مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: 221 ـ 230
(221)
عصمة يونس ( عليه السلام ) وذهابه مغضباً
    إنّ المخطّئة لعصمة الأنبياء استدلوا على مقصودهم بما ورد حول قصة يونس من الآيات ، ونحن نذكر عامّة ما ورد في ذلك المجال ، ثم نستوضح مقاصدها.
    فنقول : قد وردت قصته على نحو التفصيل والإجمال في سور أربع : يونس ، الأنبياء ، الصافّات ، والقلم ، وإليك الآيات :
    1 ـ ( فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين ) (1).
    2 ـ ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَن نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (2).
    3 ـ ( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) (3).
    4 ـ ( وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ
    1 ـ يونس : 98.
    2 ـ الأنبياء : 87.
    3 ـ الأنبياء : 88.


(222)
فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِن يَقْطِين * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْف أَوْ يَزيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين ) (1).
    5 ـ ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِن رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحينَ ) (2).
    هذه هي الآيات الواردة حول قصة يونس ، وبالإحاطة بها يتمكّن المفسّ ـ ر من الإجابة على الأسئلة المطروحة حولها ، وإن لم تكن لبعضها صلة بالعصمة.
    أمّا ما جاء من الروايات حول القصة ، فكلّها روايات آحاد لا يمكن الركون إلى الخصوصيات الواردة فيها ، بل بعض ما فيها لا يناسب ساحة الإنسان العادي فضلاً عن النبي ، ولأجله تركنا ذكرها.
    والذي تضافرت عليه الروايات هو أنّه لمّا دعا قومه إلى الإسلام ، وعرف منهم الامتناع ، دعا عليهم ووقف على استجابة دعائه ، فأخبرهم بنزول العذاب ، فلمّا ظهرت أماراته كان من بينهم عالم أشار إليهم أن افزعوا إلى اللّه لعلّه يرحمكم ، ويردّ العذاب عنكم ، فقالوا : كيف نصنع؟ قال : اجتمعوا واخرجوا إلى المفازة ، وفرّقوا بين النساء والأولاد ، وبين الإبل وأولادها ... ثم ابكوا و ادعوا ، فذهبوا وفعلوا ذلك ، وضجّوا وبكوا ، فرحمهم اللّه ، وصرف عنهم العذاب. (3)
    فنقول : توضيح مفاد الآيات يتوقف على البحث عن عدّة أُمور :
    1 ـ الصافات : 139 ـ 148.
    2 ـ القلم : 48 ـ 50.
    3 ـ بحار الأنوار : 14/380 من الطبعة الجديدة رواه جميل بن درّاج الثقة عن الصادق ( عليه السلام ).


(223)
1. لماذا كشف العذاب عن قوم يونس دون غيرهم؟
    صريح قوله سبحانه : ( فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين ) (1).
    إنّ أُمّة يونس هي الأُمّة الوحيدة التي نفعها إيمانها قبل نزول العذاب وكشف عنهم ، وذلك لأنّ « لولا » التحضيضية إذا دخلت على الفعل الماضي تفيد معنى النفي ، كما في قولك : هلا قرأت القرآن ، وعلى ذلك يكون معنى قوله سبحانه : ( فلولا كانت قرية آمنت ) انّه لم يكن ذلك أبداً ، فاستقام الاستثناء بقوله : ( إلاّ قوم يونس ) ، والمعنى هلا كانت قرية من هذه القرى التي جاءتهم رسلنا فكذبوهم آمنت قبل نزول العذاب فنفعها إيمانها ، لكن لم يكن شيء من ذلك إلاّ قوم يونس لمّا آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي.
    ولا شك أنّه قد نفع إيمان قوم يونس ولكن لم ينفع إيمان فرعون ، وعندئذ يُطرح هنا السؤال التالي : ما الفرق بين الإيمانين؟ حيث نفع إيمانهم دون إيمان الثاني وأتباعه ، يقول سبحانه : ( وَجَاوَزْنَا بِبَني إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إلاّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * ءَآلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ) (2).
    1 ـ يونس : 98.
    2 ـ يونس : 90 ـ 92.


(224)
    الجواب : الفرق بين الإيمانين ، أحدث هذا الفرق ، حيث كان إيمان قوم يونس إيماناً عن اختيار ، ولأجل ذلك بقوا على إيمانهم بعد رفع العذاب ، وكان إيمان فرعون إيماناً اضطرارياً غير ناجم عن ثورة روحية على الكفر والوثنية ، بل كان وليد رؤية العذاب وهجوم الأمواج ، لا أقول : إنّ إيمان قوم يونس كان حقيقياً جدياً وإيمان الآخرين كان صورياً غير حقيقي ، بل : الكل كان حقيقياً ، وإنّما الاختلاف في كون أحدهما ناشئاً من اختيار ، والآخر ناشئاً من الاضطرار والخوف ، وبعبارة أُخرى : ناشئاً من عامل داخلي وناشئاً من عامل خارجي.
    والدليل على ذلك استقرار وثبوت قوم يونس على الإيمان بعد كشف العذاب عنهم لقوله سبحانه : ( وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلى حِين ) ، ويقول سبحانه : ( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِين ) (1) ، والظاهر من الآية أنّ يونس بعدما نجا ممّا ابتلي به ، أرسل إلى نفس قومه ، فاستقبلوه بوجوه مشرقة وتمتعوا في ظل الإيمان إلى الوقت المؤجل في علم اللّه.
    وأمّا الفراعنة فكانت سيرتهم الإيمان عند نزول العذاب والرجوع إلى الفساد وإلى ما كانوا عليه من الفساد في مجال العقيدة والعمل ، بعد كشفه ، والذكر الحكيم يصرّح بذلك في الآيات التالية : ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَات مُفَصَّلات فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ * وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَل هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ) (2).
    1 ـ الصافات : 147 ـ 148.
    2 ـ الأعراف : 133 ـ 135.


(225)
    وثبات قوم يونس على إيمانهم وعدم انحرافهم عنه بعد كشف العذاب ، ونكث الفراعنة بعد كشف الرجز عنهم ، خير دليل على أنّ إيمان القوم كان إيماناً اختيارياً ثابتاً ونابعاً عن اليقين ، وإيمان الفراعنة كان اضطرارياً ناشئاً عن الخوف.
    والأوّل من الإيمانين يخرق حجب الجهل ، ويشاهد الإنسان عبوديته بعين القلب وعظمة الرب ونور الإيمان ، فيصير خاضعاً أمام اللّه ، يعبده ولا يعبد غيره.
    والثاني منهما يدور مدار وجود عامل الاضطرار والإلجاء ، فيؤمن عند وجوده ويكفر بارتفاعه ، ولا يعد ذلك الإيمان كمالاً للروح ولا قيمة له في سوق المعارف ، قال سبحانه : ( وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنينَ ) (1).
    ولا شك أنّه تعلّقت إرادته التشريعية بإيمان الناس كلّهم بشهادة بعث الأنبياء وإرسال الرسل ، ولكن لم تتعلّق إرادته التكوينية بإيمانهم ، وإلاّ لم تتخلف عن مراده وأصبح الناس كلّهم مؤمنين إيماناً لا عن اختيار ، ولكن بما أنّه لا قيمة للإيمان الخارج عن إطار الاختيار والناشئ عن الإلجاء والاضطرار ، لم تتعلّق إرادته سبحانه بإيمانهم ، وإليه يشير قوله : ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً ).

2. هل كان كشف العذاب تكذيباً لإيعاد يونس؟
    قد وعد سبحانه في كتابه العزيز بأنه يؤيد رسله وينصرهم ولا يكذبهم وهو عز من قائل : ( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ ) (2).
    1 ـ يونس : 99.
    2 ـ غافر : 51.


(226)
    فلو أخبر واحد منهم عن وقوع حادثة أو نزول رحمة وعذاب على قوم ، فلابد أن يكون وضع المخبر به في المستقبل على وجه لا يلزم منه تكذيبهم ، وذلك إمّا بوقوع نفس المخبر به كما هو الحال في إخبار صالح لقومه ، حيث تنبّأ وقال : ( تَمتّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثةَ أيّام ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوب ) ، فلمّا بلغ الأجل المحدد ( وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَمْ يَغْنَوا فِيهَا ألا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ ألا بُعْداً لِثَمُودَ ) (1) ، وإمّا بظهور علامات وأمارات دالة على صدق مقال النبي وإخباره ، وانّ عدم تحقّقه لأجل تغيير التقدير بالدعاء والعمل الصالح ، قال سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَات مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ ) (2).
    وقال عز من قائل : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (3).
    هذه سنة اللّه سبحانه في إنزال النعمة والنقمة ورفعهما.
    وما أخبر به يونس كان من هذا القبيل ، فقد تنبّأ بنزول العذاب ، وشاهد القوم طلائع العذاب وعلائمه (4) ، فبادروا بالتوبة والإنابة إلى اللّه حسب إرشاد عالمهم ، فكشف عنهم العذاب ، وليس في هذا تكذيب ليونس ، لو لم يكن فيه تصديق حيث وقفوا على صدق مقالته غير أنّ للّه سبحانه سنناً في الحياة ، فأخذ المعتدي باعتدائه سنّة ، والعفو عنه لإنابته أيضاً سنّة ، ولكل موضع خاص ، وهذا
    1 ـ هود : 65 ، 67 ـ 68.
    2 ـ الأعراف : 96.
    3 ـ الأنفال : 53.
    4 ـ لاحظ تفسير الطبري : 11/117 ـ 118; الدر المنثور : 3/317 ـ 318; البحار : 14/396 من الطبعة الحديثة.


(227)
معنى البداء الذي تقول به الإمامية ، الذي لو وقف إخواننا أهل السنّة على حقيقته لاعترفوا به من صميم القلب ، ولكن الدعايات الباطلة حالت بينهم وبين الوقوف على ما تتبناه الإمامية في هذا المضمار ، وقد أوضحنا حقيقة الحال في رسالة « البداء من الكتاب والسنّة ». (1) ومن أراد الوقوف على واقع الحال فليرجع إليها.

3. أسئلة ثلاثة حول عصمته
    ألف. ما معنى كونه مغاضباً؟ ومن المغضوب عليه؟
    ب. ماذا يراد من قوله : ( فظن أن لن نقدر عليه ) ؟
    ج. كيف تجتمع العصمة مع اعترافه بكونه من الظالمين؟
    هذه هي الأسئلة الحسّاسة في قصة يونس ( عليه السلام ) ، وقد تمسّك بها المخطّئة ، وإليك توضيحها واحداً بعد واحد :
    أمّا الأوّل : فقد زعم المخطّئة أنّ معناه أنّه خرج مغاضباً لربِّه من حيث إنّه لم ينزل بقومه العذاب.
    ولكنّه تفسير بالرأي ، بل افتراء على الأنبياء ، وسوء ظن بهم ، ولا يغاضب ربَّه إلاّ من كان معادياً له وجاهلاً بحكمه في أفعاله ، ومثل هذا لا يليق بالمؤمن فضلاً عن الأنبياء.
    وإنّما كان غضبه على قومه لمقامهم على تكذيبه وإصرارهم على الكفر ويأسه من توبتهم ، فخرج من بينهم. (2)
    1 ـ مطبوعة منتشرة.
    2 ـ تنزيه الأنبياء : 102.


(228)
    هكذا فسّره الإمام الرضا ( عليه السلام ) عندما سأله المأمون عن مفاد الآية وقال : « ذلك يونس بن متى ذهب مغاضباً لقومه ». (1)
    وأمّا الثاني : أعني : ( فظن أن لن نقدر عليه ) فالفعل ، أعني : ( نقدر ) ، من القدر بمعنى الضيق لا من القدرة ، قال سبحانه : ( وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللّهُ ) (2) ، وقال سبحانه : ( إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ) (3) ، فمعنى الآية أنّه ظن أن لا يضيق عليه الأمر لترك الصبر والمصابرة مع قومه ، لا بمعنى أنّه خطر هذا الظن بباله ، بل كان ذهابه وترك قومه يمثل حالة من ظن أن لن نقدر عليه في خروجه من قومه من غير انتظار لأمر اللّه ، فكانت مفارقته قومه ممثلة لحال من يظن بمولاه ذلك.
    وأمّا تفسيره بأنّه ظن أنّه سبحانه لا يقدر عليه ، فهو تفسير بما لا تصح نسبته إلى الجهلة من الناس فضلاً عن الأولياء والأنبياء.
    وبما أنّ مفارقته قومه بلا إذن منه سبحانه ـ كان يمثل حال من يظن أن لا يضيّق مولاه عليه ـ ابتلاه اللّه بالحوت فالتقمه.
    فوقف على أنّه ترك ما هو الأولى فعلاً ، فندم على عمله ( فنادى في الظلمات أن لا إله إلاّ أنت ).
    ونقل الزمخشري في كشّافه : عن ابن عباس أنّه دخل على معاوية فقال : لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة ، فغرقت فيها ، فلم أجد لنفسي خلاصاً إلاّ بك ، قال : وما هي يا معاوية؟ فقرأ هذه الآية وقال : أو يظن نبي اللّه أن لا يقدر عليه؟
    1 ـ بحار الأنوار : 14/387.
    2 ـ الطلاق : 7.
    3 ـ الإسراء : 30.


(229)
قال : هذا من القدر لا من القدرة. ثم أضاف صاحب الكشاف : يصح أن يفسر بالقدرة على معنى « أن لن نعمل فيه قدرتنا » ، وأن يكون من باب التمثيل ، بمعنى فكانت حاله ممثلة بحال من ظنّ أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمر اللّه ، ويجوز أن يسبق ذلك إلى وهمه بوسوسة الشيطان ثم يردعه ويردّه بالبرهان ، كما يفعل المؤمن المحقق بنزعات الشيطان وما يوسوس إليه في كل وقت. (1)
    ولا يخفى أنّ ما نقله عن ابن عباس هو المعتمد ، بشهادة استعماله في القرآن بمعنى الضيق ، وهو المناسب لمفاد الآية ، وأمّا الوجهان الآخران فلا يصح الركون إليهما ، خصوصاً الوجه الأخير ، لأنّ الأنبياء أجل شأناً من أن تحوم حول قلوبهم الهواجس الشيطانية حتى يعودوا إلى معالجتها بالبرهان ، فليس له سلطان على المخلصين من عباده ، وقد اعترف بذلك الشيطان وقال كما يحكيه سبحانه : ( إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (2).
    وأمّا السؤال الثالث : فقد مرّ أنّ الظلم في اللغة بمعنى وضع الشيء في غير موضعه ، ولا شك أنّ مفارقته قومه وتركهم في الظرف القلق العصيب كان أمراً لا يترقب صدوره منه ، وإن لم يكن عصياناً لأمر مولاه ، فالعطف والحنان المترقب من الأنبياء غير ما يترقب من غيرهم ، فلأجل ذلك كان فعله واقعاً غير موقعه.
    ومن المحتمل أن يكون الفعل الصادر منه في غير موقعه هو طلبه العذاب لقومه وترك المصابرة ، ويؤيده قوله سبحانه : ( فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ) (3) ، فالظاهر أنّ متعلّق النداء في الآية
    1 ـ الكشاف : 2/335 ـ 336.
    2 ـ ص : 83.
    3 ـ القلم : 48.


(230)
طلب نزول العذاب على قومه بقرينة قوله : ( وهو مكظوم ) ، أي كان مملوءاً غيضاً أو غماً ، والمعنى : يا أيّها النبي لا تكن مثل صاحب الحوت ، ولا يوجد منك مثل ما وجد منه من الضجر والمغاضبة ، فتُبتلى ببلائه ، فاصبر لقضاء ربك ، فإنّه يستدرجهم ويملي لهم ولا تستعجل لهم العذاب لكفرهم.
    ويستفاد من بعض الروايات أنّ سبب لومه وردعه كان أمراً ثالثاً ، وهو أنّه لمّا وقف على نجاة أُمّته غضب وترك المنطقة. (1)
    والوجهان : الأوّل والثاني هما الصحيحان.
    وممّا ذكرنا يعلم مفاد قوله سبحانه : ( إذ أبق إلى الفلك المشحون ) ، فشبّه حاله بالعبد الآبق ، وذلك لما مرّ من أنّ خروجه في هذه الحال كان ممثلاً لإباق العبد من خدمة مولاه ، فأخذه اللّه بذلك.
    وعلى كل تقدير فالآيات تدل على صدور عمل منه كان الأليق بحال الأنبياء تركه ، وهو يدور بين أُمور ثلاثة : أمّا ترك قومه من دون إذن ، أو طلب العذاب وكان الأولى له الصبر ، أو غضبه على نجاة قومه.
    إلى هنا تم توضيح الآيات المهمة التي وقعت ظواهرها ذريعة لأُناس يستهترون بالقيم والفضائل ويستهينون بأكبر الواجبات تجاه الشخصيات الإلهية ، وبقي الكلام في عصمة النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ونفيض القول فيها في البحث الآتي.
    1 ـ بحار الأنوار : 14/38.
مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: فهرس