مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: 251 ـ 260
(251)
موسى فقضى عليه ، وكان الرجل من آل فرعون.
    وقد ور (1) دت تلك اللفظة في الذكر الحكيم سبع مرّات وأُريد بها في الجميع الجرم قال سبحانه : ( غَافِرَ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ) (2) ، وقال عزّ وجلّ : ( وَإِذَا الْمَوْءُدَةُ سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنْب قُتِلَتْ ).
    وعلى ذلك ف (3) كون الذنب بمعنى الجرم مما لا ريب فيه ، غير أنّ الذي يجب التنبيه عليه ، هو أنّ اللفظ لا يدل على أزيد من كون صاحبه عاصياً وطاغياً وناقضاً للقانون ، وأمّا الذي عصي وطغي عليه ونقض قانونه فهو يختلف حسب اختلاف البيئات والظروف ، وليست خصوصية العصيان للّه سبحانه مأخوذة في صميم اللفظ بحيث لو أُطلق ذلك اللفظ يتبادر منه كونه سبحانه هو المعصي أمره ، وإنّما تستفاد الخصوصية من القرائن الخارجية ، وهذا هو الأساس لتحليل الآية وفهم المقصود منها.

3. الغفران في اللغة
    الغفران في اللغة ، هو : الستر ، قال ابن فارس في المقاييس : عظم بابه الستر ، ثم يشذُّ عنه ما يُذكر ، فالغَفر : السَّتر ، والغفران والغَفْر بمعنًى يقال : غفر اللّه ذنبه غَفراً ومغفرةً وغفراناً. (4) وقال في اللسان بمثله. (5)
    1 ـ لسان العرب : 3/389.
    2 ـ غافر : 3.
    3 ـ التكوير : 8 و 9.
    4 ـ معجم مقاييس اللغة : 4/385.
    5 ـ لسان العرب : 5/25.


(252)
4. الفتح لغاية مغفرة الذنب
    الآية تدل على أنّ الغاية المتوخاة من الفتح هي مغفرة ذنب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ما تقدّم منه وما تأخّر ، غير أنّ في ترتب تلك الغاية على ذيها غموضاً في بادئ النظر ، والإنسان يستفسر في نفسه كيف صار تمكينه سبحانه نبيّه من فتح القلاع والبلدان ، أو المهادنة والمصالحة في أرض الحديبية مع قريش ، سبباً لمغفرة ذنوبه ، مع أنّه يجب أن تكون بين الجملة الشرطية والجزائية رابطة عقلية أو عادية ، بحيث تعدّ إحداهما علّة لتحقّق الأُخرى أو ملازمة لها ، وهذه الرابطة خفية في المقام جداً ، فإنّ تمكين النبي من الأعداء والسيطرة عليهم يكون سبباً لانتشار كلمة الحق ورفض الباطل واستطاعته التبليغ في المنطقة المفتوحة ، فلو قال : إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ، لتتمكن من الإصحار بالحق ، ونشر التوحيد ، ودحض الباطل ، كان الترتب أمراً طبيعياً ، وكانت الرابطة محفوظة بين الجملتين.
    وأمّا جعل مغفرة ذنوبه جزاء لفتحه صقعاً من الأصقاع ، فالرابطة غير واضحة.
    وهذه هي النقطة الحساسة في فهم مفاد الآية ، وبالتالي دحض زعم المخطّئة في جعلها ذريعة لعقيدتهم ، ولو تبيّنت صلة الجملتين لاتّضح عدم دلالتها على ما تتبنّاه تلك الطائفة.
    فنقول : كانت الوثنية هي الدين السائد في الجزيرة العربية ، وكانت العرب تقدّس أوثانها وتعبد أصنامها ، وتطلب منهم الحوائج ، وتتقرب بعبادتها إلى اللّه سبحانه هذا من جانب ، ومن جانب آخر : جاء النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) داعياً إلى التوحيد في مجالي الخلق والأمر ، وإلى حصر التقديس والعبادة في اللّه ، وأنّه لا معبود سواه ولا


(253)
شفيع إلاّ بإذنه ، فأخذ بتحطيم الوثنية ورفض عبادة الأصنام ، وأنّها أجسام بلا أرواح لا يملكون شيئاً من الشفاعة والمغفرة ، ولا يقدرون على الدفاع عن أنفسهم فضلاً عن عبدتهم ، فصارت دعوته ثقيلة على قريش وأذنابهم ، حتى ثارت ثائرتهم على النبي الأكرم ، فقابلوا براهين النبي بالبذاءة والشغب والسب والنسب المفتعلة ، فوصفوه بأنّه كاهن وساحر ، ومفتر وكذّاب ، وقد أعربوا عن نواياهم السيئة عندما رفعوا الشكوى إلى سيّد الأباطح وقالوا : إنّ ابن أخيك قد سبَّ آلهتنا وعاب ديننا وسفّه أحلامَنا وضلل آباءَنا ، فإمّا أن تكفّه عنا وإمّا أن تخلّ ـ ي بيننا وبينه. (1)
    ولمّا وقف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على كلام قومه عن طريق عمّه أظهر صموده وثباته في طريق رسالته بقوله : « يا عم واللّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللّه أو أهلك فيه ، ما تركته » قال : ثم استعبر فبكى ، ثم قام. فلمّا ولى ناداه أبو طالب فقال : اقبل يابن أخي ، قال : فأقبل عليه رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقال : اذهب يابن أخي فقل ما أحببت فواللّه ما أُسلّمك لشيء أبداً ». (2)
    فلمّ ـ ا وقفت قريش على صمود الرسول شرعوا بالمؤامرة والتخطيط عليه حتى قصدوا اغتياله في عقر داره ، فنجّاه اللّه من أيديهم.
    ولمّا استقرَّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في يثرب واعتز بنصرة الأنصار ومن حولها من القبائل جرت بينه وبين قومه حروب طاحنة أدّت إلى قتل صناديد قريش وإراقة دمائهم على وجه الأرض في « بدر » و « أحد » ووقعة « الأحزاب ».
    1 ـ تاريخ الطبري : 2/65.
    2 ـ السيرة النبوية لابن هشام : 1/285 من الطبعة الحديثة.


(254)
    فهذه الحوادث الدامية عند قريش ، المرّة في أذواقهم بما أنّها جرّت إلى ذهاب كيانهم ، وحدوث التفرقة في صفوفهم ، والفتك بصناديدهم على يد النبي الأكرم ، صوّرته في مخيلتهم وخزانة أذهانهم صورة إنسان مجرم مذنب قام في وجه سادات قومه ، فسب آلهتهم وعاب طريقتهم بالكهانة والسحر والكذب والافتراء ، ولم يكتف بذلك حتى شن عليهم الغارة والعدوان فصارت أرض يثرب وما حولها ، مجازر لقريش ، ومذابح لأسيادهم ، فأيّ جرم أعظم من هذا ، وأي ذنب أكبر منه عند هؤلاء الجهلة الغفلة ، الذين لا يعرفون الخيّ ـ ر من الشرير ، والصديق من العدو ، والمنجي من المهلك؟
    فإذن ما هو الأمر الذي يمكن أن يبرئه من هذه الذنوب ويرسم له صورة ملكوتية فيها ملامح الصدق والصفاء ، وعلائم العطف والحنان حتى تقف قريش على خطئها وجهلها.
    إنّ الأمر الذي يمكن أن ينزّه ساحته من هذه الأوهام والأباطيل ، ليست إلاّ الواقعة التي تجلّت فيها عواطفه الكريمة ، ونواياه الصالحة ، حيث تصالح مع قومه ـ الذين قصدوا الفتك به وقتله في داره ، وأخرجوه من موطنه ومهاده ـ بعطف ومرونة خاصة ، حتى أثارت تعجب الحضّار من أصحابه ومخالفيه ، حيث تصالح معهم على أنّه « من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليّه ردَّه عليهم ، ومن جاء قريشاً ممّن مع محمد لم يردّوه عليه ، وأنّه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ». (1)
    وهذا العطف الذي أبداه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في هذه الواقعة مع كونه من القدرة بمكان ، وقريش في حالة الانحلال والضعف ، صوّر من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عند قومه
    1 ـ السيرة النبوية لابن هشام : 2/317 ـ 318. ط2 ، 1375 هـ.

(255)
وأتباعه صورة إنسان مصلح يحب قومَه ويطلب صلاحهم ولا تروقه الحرب والدمار والجدال فوقفوا على حقيقة الحال ، وعضّوا الأنامل على ما افتعلوا عليه من النسب وندموا على ما فعلوا ، فصاروا يميلون إلى الإسلام زرافات ووحداناً ، فأسلم خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، والتحقا بالنبي قبل أن يسيطر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على مكة وحواليها.
    إنّ هذه الواقعة التي لمس الكفار منها خلقه العظيم ، رفع الستار الحديدي الذي وضعه بعض أعدائه الألدّاء بينه وبين قومه ، فعرفوا أنّ ما يرمى به نبيّ العظمة ويوصف به بين أعدائه ، كانت دعايات كاذبة وكان هو منزّهاً عنها ، بل عن الأقل منها.
    ولا تقصر عن هذه الواقعة ، فتح مكة ، فقد واجه قومه مرّة أُخرى ـ وهم في هزيمة نكراء ، ملتفون حوله في المسجد الحرام ـ فخاطبهم بقوله : « ماذا تقولون وماذا تظنون؟! » فأجابوا : نقول خيراً ونظن خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم ، وقدرت ، فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللّه لكم وهو أرحم الراحمين ». (1)
    وهذا الفتح العظيم وقبله وقعة الحديبية أثبتا بوضوح أن النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أكرم وأجل وأعظم من أن يكون كاهناً أو ساحراً ، إذ الكاهن والساحر أدون من أن يقوم بهذه الأُمور الجليلة ، كما أنّ لطفه العميم وخلقه العظيم آية واضحة على أنّه رجل مثالي صدوق ، لا يفتري ولا يكذب ، وإنّ ما جرى بينه وبين قومه من الحروب الدامية ، كانت نتيجة شقاقهم وجدالهم ومؤامراتهم عليه ، مرّة بعد أُخرى في موطنه ومهجره ، فجعلوه في قفص الاتهام أوّلاً ، وواجهوا أنصاره وأعوانه بألوان
    1 ـ المغازي للواقدي : 2/835; وبحار الأنوار : 21/107 ـ 132.

(256)
التعذيب ثانياً ، فقتل من قتل وأُوذي من أُوذي ، وضربوا عليه وعلى المؤمنين به ، حصاراً اقتصادياً فمنعوهم من ضروريات الحياة ثالثاً ، وعمدوا إلى قتله في عقر داره رابعاً ، ولولا جرائمهم الفظيعة لما اخضرت الأرض بدمائهم ولا لقي منهم بشيء يكرهه ، فأصبحت هذه الذنوب التي كانت تدّعيها قريش على النبي بعد وقعة الحديبية ، أو فتح مكة ، أُسطورة خيالية قضت عليها سيرته في كل من الواقعتين من غير فرق بين ما ألصقوا به قبل الهجرة أو بعدها ، وعند ذلك يتضح مفاد الآيات كما يتضح ارتباط الجملتين : الجزائية والشرطية ، ولولا هذا الفتح كان النبي محبوساً في قفص الاتهام ، وقد كسرته هذه الواقعة ، وعرّفته نزيهاً عن كل هذه التهم.
    وعلى ذلك فالمقصود من الذنب ما كانت قريش تصفه به ، كما أنّ المراد من المغفرة ، إذهاب آثار تلك النسب في المجتمع.
    وإلى ما ذكرنا يشير مولانا الإمام الرضا ( عليه السلام ) عندما سأله المأمون عن مفاد الآية فقال : « لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنباً من رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، لأنّهم كانوا يعبدون من دون اللّه ثلاثمائة وستين صنماً ، فلمّا جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم ، وقالوا : ( أَجَعَلَ الالِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلأ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمَلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ ) (1) ، فلمّا فتح اللّهُ عزّ وجلّ على نبيه محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مكة ، قال له : يا محمد : ( إنّا فتحنا لك ( مكة ) فتحاً مبيناً ليغفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر ) عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد اللّه عزّ وجلّ فيما تقدّم ، وما تأخّر ، لأنّ مشركي مكة ، أسلم
    1 ـ ص : 5 ـ 7.

(257)
بعضهم وخرج بعضهم عن مكة ، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه ، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفوراً بظهوره عليهم.
    فقال المأمون : للّه درّك يا أبا الحسن. (1)
    وقد أشرنا في صدر البحث إلى اختلاف الروايات في المراد من الفتح الوارد في الآية وقلنا بأنّ هذا الاختلاف لا يؤثر فيما نرتئيه ، فلاحظ.

الآية الخامسة : العصمة والتولّي عن الأعمى
    استدلّ المخالف لعصمة النبي الأعظم بالعتاب الوارد في الآيات التالية : ( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى * أَمّا مَنِ اسْتَغْنَى * فأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) (2).
    روى المفسرون أنّ عبد اللّه بن أُمّ مكتوم الأعمى أتى رسول اللّه وهو يناجي عتبة بن ربيعة ، وأبا جهل بن هشام ، والعباس بن عبد المطلب ، وأُبيّاً وأُمية ابني خلف ، يدعوهم إلى اللّه ويرجو إسلامهم; فقال عبد اللّه : اقرئني وعلّمني ممّا علّمك اللّه ، فجعل ينادي ويكرّر النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول اللّه لقطعه كلامه ، وقال في نفسه : يقول هؤلاء الصناديد إنّما أتباعه العميان والسفلة والعبيد ، فعبس ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأعرض عنه ، وأقبل على القوم الذين يكلّمهم ، فنزلت الآيات ، وكان رسول اللّه بعد ذلك يكرمه ، وإذا رآه يقول : مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي. (3) ويقول : هل لك من حاجة ، واستخلفه
    1 ـ بحار الأنوار : 17/90.
    2 ـ عبس : 1 ـ 10.
    3 ـ أسباب النزول للواحدي : 252.


(258)
على المدينة مرتين في غزوتين. (1)
    وهناك وجه آخر لسبب النزول روي عن أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وحاصله أنّ الآية نزلت في رجل من بني أُميّة كان عند النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فجاء ابن أُمّ مكتوم ، فلمّا رآه تقذّر منه ، وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه ، فحكى اللّه سبحانه ذلك وأنكره عليه.
    والاعت (2) ماد على الرواية الأُولى مشكل ، لأنّ ظاهر الآيات عتاب لمن يقدم الأغنياء والمترفين ، على الضعفاء والمساكين من المؤمنين ، ويرجح أهل الدنيا ويضع أهل الآخرة ، وهذا لا ينطبق على النبي الأعظم من جهات :
    الأُولى : انّه سبحانه حسب هذه الرواية وصفه بأنّه يتصدى للأغنياء ويتلهّى عن الفقراء ، وليس هذا ينطبق على أخلاق النبي الواسعة وتحنّنه على قومه وتعطّفه عليهم ، كيف؟ وقد قال سبحانه : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) (3).
    الثانية : انّه سبحانه وصف نبيّه في سورة القلم ، وهي ثانية السور التي نزلت في مكة ( وأُولاها سورة العلق ) بقوله : ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُق عَظِيم ) (4) ، ومع ذلك كيف يصفه بعد زمن قليل بخلافه ، فأين هذا الخلق العظيم ممّا ورد في هذه السورة من العبوسة والتولّي؟ وهذه السورة حسب ترتيب النزول وان كانت متأخرة عن سورة القلم ، لكنّها متقاربة معها حسب النزول ، ولم تكن هناك فاصلة زمنية طويلة
    1 ـ مجمع البيان : 10/437 وغيره من التفاسير.
    2 ـ مجمع البيان : 10/437; تفسير القمي : 2/405.
    3 ـ التوبة : 128.
    4 ـ القلم : 4.


(259)
الأمد. (1)
    الثالثة : انّه سبحانه يأمر نبيه بقوله : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (2) ، كما يأمره أيضاً بقوله : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنينَ ) (3) ، ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) (4).
    إنّ سورتي الشعراء والحجر ، وإن نزلتا بعد سورة « عبس » ، لكن تضافرت الروايات على أنّ الآيات المذكورة في السورتين نزلت في بدء الدعوة ، أي العام الثالث من البعثة عندما أمره سبحانه بالجهر بالدعوة والإصحار بالحقيقة ، وعلى ذلك فهي متقدمة حسب النزول على سورة « عبس » أويصح بعد هذه الخطابات ، أن يخالف النبي هذه الخطابات بالتولّ ـ ي عن المؤمن؟! كلاّ ثم كلاّ.
    الرابعة : إنّ الرواية تشتمل على ما خطر في نفس النبي عند ورود ابن أُمّ مكتوم من أنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال في نفسه : « يقول هؤلاء الصناديد : إنّما أتباعه العميان والسفلة والعبيد ، فأعرض عنه وأقبل على القوم » وعندئذ يسأل عن كيفية وقوف الراوي على ما خطر في نفس النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فهل أخبر به النبي ؟ أو أنّه وقف عليه من طريق آخر ؟!
    والأوّل بعيد جداً ، والثاني مجهول.
    الخامسة : أنّ الرواية تدلّ على أنّ النبي كان يناجي جماعة من المشركين ، وعند ذلك أتى عبد اللّه ابن أُمّ مكتوم وقال : يا رسول اللّه أقرئني ، فهل كان إسكات
    1 ـ تاريخ القرآن للعلاّمة الزنجاني : 36 ـ 37 ، وقد نقل ترتيب نزول القرآن في مكة والمدينة معتمداً على رواية محمد بن نعمان بن بشير التي نقلها ابن النديم في فهرسته ص 7 طبع مصر.
    2 ـ الشعراء : 214 ـ 215.
    3 ـ الحجر : 88.
    4 ـ الحجر : 94.


(260)
ابن أُم مكتوم متوقفاً على العبوسة والتولّي عنه ، أو كان أمره بالسكوت والاستمهال منه حتى يتم كلامه مع القوم ، أمراً غير شاق على النبي ، فلماذا ترك هذا الطريق السهل؟
    وهذه الوجوه الخمسة وإن أمكن الاعتذار عن بعضها بأنّ العبوسة والتولّي مرّة واحدة لا ينافي ما وصف به النبي في القرآن من الخلق العظيم وغيره ، لكن محصل هذه الوجوه يورث الشك في صحة الرواية ويسلب الاعتماد عليها.
    هذا كلّه حول الرواية الأُولى.

وأمّا الرواية الثانية :
    فهي لا تنطبق على ظاهر الآيات ، لأنّ محصلها أنّ رجلاً من بني أُمية كان عند النبي فجاء ابن أُمّ مكتوم ، فلمّا رآه ذلك الرجل تقذّر منه وجمع نفسه ، وعبس وأعرض بوجهه عنه ، فحكى اللّه سبحانه ذلك وأنكره عليه.
    ولكن هذا المقدار المنقول في سبب النزول لا يكفي في توضيح الآيات ، ولا يرفع إبهامها ، لأنّ الظاهر أنّ العابس والمتولّي ، هو المخاطب بقول سبحانه : ( وما يدريك لعله يزّكى ) إلى قوله : ( فأنت عنه تلهّى ) ، فلو كان المتعبس والمتولّي ، هو الفرد الأموي ، فيجب أن يكون هو المخاطب بالخطابات الستة لا غيره ، مع أنّ الرواية لا تدل على ذلك ، بل غاية ما تدل عليه أنّ فرداً من الأمويين عبس وتولّى عندما جاءه الأعمى فقط ، ولا تلقي الضوء على الخطابات الآتية بعد الآيتين الأُوليين وإنّها إلى من تهدف ، فهل تقصد ذاك الرجل الأموي وهو بعيد ، أو النبي الأكرم ؟
    هذا هو القضاء بين السببين المرويين للنزول ، وقد عرفت الأسئلة الموجهة
مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: فهرس