وقال ابن الأثير : إنّ السنن الّتي عليها مدار تفصيل الأحكام ومعرفة الحلال والحرام إلى غير ذلك من أُمور الدين ، إنّما تثبت بعد معرفة رجال أسانيدها ورواتها ، وأوّلهم والمقدّم عليهم أصحاب رسول الله فإذا جهلهم الإنسان كان بغيرهم أشدّ جهلاً وأعظم إنكاراً ، فينبغي أن يعرفوا بأنسابهم وأحوالهم ، هم وغيرهم من الرواة حتّى يصحّ العمل بما رواه الثقات منهم وتقوم به الحجّة فإنّ المجهول لا تصحّ روايته ولا ينبغي العمل بما رواه ، والصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلاّ في الجرح والتعديل ، فإنّهم كلهم عدول لا يتطرق إليهم الجرح ، لأنّ الله عزّ وجلّ ورسوله زكياهم وعدلاهم ، وذلك مشهور لا نحتاج لذكره. (1) وقال الحافظ ابن حجر في الفصل الثالث من « الإصابة » : اتفق أهل السنّة على أنّ الجميع عدول ، ولم يخالف في ذلك إلاّ شذوذ من المبتدعة ، وقد ذكر الخطيب في الكفاية فصلاً نفيساً في ذلك فقال : عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم ، ثم نقل عدّة آيات حاول بها إثبات عدالتهم وطهارتهم جميعاً ـ إلى أن قال : ـ روى الخطيب بسنده إلى أبي زرعة الرازي قال : إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله فاعلم أنّه زنديق ، وذلك أنّ الرسول حق ، والقرآن حق ، وما جاء به حق ، وانّما أدّى إلينا ذلك كلّه الصحابة ، وهؤلاء يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنّة ، والجرح بهم أولى وهم زنادقة. (2) هذه كلمات القوم ، وكم لها من نظائر نتركها طلباً للاختصار. 1 ـ أسد الغابة : 1 / 3. 2 ـ الإصابة : 1 / 17.
(442)
تقييم نظرية عدالة الصحابة كلّهم تقييم هذه النظرية يتم بتبيين أُمور : 1. انّ البحث عن عدالة الصحابي أو جرحه ليس لغاية إبطال الكتاب والسنّة ، ولا لإبطال شهود المسلمين ، لما سيوافيك من أنّ الكتاب شهد على فضل عدة منهم ، وزيغ آخرين ، وهكذا السنّة ، والغاية في هذا البحث هي الغاية في البحث عن عدالة التابعين ومن تلاهم من رواة القرون المختلفة ، فالغاية في الجميع هي التعرّف على الصالحين والطالحين ، حتّى يتسنّى لنا أخذ الدين عن الصلحاء ، والتنزّه عن أخذه عن غيرهم ، فلو قام الرجل بهذا العمل وتحمّل العبء الثقيل ، لما كان عليه لوم ، فلو قال أبو زرعة مكان قوله الآنف ، هذا القول : « إذا رأيت الرجل يتفحّص عن أحد من أصحاب الرسول لغاية العلم بصدقه أو كذبه ، أو خيره أو شرّه ، حتّى يأخذ دينه عن الخيرة الصادقين ، ويحترز عن الآخرين ، فاعلم أنّه من جملة المحققين في الدين والمتحرين للحقيقة » لكان أحسن وأولى ، بل هو الحسن والمتعين. ومن غير الصحيح أن يتهم العالم أحداً يريد التثبّت في أُمور الدين والتحقيق في مطالب الشريعة « بالزندقة » وأنّه يريد جرح شهود المسلمين لإبطال الكتاب والسنّة ، وما شهود المسلمين إلاّ الآلاف المكتظة من أصحابه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فلا يضر بالكتاب والسنّة جرح لفيف منهم وتعديل قسم منهم ، وليس الدين القيم قائماً بهذا الصّنف من المجروحين. « ما هكذا تورد يا سعد الإبل » !! 2. انّ هذه النظرية تكونت من العاطفة الدينية الّتي حملها المسلمون تجاه الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وجرتهم إلى تبنّي تلك الفكرة ، وقد قيل : « من عشق شيئاً عشق لوازمه وآثاره ».
(443)
إنّ صحبة الصحابة لم تكن بأكثر ولا أقوى من صحبة امرأة نوح وامرأة لوط فما أغنتهما عن الله شيئاً ، قال سبحانه : ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوح وَ امْرَأَةَ لُوط كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحِينِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَ قِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) (1). إنَّ التشرّف بصحبة النبي لم يكن أكثر امتيازاً وتأثيراً من التشرّف بالزواج من النبي ، وقد قال سبحانه في شأن أزواجه : ( يَا نِسَاءَ النَّبي مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَة مُبَيِّنَة يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَ كَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا ) (2). 3. انّ أساتذة العلوم التربوية كشفوا عن قانون مجرّب وهو أنّ الإنسان الواقع في إطار التربية ، إنّما يتأثّر بعواملها إذا لم تكمل شخصيته الروحية والفكرية ، لأنّ النفوذ في النفوس المكتملة شخصية والتأثير عليها والثورة على أفكارها وروحياتها ، يكون صعباً جداً ( لا أقول أمراً محالاً ) بخلاف ما إذا كان الواقع في إطارها صبيّاً يافعاً ، أو شاباً في عنفوان السن ، إذ عندئذ يكون قلبه وروحه كالأرض الخالية ينبت فيها ما أُلقي بها ، وعلى هذا الأساس لا يصح لنا أنْ نقول : إنّ الصحبة والمجالسة وسماع بعض الآيات والأحاديث ، أوجدت ثورة عارمة في صحابة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأزالت شخصياتهم المكونة طيلة سنين في العصر الجاهلي ، وكوّنت منهم شخصيات عالية تعد مثلاً للفضل والفضيلة ، مع أنّهم متفاوتون في السن ومقدار الصحبة ، مختلفون في الاستعداد والتأثّر ، وحسبك أنّ بعضهم أسلم وهو صبيٌ لم يبلغ الحلم ، وبعضهم أسلم وهو في أُوليات شبابه ، كما أسلم بعضهم في الأربعينات والخمسينات من أعمارهم إلى أن أسلم بعضهم وهو شيخ طاعن في
1 ـ التحريم : 10. 2 ـ الأحزاب : 30.
(444)
السن يناهز الثمانين والتسعين.
فكما أنّهم كانوا مختلفين في السن عند الانقياد للإسلام ، كذلك كانوا مختلفين أيضاً في مقدار الصحبة فبعضهم صحب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من بدء البعثة إلى لحظة الرحلة ، وبعضهم أسلم بعد البعثة وقبل الهجرة ، وكثير منهم أسلموا بعد الهجرة ، وكثير منهم أسلموا بعد الهجرة ، وربما أدركوا من الصحبة سنة اوشهراً أو أياماً أو ساعة ، فهل يصح أن نقول : إنّ صحبة ما قلعت ما في نفوسهم جميعاً من جذور غير صالحة وملكات رديئة وكوّنت منهم شخصيات ممتازة أعلى وأجل من أن يقعوا في إطار التعديل والجرح ؟ إنّ تأثير الصحبة عند من يعتقد بعدالة الصحابة كلّهم أشبه شيء بمادة كيمياوية تستعمل في تحليل عنصر كالنحاس إلى عنصر آخر كالذهب ، فكأنّ الصحبة قلبت كلَّ مصاحب إلى إنسان مثالي يتحلّى بالعدالة ، وهذا ممّا يردّه المنطق والبرهان السليم ، وذلك لأنّ الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يقم بتربية الناس وتعليمهم عن طريق الإعجاز ( فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ) (1) ، بل قام بإرشاد الناس ودعوتهم إلى الحق وصبّهم في بوتقات الكمال مستعيناً بالأساليب الطبيعية والإمكانيات الموجودة ، كتلاوة القرآن الكريم ، والنصيحة بكلماته النافذة وسلوكه القويم ، وبعث رسله ، ودعاة دينه إلى الأقطار ، ونحو ذلك ، والدعوة القائمة على هذا الأساس ، يختلف أثرها في النفوس حسب اختلاف استعدادها وقابلياتها ، فلا يصح لنا أن نرمي الجميع بسهم واحد. إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة : أنّ الأُصول التربوية تقضي بأنّ بعض الصحابة يمكن أن يصل في قوّة الإيمان ورسوخ العقيدة إلى درجات عالية ، كما
1 ـ الأنعام : 149.
(445)
يمكن أن يصل بعضهم في الكمال والفضيلة إلى درجات متوسطة ، ومن الممكن أن لا يتأثر بعضهم بالصحبة وسائر العوامل المؤثرة إلاّ شيئاً طفيفاً لا يجعله في صفوف العدول وزمرة الصالحين.
هذا هو مقتضى التحليل حسب الأُصول النفسية والتربوية غير أنّ البحث لا يكتمل ، ولا يصح القضاء البات إلاّ بالرجوع إلى القرآن الكريم حتى نقف على نظره فيهم كما تجب علينا النظرة العابرة إلى كلمات الرسول في حقّهم ، وملاحظة سلوكهم وحياتهم في زمنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبعده.
الصحابة في الذكر الحكيم نرى أنّ الذكر الحكيم يصنّف صحابة النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويمدحهم في ضمن أصناف نأتي ببعضها : 1. السابقون الأوّلون يصف الذكر الحكيم السابقين الأوّلين من المهاجرين والانصار والتابعين لهم بأنّ الله رضي عنهم وهم رضوا عنه ، قال عزّ من قائل : ( وَ السَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الأَنْصَارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّات تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (1). 2. المبايعون تحت الشجرة يصف سبحانه جماعة من الصحابة الذين بايعوه تحت الشجرة بنزول
1 ـ التوبة : 100.
(446)
السكينة عليهم ويقول في محكم كتابه : ( لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيباً ) (1).
3. المهاجرون وهؤلاء الذين يصفهم تعالى ذكره بقوله : ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَ أَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَ رِضْوَانًا وَ يَنْصُرُونَ اللهَ وَ رَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) (2). أصحاب الفتح هؤلاء هم الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى في آخر سورة الفتح بقوله : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَ رِضْوَانًا سِيَماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْع أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً ) (3). الأصناف الأُخرى للصحابة فالناظر المخلص المتجرّد عن كل رأي مسبق ، يجد في نفسه تكريماً لهؤلاء
1 ـ الفتح : 18. 2 ـ الحشر : 8. 3 ـ الفتح : 29.
(447)
الصحابة غير أنّ القضاء البات في عامة الصحابة ، يستوجب النظر إلى كل الآيات القرآنية الواردة في حقّهم ، فعندئذ يتبيّن لنا أنّ هناك أصنافاً أُخرى من الصحابة غير ما سبق ذكرها ، تمنعنا من أن نضرب الكل بسهم واحد ، ونصف الكل بالرضا والرضوان ، وهذا الصنف من الآيات يدل بوضوح على وجود مجموعات من الصحابة تضاد الأصناف السابقة في الخلقيات والملكات والسلوك والعمل ، وإليك قسطاً منهم :
1. المنافقون المعروفون المنافقون المعروفون بالنفاق الذين نزلت في حقهم سورة « المنافقون » ، قال سبحانه : ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَ اللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ... ) ( إلى آخر سورة المنافقون ). فهذه الآيات تعرب بوضوح عن وجود كتلة قوية من المنافقين بين الصحابة آنذاك وكان لهم شأن ، فنزلت سورة قرآنية كاملة في حقّهم. 2. المنافقون المختفون تدل بعض الآيات على أنّه كانت بين الأعراب القاطنين خارج المدينة ومن نفس أهل المدينة ، جماعة مردوا على النفاق وكان النبي الأعظم لا يعرف بعضهم ، ومن تلك الآيات قوله سبحانه : ( وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا (1) عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) (2).
1 ـ مردوا على النفاق : تمرنوا وتمرسوا عليه. 2 ـ التوبة : 101.
(448)
لقد أعطى القرآن الكريم عناية خاصة بعصبة المنافقين وأعرب عن نواياهم وندّد بهم في السور التالية : البقرة ، آل عمران ، المائدة ، التوبة ، العنكبوت ، الأحزاب ، محمد ، الفتح ، الحديد ، المجادلة ، الحشر ، والمنافقون. وهذا انّ دلّ على شيء فإنّما يدل على أنّ المنافقين كانوا جماعة هائلة في المجتمع الإسلامي بين معروف ، عرف بسمة النفاق ووصمة الكذب ، وغير معروف بذلك مُقنّع بقناع التظاهر بالإيمان والحب للنبي ، فلو كان المنافقون جماعة قليلة غير مؤثرة لما رأيت هذه العناية البالغة في القرآن الكريم وهناك ثلة من المحقّقين كتبوا حول النفاق والمنافقين رسائل وكتابات ، وقد قام بعضهم بإحصاء ما يرجع إليهم فبلغ مقداراً يقرب من عشر القرآن الكريم. (1) وهذا ان دلّ على شيء فإنّما يدل على كثرة أصحاب النفاق وتأثيرهم يوم ذاك في المجتمع الإسلامي ، وعلى ذلك لا يصح لنا الحكم بعدالة كل من صحب مع غض النظر عن تلك العصابة المجرمة ، المتظاهرة بالنفاق أو المختفية في أصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ). 3. مرضى القلوب وهذه المجموعة من الصحابة لم يكونوا من زمرة المنافقين ، بل كانوا يتلونهم في الروحيات والملكات مع ضعف في الإيمان والثقة بالله ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، قال سبحانه بحقهم : ( وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَ رَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً ) (2). فانّى لنا أنّ نصف مرضى القلوب الذين ينسبون خلف الوعد إلى الله سبحانه وإلى رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالتقوى والعدالة ؟
1 ـ النفاق والمنافقون : تأليف الأُستاذ إبراهيم علي سالم المصري. 2 ـ الأحزاب : 12.
(449)
4. السمّاعون تلك المجموعة كانت قلوبهم كالريشة في مهب الريح تتمايل تارة إلى هؤلاء ، وأُخرى إلى أُولئك بسبب ضعف إيمانهم ، وقد حذّر الباري عزّ وجل المسلمين منهم حيث قال عز من قائل ، واصفاً إياهم بالسمّاعون لأهل الريب : ( إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ * وَ لَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَ لَأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَ اللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) (1) ، وذيل الآية دليل على كون السمّاعين من الظالمين لا من العدول. 5. خالطو العمل الصالح بالسيّء وهؤلاء هم الذين يقومون بالصلاح والفلاح تارة ، والفساد والعبث مرة أُخرى ، فلأجل ذلك خلطوا عملاً صالحاً بعمل سيّء ، قال سبحانه : ( وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً ) (2). 6. المشرفون على الارتداد إنّ بعض الآيات تدلّ على أنّ مجموعة من الصحابة كانت قد أشرفت على الارتداد يوم دارت عليهم الدوائر ، وكانت الحرب بينهم وبين قريش طاحنة فأحسّوا بضعفهم ، وقد أشرفوا على الارتداد عرفهم الحق سبحانه بقوله : ( وَ طَائِفَةٌ 1 ـ التوبة : 45 ـ 47. 2 ـ التوبة : 102.
(450)
قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيء قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا ) (1).
7. الفاسق إنّ القرآن الكريم يحثّ المؤمنين وفي مقدمتهم الصحابة الحضور ، على التحرّز من خبر الفاسق حتى يتبيّن ، فمن هذا الفاسق الّذي أمر القرآن بالتحرز منه؟ اقرأ أنت ما نزل حول الآية من شأن النزول واحكم بما هو الحق ، قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) (2). فإنّ من المجمع عليه بين أهل العلم انّه نزل في حق الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وذكره المفسّرون في تفسير الآية ، فلا نحتاج إلى ذكر المصادر. كما نزل في حقّه قوله تعالى : ( أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ ) (3). نقل الطبري في تفسيره باسناده إنّه كان بين الوليد وعلي ، كلام فقال الوليد : أنا أبسط منك لساناً وأحدّ منك سناناً وأرد منك للكتيبة ، فقال علي ( عليه السلام ) : « اسكت فإنّك فاسق » فأنزل الله فيهما : ( أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ ) (4). وقد نظم الحديث حسان بن ثابت ( شاعر عصر الرسالة ) وقال :
1 ـ آل عمران : 154. 2 ـ الحجرات : 6. 3 ـ السجدة : 18. 4 ـ تفسير الطبري : 21 / 62 ; تفسير ابن كثير : 3 / 462.