نسب مشايخ القمّيين وعلمائهم ( الذين جوّزوا السهو على النبي ) إلى التقصير ، فليس نسبة هؤلاء القوم إلى التقصير علامة على غلو الناس ، إذ في جملة المشار إليهم بالشيخوخة والعلم من كان مقصّراً ، وانّما يجب الحكم بالغلو على من نسب المحقّقين إلى التقصير سواء أكانوا من أهل قم أم من غيرها من البلاد ومن سائر الناس ، وقد سمعنا حكاية ظاهرة عن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الوليد ( رحمه الله ) لم نجد لها دافعاً وهي ما حُكي عنه انّه قال : أوّل درجة في الغلو نفي السهو عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والإمام ( عليه السلام ).
ثم إنّ الشيخ المفيد لم يكتف بهذا القدر من الرد بل ألّف رسالة مفردة في ردّه ، وقد أدرجها العلاّمة المجلسي في « بحاره ». (1) وعلى هذا الرأي استقر رأي الإمامية ، فقال المحقّق الطوسي : وتجب في النبي العصمة ليحصل الوثوق ... وعدم السهو. وقال العلاّمة الحلّي في شرحه : وان لا يصح عليه السهو لئلاّ يسهو عن بعض ما أُمر بتبليغه. (2) وقال المحقّق الحلّي في « النافع » : والحق رفع منصب الإمامة عن السهو في العبادة. (3) وقال العلاّمة في « المنتهى » في مسألة التكبير في سجدتي السهو : احتج المخالف بما رواه أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : قال : ثم كبّر وسجد. والجواب : هذا الحديث عندنا باطل ، لاستحالة السهو على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ). وقال في مسألة أُخرى : قال الشيخ : وقول مالك باطل ، لاستحالة السهو على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ). (4) 1 ـ راجع البحار : 17/122 ـ 129. 2 ـ كشف المراد : 195. 3 ـ النافع : 45. 4 ـ منتهى المطلب : 418 ـ 419.
(332)
وقال الشهيد في « الذكرى » : وخبر ذي اليدين متروك بين الإمامية ، لقيام الدليل العقلي على عصمة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن السهو ، لم يصر إلى ذلك غير ابن بابويه. (1) هذا هو الرأي السائد بين الإمامية ، ولم يشذّ عنهم أحد من المتأخّرين سوى أمين الإسلام الطبرسي في « تفسيره » حيث قال : وأمّا النسيان والسهو فلم يُجْوّزوهما عليهم فيما يؤدّونه عن اللّه تعالى ، وأمّا ما سواه فقد جوّزوا عليهم أن ينسوه أو يسهوا عنه ما لم يؤدّ ذلك إلى إخلال بالعقل. (2) وأمّا غيره ، فلم نجد من يوافقه ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى المصادر المذكورة في الهامش. وقد قام (3) العلاّمة المجلسي بإيفاء حق المقام في « بحاره ». (4)
2. كيفية معالجة المأثورات حول سهو النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) روى الفريقان أحاديث حول سهو النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ). روى البخاري في كتاب الصلاة ، باب « من يكبر في سجدتي السهو » عن أبي هريرة قال : صلّى النبي إحدى صلاتي العشية ... ركعتين ، فقالوا : أقصرت الصلاة؟ ورجل يدعوه النبي ذو اليدين ، فقال : أنسيت الصلاة أم قصرت؟ فقال :
1 ـ الذكرى : 215. 2 ـ مجمع البيان : 2/317. 3 ـ حق اليقين في معرفة أُصول الدين : للسيد عبد اللّه شبر : 1/124; مصابيح الأنوار في حل مشكلات الأخبار ، له أيضاً : 2/134 ـ 142; تنزيه الأنبياء للسيد المرتضى; منهج الصادقين : 3/393 ، و 5/346. 4 ـ لاحظ البحار : 17/97 ـ 129.
(333)
لم أنس ولم تقصر ، قال : بلى قد نسيت. فصلى ركعتين ثم سلم ، ثم كبّر فسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع رأسه فكبّر ، ثم وضع رأسه فكبّر فسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع رأسه وكبّر. (1) هذا ما رواه أهل السنّة كما رووا غيره أيضاً.
أمّا الشيعة فقد رووا أحاديث حول الموضوع نقلها العلاّمة المجلسي في « بحاره ». (2) ولا يتجاوز مجموع ما ورد في هذا الموضوع عن اثني عشر حديثاً ، كما أنّ أخبار نوم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن صلاة الصبح لا تتجاوز عن ستة أحاديث. (3) لكن الجواب عن هذه الروايات بأحد أمرين : الأوّل : ما ذكره المفيد في الرسالة المومأ إليها من أنّها أخبار آحاد لا تثمر علماً ، ولا توجب عملاً ، ومن عمل على شيء منها فعلى الظن يعتمد في عمله بها دون اليقين. (4) الثاني : ما ذكره الصدوق من التفريق بين سهو النبي وسهو الآخرين بما عرفت ، واللّه العالم بالحقائق. ثم الظاهر من السيد المرتضى ، تجويز النسيان على الأنبياء حيث قال في تفسير قوله سبحانه : ( لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ) (5) : إنّ النبي إنّما لا يجوز عليه النسيان فيما يؤدّيه عن اللّه تعالى أو في شرعه أو في أمر يقتضي التنفير عنه ، فأمّا فيما هو خارج عمّا ذكرناه ، فلا مانع من النسيان. (6) 1 ـ صحيح البخاري : 2/68. 2 ـ راجع البحار : 17/97 ـ 129. 3 ـ راجع البحار : 17/100 ـ 106. 4 ـ البحار : 17/123. 5 ـ الكهف : 73. 6 ـ تنزيه الأنبياء : 87.
(334)
وممّن وافق الصدوق من المتأخّرين ، شيخنا المجيز : الشيخ محمد تقي التستري ، فقد ألّف رسالة في الموضوع نصر فيها الشيخ الصدوق وأُستاذه ابن الوليد ، وطبعها في ملحقات الجزء الحادي عشر من رجاله « قاموس الرجال » والرسالة تقع في 24 صفحة. وأمّا العلاّمة المجلسي ، فالظاهر منه التوقّف في المسألة قال : إعلم أنّ هذه المسألة في غاية الإشكال ، لدلالة كثير من الآيات ( الآيات التي يُستظهر منها نسبة النسيان إلى بعض الأنبياء غير النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد قدّمناها ) والأخبار على صدور السهو عنهم ، وإطباق الأصحاب إلاّ ما شذّ على عدم جواز السهو عليهم مع دلالة بعض الآيات والأخبار عليه في الجملة وشهادة بعض الدلائل الكلامية والأُصول المبرهنة عليه ، مع ما عرفت في أخبار السهو من الخلل والاضطراب وقبول الآيات للتأويل ، واللّه يهدي إلى سواء السبيل. (1) ثم إنّ الشيخ المفيد وصف القائل بصدور السهو منه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الشيعة بالمقلّدة ، وأراد : الصدوق وشيخه ابن الوليد. ولكن التعبير عنهما بالمقلّدة غير مرضي عندنا ، كيف؟! ويصف الأوّل الرجالي النقّاد النجاشي بقوله : أبو جعفر ، شيخنا وفقيهنا ، ووجه الطائفة بخراسان ، وكان ورد بغداد سنة 355 هـ ، وسمع منه شيوخ الطائفة ، وهو حدث السن. (2) ويقول في حق شيخه : أبو جعفر ، شيخ القمّيين ، وفقيههم ، ومتقدّمهم ، ووجههم ، ويقال : إنّه نزيل قم ، وما كان أصله منها ، ثقة ، ثقة ، عين مسكون إليه. (3) 1 ـ البحار : 17/118 ـ 119. 2 ـ رجال النجاشي : 2/311 برقم 1050. 3 ـ رجال النجاشي : 2/301 برقم 1043.
(335)
والمحمل الصحيح لهذه التعابير ما أشار إليه شاعر الأهرام بقوله :
يشتد في سبب الخصومة لهجةفي الحق يختلفون إلاّ أنّهميتباعدون ويلتقون سراعاً
وكذلك العلماء في أخلاقهملكن يرق خليقة وطباعا لا يبتغون إلى الحقوق ضياعاً
في هذا الفصل 1. نظرية الإمامة بين الفريقين. 2. هل الإمامة تفويض اجتماعي اومنصب إلهي؟ 3. الاستدلال على كونها منصباً إلهياً. 4. ما هو الهدف من ابتلاء الخليل بالكلمات؟ 5. ما هو المراد من الكلمات الّتي ابتلي بها إبراهيم ( عليه السلام ) ؟ 6. ما هو المقصود من إتمام تلك الكلمات؟ 7. ماذا يراد من الإمام في قوله : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) ؟ 8. توضيح النظريات الخمس في تفسير الإمام في الآية السابقة؟ 9. كيف تكون الإمامة عهداً إلهياً؟ 10. ما هو المراد من الظالمين في قوله : ( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ؟ 11. بيان كيفية دلالة الآية على نزاهة الإمام من الذنب.
للتعرّف على مفهوم كلمة الإمام في القرآن أهمية خاصة ، كما أنّ التعرّف على مفهومي النبي والرسول فيه كذلك ، وقد فرغنا من تبيين مفهوم الأخيرين في الجزء السابق ، وبقى البحث عن مفهوم الإمام في الكتاب العزيز. إنّ الإمام في مصطلح المتكلّمين هو القائد العام للمسلمين الّذي يخلف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في كل أو بعض ما يمتّ له بصلة ، وقد اتّفقت الأُمّة على انسداد باب الوحي وختم التشريع بموت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولحوقه بالرفيق الأعلى ، وإنّما الكلام في مقدار المسؤولية الّتي يتحمّلها الإمام في خلافته عنه ، وهذا الاختلاف أوجد نظريتين في باب الإمامة بين المتكلّمين ، بل أحدث مدرستين وصار سبباً للاختلاف في لزوم بعض الشروط في الإمام وعدمها ، ولا يمكن الوصول إلى الحق إلاّ بعد دراسة النظريتين على ضوء الكتاب والسنّة والعقل ، ولا يصح إبداء النظر في لزوم الشروط الّتي ذكرها المتكلّمون إلاّ بعد تلك الدراسة ، وإليك بيان النظريتين :
الإمامة تفويض اجتماعي الإمامة منصب اجتماعي بمعنى انّ الأُمّة هي صاحبة السلطة العليا تخوّلها للإمام ، وهي الّتي تحاسب الإمام وتراقب قراراته وعليها أن تنتخب من يقودها.
(340)
وبعبارة أُخرى : انّ من حقّ الأُمّة أن تختار حكّامها ، تعيّنهم وتعزلهم وتراقبهم في كل تصرفاتهم الشخصية والعامّة ، وعلى ذلك فالإمامة منصب عرفي كسائر المناصب المطروحة في المجتمع غير انّها تتفاوت بسعة المسؤولية وضيقها ، فالإمام أكثر مسؤولية من الوزراء ، وهم أكبر مسؤولية من المدراء العامين ، ولا يخلف الإمام النبي الراحل إلاّ في بعض مسؤوليته ، وهي الأخذ بزمام السلطة في الشؤون الّتي تتوقف عليها حياة الأُمّة ، ولأجل ذلك يعتبر فيه من المؤهلات والصلاحيات : الدراية والكفاية أوّلاً ، والعلم بالأحكام والقوانين على مستوى خاص ثانياً. وأمّا سائر الشروط ، كالعصمة الإلهية ، والعلم بجميع الأحكام الشرعية ، والإجابة عن كل الأسئلة المطروحة ، والدفاع العلمي عن أُصول الشريعة ومعارفها العليا ، وتفسير ما ورد من الآيات في الذكر الحكيم و ... فلا يعتبر قطعاً ، لأنّ الهدف المتوخّى من الإمام على هذا الصعيد هو إعمال السلطة وقيادة السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية ، وتكفيه المقدرة العادية والعلم بمقدار محدود. هذا هو أساس تلك النظرية ، وعلى ذلك نجد أنّ معتنقي تلك النظرية يصفون الإمام وشروطه بالعبارات التالية : يقول القاضي الباقلاني : يجب أن يكون الإمام على أوصاف : منها : أن يكون قرشياً من الصميم ، وأن يكون من العلم بمنزلة من يصلح أن يكون قاضياً من قضاة المسلمين ، وأن يكون ذا بصيرة بأمر الحرب وتدبير الجيوش والسرايا وسد الثغور وحماية البيضة وحفظ الأُمّة والانتقام من ظالمها ونصرة مظلومها وما يتعلّق به من مصالحها ، وأن لا يكون ممّن تلحقه رقة ولا هوادة في إقامة الحدود ولا جزع