مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: 301 ـ 310
(301)
ضالاً في هذه الفترة من عمره ، فهداه إلى أسباب السعادة وعرّفه وسائل الشقاء.
    والالتزام بالضلالة بهذا المعنى لازم القول بالتوحيد الإفعالي ، فإنّ كل ممكن كما لا يملك وجوده وحياته ، لا يملك فعله ولا هدايته ولا رشده إلاّ عن طريق ربّه سبحانه ، وإنّما يفاض عليه كل شيء منه قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (1) ، فكما أنّ وجوده مفاض من اللّه سبحانه ، فهكذا كل ما يوصف به من جمال وكمال فهو من فيوض رحمته الواسعة ، والاعتقاد بالهداية الذاتية ، وغناء الممكن بعد وجوده عن هدايته سبحانه يناقض التوحيد الإفعالي الذي شرحناه في موسوعة مفاهيم القرآن. (2)
    وقد تضافرت الآيات على هذا الأصل ، وأنّ هداية كل ممكن مكتسبة من اللّه سبحانه من غير فرق بين الإنسان وغيره ، وفي الأوّل بين النبي وغيره ، قال سبحانه : ( قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) (3) ، وقال سبحانه : ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى ) (4) ، وقال سبحانه : ( وَقَالُوا الْحَمْدُ للّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللّهُ ) (5) ، وقال سبحانه : ( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ) (6) ، وقال تعالى : ( إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ) (7) ، وقال تبارك وتعالى : ( وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ) (8) ، إلى غير ذلك من الآيات.
    1 ـ فاطر : 15.
    2 ـ لاحظ الجزء الأوّل : 297 ـ 376.
    3 ـ طه : 50.
    4 ـ الأعلى : 2 ـ 3.
    5 ـ الأعراف : 43.
    6 ـ الشعراء : 78.
    7 ـ الزخرف : 27.
    8 ـ سبأ : 50.


(302)
    وعلى هذا الأساس فالآية تهدف إلى بيان النعم التي أنعمها سبحانه على حبيبه منذ صباه فآواه بعد ما صار يتيماً لا مأوى له ولا ملجأ ، وأفاض عليه الهداية بعدما كان فاقداً لها حسب ذاتها ، وأمّا تحديد زمن هذه الإفاضة فيعود إلى أوليات حياته وأيّام صباه بقرينة ذكره بعد الإيواء الذي تحقّق بعد اليتم ، وتمّ بجدّه عبد المطلب فوقع في كفالته إلى ثماني سنين ويؤيد ذلك قول الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « ولقد قرن اللّه به ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره ». (1)
    والحاصل : انّ الهداية في الآية نفس الهداية الواردة في قوله : ( أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) ، وفي قوله : ( الذي خلقني فهو يهدين ) إلى غير ذلك من الآيات التي أوعزنا إليها ، والاعتقاد بكونه ضالاً أي فاقداً لها في مقام الذات ثم أُفيضت عليه الهداية ، هو مقتضى التوحيد الإفعالي ولازم كون النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ممكناً بالذات ، فاقداً في ذاته كل كمال وجمال ، مفاضاً عليه كل جميل من جانبه سبحانه ، وأين هو من الضلالة المساوقة للكفر والشرك أو الفسق والعصيان؟!
    وإن شئت قلت : إنّ الضلالة في الآية ترادف الخسران الوارد في قوله سبحانه : ( إنّ الإنسان لفي خسر ) والهداية فيها ترادف الإيمان والعمل الصالح الواردين بعده ( إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) (2) ، فالإنسان بما أنّه يصرف رأس ماله ، أعني : عمره الغالي كل يوم ، خاسر بالذات ، إلاّ إذا اكتسب به ما يبقى ولا ينفد أثره وهو الإيمان المقرون بالعمل الصالح ، والنبي وغيره في هذه الأحكام سواسية بل في كل التوصيفات الواردة في مجال الإنسان التي يثبتها القرآن له ولا
    1 ـ نهج البلاغة : الخطبة 178 ، والتي تسمّى بالقاصعة.
    2 ـ العصر : 2 ـ 3.


(303)
وجه لإرجاعها إلى صنف دون صنف ، بعد كونها من خواص الطبيعة الإنسانية ما لم تقع تحت رعاية اللّه وهدايته.
    وبذلك يتبيّن أنّ الضلالة في الآية ـ لو فسرت بضد الهدى والرشاد ـ لا تدل على ما تدّعيه المخطّئة ، بل هي بصدد بيان قانون كلي سائد على عالم الإمكان من غير فرق بين الإنسان وغيره ، وفي الأوّل بين النبي وغيره.
     حول الاحتمالين الآخرين
    ولكن هذا المعنى غير متعين في الآية إذ من المحتمل أن تكون الضلالة فيها مأخوذة من « ضل الشيء : إذا لم يعرف مكانه » و « ضلت الدراهم : إذا ضاعت وافتقدت » و « ضل البعير : إذا ضاع في الصحارى والمفاوز » وفي الحديث : « الحكمة ضالة المؤمن أخذها أين وجدها » أي مفقودته ولا يزال يتطلبها ، وقد اشتهر قول الفقهاء في باب « الجعالة » : « من رد ضالّتي فله كذا ».
    فالضال بهذا المعنى ينطبق على ما نقله أهل السير والتاريخ عن أوّليات حياته من أنّه ضل في شعاب مكة وهو صغير ، فمنَّ اللّه عليه إذ ردّه إلى جدّه ، وقصته معروفة في كتب السير. (1)
    ولولا رحمته سبحانه لأدركه الهلاك ومات عطشاً أو جوعاً ، فشملته العناية الإلهية فردّه إلى مأواه وملجأه.
    وهناك احتمال ثالث لا يقصر عمّا تقدمه من احتمالين ، وهو أن تكون
    1 ـ لاحظ السيرة الحلبية : 1/131 ويقول : عن حيدة بن معاوية العامري : سمعت شيخاً يطوف بالبيت وهو يقول :
يا رب رد راكبي محمداً أردده ربي واصطنع عندي يداً

(304)
الضلالة في الآية مأخوذة من « ضل الشيء إذا خفي وغاب عن الأعين » قال سبحانه : ( أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَءِنَّا لَفِي خَلْق جَدِيد ) (1) ، فالإنسان الضال هو الإنسان المخفي ذكره ، المنسي اسمه ، لا يعرفه إلاّ القليل من الناس ، ولا يهتدي كثير منهم إليه ، ولو كان هذا هو المقصود ، يكون معناه أنّه سبحانه رفع ذكره وعرفه بين الناس عندما كان خاملاً ذكره منسياً اسمه ، ويؤيد هذا الاحتمال قوله سبحانه في سورة الانشراح التي نزلت لتحليل ما ورد في سورة الضحى قائلاً : ( أَلَمْ نَشْ ـ رَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) (2) فرفع ذكره في العالم ، عبارة عن هداية الناس إليه ورفع الحواجز بينه وبين الناس ، وعلى هذا فالمقصود من « الهداية » هو هداية الناس إليه لا هدايته ، فكأنّه قال : فوجدك ضالاً ، خاملاً ذكرك ، باهتاً اسمك ، فهدى الناس إليك ، وسيّر ذكرك في البلاد.
    وإلى ذلك يشير الإمام الرضا ( عليه السلام ) ـ على ما في خبر ابن الجهم ـ بقوله : « قال اللّه عزّ وجلّ لنبيّه محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « ( أَلم يجدك يتيماً فآوى ) يقول : ( ألم يجدك ) وحيداً ( فآوى ) إليك الناس ( ووجدك ضالاً ) يعني عند قومك ( فهدى ) أي هداهم إلى معرفتك ». (3)
    هذه هي المحتملات المعقولة في الآية ولا يدل واحد منها على ما تتبنّاه المخطّئة وإن كان الأظهر هو الأوّل.
    ويعجبني في المقام ما ذكره الشيخ محمد عبده في « رسالة التوحيد » فقال :
    1 ـ السجدة : 10.
    2 ـ الانشراح : 1 ـ 4.
    3 ـ البحار : 16/142.


(305)
    وفي السنة السادسة من عمره فقد والدته أيضاً فاحتضنه جده عبد المطلب ، وبعد سنتين من كفالته ، توفّي جدّه ، فكفله من بعده عمه أبو طالب وكان شهماً كريماً غير أنّه كان من الفقر بحيث لا يملك كفاف أهله.
    وكان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من بني عمه وصبية قومه ، كأحدهم على ما به من يتم ، فقد فيه الأبوين معاً ، وفقر لم يسلم منه الكافل والمكفول ، ولم يقم على تربيته مهذب ، ولم يعن بتثقيفه مؤدب بين أتراب من نبت الجاهلية ، وعشراء من خلفاء الوثنية ، وأولياء من عبدة الأوهام ، وأقرباء من حفدة الأصنام ، غير أنّه مع ذلك كان ينمو ويتكامل بدناً وعقلاً وفضيلة وأدباً ، حتى عرف بين أهل مكة وهو في ريعان شبابه بالأمين ، أدب إلهي لم تجر العادة بأن تزين به نفوس الأيتام من الفقراء خصوصاً مع فقر القوّام ، فاكتهل ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كاملاً والقوم ناقصون ، رفيعاً والقوم منحطون ، موحداً وهم وثنيون ، سلماً وهم شاغبون ، صحيح الاعتقاد وهم واهمون ، مطبوعاً على الخير وهم به جاهلون ، وعن سبيله عادلون.
    من السنن المعروفة أنّ يتيماً فقيراً أُميّاً مثله تنطبع نفسه بما تراه من أوّل نشأته إلى زمن كهولته ، ويتأثر عقله بما يسمعه ممّن يخالطه ، ولا سيما إن كان من ذوي قرابته ، وأهل عصبته ، ولا كتاب يرشده ولا أُستاذ ينبهه ، ولا عضد إذا عزم يؤيده ، فلو جرى الأمر فيه على مجاري السنن لنشأ على عقائدهم ، وأخذ بمذاهبهم ، إلى أن يبلغ مبلغ الرجال ، ويكون للفكر والنظر مجال ، فيرجع إلى مخالفتهم ، إذا قام له الدليل على خلاف ضلالاتهم كما فعل القليل ممّن كانوا على عهده ، ولكن الأمر لم يجر على سنته ، بل بغضت إليه الوثنية من مبدأ عمره ، فعاجلته طهارة العقيدة ، كما بادره حسن الخليقة ، وما جاء في الكتاب من قوله : ( ووجدك ضالاً فهدى ) لا يفهم منه أنّه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد ، أو على غير السبيل القويم


(306)
قبل الخلق العظيم ، حاش للّه ، إنّ ذلك لهو الافك المبين ، وإنّما هي الحيرة تلم بقلوب أهل الإخلاص ، فيما يرجون للناس من الخلاص ، وطلب السبيل إلى ما هدوا إليه من إنقاذ الهالكين وإرشاد الضالين. (1)

الآية الثانية : الأمر بهجر الرجز
    يقول سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالْرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) (2).
    استدلت المخطّئة بأنّ الرجز بمعنى الصنم والوثن ، ففي الأمر بهجره إيعاز لوجود أرضية صالحة لعبادتهما في شخصية النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    أقول : إنّ الرجز في القرآن الكريم استعمل في المعاني الثلاثة التالية :
    1. العذاب.
    2. القذارة.
    3. الصنم.
    ولك أن تقول : إنّ المفاهيم الثلاثة أشكال لمعنى واحد جوهراً ، وليست بمعان متعددة ، ولكن تعيين أحد الأمرين لا يؤثر فيما نرتئيه ، توضيح ذلك :
    إنّ « الرجز » : بكسر الراء قد استعمل في القرآن تسع مرّات ، وقد أُريد منه في جميعها العذاب إلاّ في مورد واحد ، وإليك مظانها : البقرة/59 ، الأعراف/134 وجاءت اللفظة فيها مرتين ، والأعراف/145 و 162 ، الأنفال/11 ، سبأ/5 ، الجاثية/11 ، والعنكبوت/29.
    1 ـ رسالة التوحيد : 135 ـ 136.
    2 ـ المدثر : 1 ـ 7.


(307)
    وأمّا « الرجز » : بضم الراء ، فقد جاء في القرآن الكريم مرّة واحدة ، وهي الآية التي نحن بصدد تفسيرها ، فسواء أُريد منها العذاب أم غيره من المعنيين ، فلا يدل على ما ذهبت إليه المخطّئة ، وإليك بيان ذلك :
    أ. « الرجز » العذاب : فلو كان المقصود منه العذاب فيدل على الأمر بهجر ما يسلتزم العذاب ، وبما أنّ الآيات القرآنية نزلت بعنوان التعليم فلا تدلّ على أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان مشرفاً على ما يجرّ العذاب ، لأنّ هذه الخطابات من باب « إياك أعني واسمعي يا جارة » ، وهذا النوع من الخطاب بمكان من البلاغة ، لأنّه سبحانه إذا خاطب أعز الناس إليه بهذا الخطاب فغيره أوّلى به ، ومن هنا يقدر القارئ الكريم على حل كثير من الآيات التي تخاطب النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بلحن حاد وشديد ، فتقول : ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (1) ، وليست الآية دليلاً على وجود أَرضية الشرك في شخصية النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فنهاه عنه سبحانه ، بل الآيات آيات عامّة نزلت للتعليم ، والخطاب موجه إليه والمقصود منها عامة الناس ، نرى أنّه سبحانه يخاطب نبيَّه الأكرم في سورة القصص بالخطابات الناهية الأربعة المتوالية ، الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمقصود منه هو الأُمّة ويقول : ( وَمَا كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِن رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً للْكَافِرينَ * وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (2).
    وهذا هو المقياس في أكثر الخطابات الناهية الواردة في القرآن الكريم.
    ب. الرجز بمعنى القذارة : ثم إنّ القذارة على قسمين : القذارة المادية ،
    1 ـ الزمر : 65.
    2 ـ القصص : 86 ـ 88.


(308)
والقذارة المعنوية ، فيحتمل أن يكون المراد هو الأوّل ، وقد ورد في الروايات أنّ أبا جهل جاء بشيء قذر ونادى أصحابه ، وقال : هل فيكم رجل يأخذه مني ويلقيه على محمد؟ فأخذه بعض أصحابه فألقاه عليه ، فحينئذ تكون الآية ناظرة إلى تطهير الثوب عن الدنس ، وإن أُريد القذارة المعنوية فالمراد هو الاجتناب عن الأفعال والصفات الذميمة ، فإنّ الآية نزلت للتعليم فلاتدل على اتصاف النبي الأكرم بها.
    ج. الرجز بمعنى الصنم : نفترض أنّ المقصود منه في الآية هو الصنم لكن لا بمعنى أنّه وضع لذاك المعنى ، وإنّما وضع اللفظ لمعنى جامع يعم الصنم والخمر والأزلام ، لاشتراك الجميع في كونها رجزاً ، ولأجل ذلك وصف الجميع في مورد آخر بالرجس فقال : ( إِنَّما الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) (1).
    ولكن الجواب عن هذه الصورة هو الجواب عن الصورتين الأُوليين ، والشاهد على ذلك أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم نزلت الآية لم يكن عابداً للوثن ، بل كان مشمّراً لتحطيم الأصنام ومكافحة عبدتها ، فلا يصح أن يخاطب من هذا شأنه ، بهجر الأصنام إلاّ على الوجه الذي أوعزنا إليه.

الآية الثالثة : عدم علمه بالكتاب والإيمان
    قوله سبحانه : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم ) (2).
    1 ـ المائدة : 90.
    2 ـ الشورى : 52.


(309)
    استدلت المخطّئة لعصمة النبي الأكرم بهذه الآية وزعمت ـ والعياذ باللّه ـ دلالة الآية على أنّه كان فاقداً للإيمان قبل الإيحاء إليه ، وقد انقلب وصار مؤمناً موحداً بالوحي وبعد نزوله إليه.
    لكن حياته المشرقة ـ بالإيمان والتوحيد ـ تفند تلك المزعمة ، بشهادة التاريخ على أنّه من بداية عمره إلى أن لاقى ربَّه ، كان مؤمناً موحداً ، وليس ذلك أمراً قابلاً للشك والترديد ، وقد أصفق على ذلك أهل السير والتاريخ وحتى كان الأحبار والرهبان معترفين بأنّه نبيُّ هذه الأُمّة وخاتم الرسالات الإلهية ، وكان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يسمع تلك الشهادات منهم في فترات خاصة في « مكة » و « يثرب » و « بصرى » و « الشام » وغيرها ، وعلى ذلك فكيف يمكن أن يكون غافلاً عن الكتاب الذي ينزل إليه ، أو يكون مجانباً عن الإيمان بوجوده سبحانه وتوحيده ، والتاريخ المسلّم الصحيح يؤكد على عدم صدق ذلك الاستظهار ، وعلى ضوء هذا ، لا بد من إمعان النظر في مفاد الآية كما لا بد في تفسيرها من الاستعانة بالآيات الواردة في ذلك المساق فنقول :
    بعث النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ لهداية قومه أوّلاً ، وهداية جميع الناس ثانياً ـ بالآيات والبيّنات ، وأخص بالذكر منها : كتابه وقرآنه ( معجزته الكبرى الخالدة ) الذي بفصاحته أخرس فرسان الفصاحة ، وقادة الخطابة ، وببلاغته قهر أرباب البلاغة وملوك البيان ، وخلب عقولهم وقد دعاهم إلى التحدي والمقابلة ، فلم يكن الجواب منهم إلاّ إثارة التهم حوله ، فتارة قالوا : بأنّه ( يُعْلّمُهُ بشر ) ، وأُخرى بأنّه ( إفْكٌ افتراهُ وأعانَهُ عَلَيهِ قَوْمٌ آخَرَون ) ، وثالثة : بأنّه ( أساطِيرُ الأوّلِينَ اكْتَتَبها فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرةً وأصِيلا ) ، قال سبحانه ردّاً على هذه التهم التي أوعزنا إليها : ( قُلْ نَزّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَبِّكَ بِالحَقِّ لِيُثَبِّتَ الّذِينَ آمَنُوا وهُدًى وبُشْرَى


(310)
لِلْمُسْلِمِينَ * ولَقَدْ نَعْلَمُ أنّهُمْ يَقُولُونَ إنّما يُعَلِّمُهُ بَشرٌ لِسانُ الذِي يُلْحِدُونَ إليهِ أعْجَميٌّ وهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِين ) (1) ، وقال سبحانه : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) (2).
    والآية التي تمسّكت بها المخطّئة بصدد بيان هذا الأمر وأنّه وحي سماوي لا إفك افتراه ، ولأجل ذلك بدأ كلامه بلفظة ( وكذلك أوحينا إليك ) ، أي كما أنّه سبحانه أوحى إلى سائر الأنبياء بإحدى الطرق الثلاثة التي بيّنها في الآية المتقدمة ، أوحى إليك أيضاً روحاً من أمرنا ، وليس هذا كلامك وصنيعك ، بل كلام ربك وصنيعه.
    هذا مجمل الكلام في الآية ، ولأجل رفع النقاب عن مرامها نقدم أُموراً تسلّط ضوءاً عليه :
    الأوّل : المراد من الروح في الآية هو القرآن ، وسمّي روحاً لأنّه قوام الحياة الأُخروية ، كما أنّ الروح في الإنسان قوام الحياة الدنيوية ، ويؤيد ذلك أُمور :
    أ. انّ محور البحث الأصلي في سورة الشورى ، هو : الوحي والآيات الواردة فيها البالغ عددها 53 آية ، تبحث عن ذلك المعنى بالمباشرة أو بغيرها.
    ب. الآية التي تقدمت على تلك ، تبحث عن الطرق التي يكلّم بها سبحانه أنبياءه ويقول : ( وَمَا كَانَ لِبَشَر أَنْ يُكَلِّمَهُ اللّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَاب أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلَيٌّ حَكِيمٌ ) (3).
    1 ـ النحل : 102 ـ 103.
    2 ـ الفرقان : 4 ـ 6.
    3 ـ الشورى : 51.
مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: فهرس