الذي رآه ، ويدل على ذلك انّ القرآن يصرح بغلق الأبواب ولا يأتي عن انفتاح الباب بأي ذكر ، وهذا يدل على أنّ المراد من ( برهان ربّه ) هو فتح الباب من عند اللّه سبحانه في وجه يوسف كرامة له.
    ولا يخفى ضعف هذا التفسير ، وذلك لأنّه لو كان المراد من البرهان هو
    1 ـ تفسير المنار : 12/278.

(180)
انفتاح الباب لزم ذكره عند قوله أو قبله ( واستبقا الباب ) لا في الآية المتقدمة عليه ويظهر ذلك بملاحظتهما حيث قال :
    ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ... ) (1).
    ( وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُر وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ) (2).
    ترى أنّه يذكر همّه بها ورؤية البرهان في آية ثم يذكر استباقهما إلى الباب في آية أُخرى مع الفصل بينهما بذكر أُمور منها ( إنّه كان من المخلصين ) ، فلو كان المراد من « رؤية البرهان » هو انفتاح الباب كان المناسب ذكر الاستباق قبلها.
    على أنّ الظاهر من قوله « وغلّقت الأبواب » هو سدّ الأبواب لا إقفالها بمعنى وضع قفل عليها يمتنع معه فتحها بيسر ، وإنّما لم تقفلها لأنّها لم تكن تتوقع من يوسف أن لا يستجيب لها ويعصي أمرها.
     المعنى الثالث للآية
    انّ الهمّ من جانب يوسف هو خطور الشيء بالبال وان لم يقع العزم عليه ، وربّما يستعمل الهم في ذلك ، قال كعب بن زهير :
فكم فهموا من سيد متوسع ومن فاعل للخير انّ همّ أو عزم
    ولا يخفى أنّ هذا التفسير عليل ، لأنّ الظاهر من الهمّ في كلا الموردين واحد ولم يكن الهمّ من جانب العزيزة إلاّ العزم ، والتفكيك بين الهمين خلاف الظاهر.
    وعلى كل تقدير فقصة يوسف الواردة في القرآن تدل على نزاهته من أوّل
    1 ـ يوسف : 24.
    2 ـ يوسف : 25.
مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: فهرس