الكلمتين في الكتابة ، و التلفّظ ، و السماع ، حصل التردّد في المبشّر به ، و مفسّروا إنجيل يوحنّا يصرّون على الأوّل ، و ادعوا أنّ المراد منه هو روح القدس و انّه نزل على الحواريين في اليوم الخمسين بعد فقد المسيح كما ذكر في كتاب « أعمال الرسل » (1).
و إليك نصّه : « لمّا حضر يوم الخمسين ( بعد عروج المسيح أو صلبه على زعمهم ) كان الجميع معها بنفس واحدة ، و صار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة ملأ كل البيت ، حيث كانوا جالسين و ظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنّها من نار ، و استقرّت على كل واحد منهم ، و امتلأ الجميع من روح القدس وابتدؤا يتكلّمون بالسنة اُخرى ، كما أعطاهم الروح أن ينطقوا ». و لكن القرائن المفيدة للقطع و اليقين تفيد إنّ المراد منه هو الأوّل ، و إنّ المسيح بصدد التبشير عن ظهور نبي في مستقبل الأيّام و إليك بيان هذه القرائن : 1 ـ إنّ المسيح قال : « إن كنتم تحبّوني فاحفظوا وصاياي و أنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر ». إنّ هذا الخطاب يناسب أن يكون المبشّر به نبيّاً من الأنبياء ، إذ لو كان « فارقليط » عبارة عن الروح النازل يوم الدار لما كان هناك حاجة إلى هذا التأكيد ، لأنّ تأثيره في القلوب تأثير تكويني ـ كما عرفت من النّص ـ لايمكن لأحد التخلّف عنه ولايبقى في القلوب معه شك ، و هذا بخلاف تأثير النبي فإنّه يؤثّر ببيانه و كلامه في القلوب ، و هو يختلف حسب اختلاف طبائع المخالفين و استعدادهم ، و لأجل ذلك أُصرّ على الإيمان به في بعض جمله و هو : « و الآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنون به ». و قد عرفت ممّا نقلناه من كتاب أعمال الرسل إنّ تأثير روح القدس كان تأثيراً تكوينيّاً غير خاضع لإرادة الإنسان.
1 ـ أعمال الرسل ، الإصحاح الثاني : الجمل1 ـ 4.
(72)
2 ـ إنّه وصف المبشّر به بلفظ « آخر » و هذا لايناسب كون المبشّر به روح القدس لعدم تعدّده و اتّحاده بالأب و الابن اتّحاداً حقيقيّاً ، فلايقال في حقّه « فارقليط » آخر ، بخلاف الأنبياء فإنّهم يجيئون واحداً بعد الآخر في فترة بعد فترة. 3 ـ إنّ المسيح قال : « هو يذكّركم كلّما قلته لكم ». إنّ من البعيد نسيان الحواريين تعاليم المسيح في مدة لاتزيد على خمسين يوماً حتى يذكّرهم روح القدس ، و هذا بخلاف ما إذا قلنا بأنّ المراد هو النبي الخاتم الذي ظهر بعد مضي قرون ستّة ، و قدلعبت الأهواء بتعاليم الأنبياء و حرّفت الكنائس و الرهبان ما جاء به المسيح ( عليه السلام ). 4 ـ إنّ المسيح قال : « هو يشهد لأجلي » فلو كان المراد هو نزول الروح يوم الدار بعد خمسين يوماً كانت هذه الشهادة لغواً لعدم حاجة التلاميذ إلى شهادته لأنّهم كانوا يعرفون المسيح حق المعرفة ، و المنكرون للمسيح لم تحضرهم تلك الروح ، و هذا بخلاف ما إذا اُريد منه النبي المبشّربه فإنّ نبيّنا شهد للمسيح و صدّقه و نزّهه عن ادعاء الاُلوهيّة كما أبرأ اُمّه من تهمة الزنا ، و هذا واضح لمن تدبّر آيات الذكر الحكيم. 5 ـ إنّ المسيح قال : « إن لم أنطلق ، لم يأتكم الفارقليط ، فأمّا إن انطلقت أرسلته إليكم ». فعلّق مجيئه بذهاب نفسه مع أنّ مجي الروح غير معلّق على ذهاب المسيح بشهادة أنّه نزل على الحواريين في حضور المسيح ، لمّا أرسلهم إلى الأطراف و الأكناف فنزوله ليس مشروط بذهابه ، فلابد أن يكون المراد منه شخص يكون مجيئه موقوفاً على ذهاب المسيح كما هو الحال في النبي الخاتم لأنّه جاء بعد ذهاب المسيح ، و كان مجيئه موقوفاً على ذهابه لأنّ وجود رسولين ذوي شريعتين مستقلّتين في زمان واحد غير جائز ، بخلاف ما إذا كان الآخر متبعاً لشريعة الأوّل أو يكون كل من الرسل متبعاً لشريعة واحدة فيجوز في هذه الصورة وجود اثنين أو أكثر في زمان
(73)
واحد و مكان واحد كما ثبت وجودهم بين زمان « الكليم » و « المسيح ».
6 ـ قال المسيح : « إنّه يوبّخ العالم ». و هذا لاينطبق إلاّ على نبي الإسلام لأنّه وبّخ العالم من المشركين و اليهود والنصارى توبيخاً لايشك فيه إلاّ معاند متكبّر بخلاف الروح النازل يوم الدار ، إذ لميكن هناك وجه للتوبيخ لأنّه لميكن هناك مخالفين للمنهج الصحيح. 7 ـ قال المسيح : « إنّ لي كلاماً كثيراً أقوله لكم و لكنّكم لستم تطيقون حمله الآن ». هذا يعرب من أنّ فارقليط يأتي بأحكام لم يكونوا يطيقونها زمان تكلّم المسيح ، هذا لاينطبق على نزول الروح يوم الدار ، لأنّه ما زاد حكماً على أحكام المسيح و أي أمر حصل لهم أزيد من أقواله إلى زمان صعوده ؟ نعم بعد نزول هذا الروح أسقطوا جميع أحكام التوراة ما عدا بعض الأحكام العشرة المذكورة في الباب العشرين من سفر الخروج و أحلّوا جميع المحرّمات. و هذا بخلاف ما إذا اُريد نبي يزيد في شريعته أحكاماً إلى أحكام موروثة من المسيح و يثقل حملها على المكلّفين ، ضعفاء الإيمان. 8 ـ إنّ المسيح قال : « لأنّه ليس ينطق من عنده بل يتكلّم بكل ما يسمع ويخبركم بما سيأتي ». هذا يعرب من أنّ فارقليط سيواجه التكذيب فسوف يكذّبه بنو اسرائيل فأراد دعم دعوته و انّه صادق في كل ما يقول و لامجال لمظنّة التكذيب في حق الروح النازل يوم الدار ، على أنّ الروح أحد الثلاثة و بوجه نفسه سبحانه ، فلامعنى لقوله بل يتكلّم بما يسمع ، و هذا بخلاف أن يراد منه نبي من الأنبياء الذين لايتكلّمون إلاّ بوحي منه ، قال سبحانه : ( وَ مَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * اِنْ هُوَ اِلاَّ وَحْى يُوحَى ) ( النجم/3و4 ).
(74)
هذه القرائن و غيرها ممّا يظهر للقاري بعد التدبّر فيما ورد في الإصحاحات الثلاث ( الرابع عشر ، الخامس عشر ، و السادس عشر ) ، تفيد القطع و اليقين بأن المبشّربه هو نبي لاغير » (1). و ممّا يؤيد ذلك انّ المراد من « الفارقليط » هو النبي هو ما ذكره مؤرّخوا المسيحيين أنّ بعض الناس قبل ظهور النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إدّعى أنّه هو الفارقليط الموعود قالوا : إنّ « منتنس » المسيحي الذي كان في القرن الثاني من الميلاد و كان مرتاضاً شديداً ادّعى في قرب سنة 177 من الميلاد أنّه هو الفارقليط الموعود الذي وعد بمجيئه عيسى ( عليه السلام ) و تبعه اُناس كثير و هذا يعرب عن اُنّ المتبادر من الفارقليط في القرون الاُولى المسيحية هو النبي المبشّربه. وعن صاحب « لب التواريخ » : إنّ اليهود المسيحيين من معاصري محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كانوا منتظرين لنبي و كان هذا سبباً لرجوع عدّة من المسيحيين إلى محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي ادّعى انّه هو ذاك المنتظر.
إنجيل « برنابا » و التبشير بالنبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إنّ الكتاب الذي جاء به المسيح ( عليه السلام ) كان كتاباً واحداً و هو عبارة عن هديه و الأحكام التي جاء بها و بشارته بمن يجيء بعده ، و إنّما كثرت الأناجيل لأنّ كل من كتب سيرته سمّاه إنجيلاً لاشتماله على ما بشّر و هدى به الناس ، و من تلك الأناجيل ، إنجيل برنابا و « برنابا » حواري من أنصار المسيح الذين يلقّبهم رجال الكنيسة بالرسل ، صحبه بولس زمناً بل هو الذي عرّف التلاميذ ببولس بعد ما اهتدى بولس و رجع إلى اُورشليم و لم يكن من هذا الإنجيل أثر في المجتمع المسيحي حتى عُثِرَ في اُروبا على نسخة منه منذ قرابة ثلاثة قرون و هذا هو الإنجيل الذي حرّم
1 ـ لاحظ في الوقوف على تلك القرائن و غيرها اظهار الحق ج2 ص283 ـ 287 ، و أنيس الاعلام في نصرة الإسلام ج5 ص179 ـ 239 ، و لمؤلّف الكتاب الأخير قصّة عجيبة حول الوقوف على مفاد « فار قليط » التي صارت سبباً لاستبصاره ، فراجعه.
(75)
قرائته « جلاسيوس الأوّل في أواخر القرن الخامس للميلاد » و هذا الإنجيل يباين الأناجيل الأربعة في النقاط التالية : 1 ـ ينكر الوهية المسيح و كونه ابن اللّه. 2 ـ يعرف الذبيح بأنّه إسماعيل لا إسحاق. 3 ـ و إنّ المسيح المنتظر هو محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و قد ذكر محمداً باللفظ الصريح في فصول وافية الذيول. 4 ـ إنّ المسيح لم يصلب بل حمل إلى السماء و إنّ الذي صلب إنّما كان « يهوذا » الخائن فجاء مطابقاً للقرآن ، قدقام بترجمته من الإنجليزية إلى العربية الدكتور خليل سعادة و قدّم له مقدّمة نافعة و طبع في مطبعة المنار بتقديم السيد محمد رشيد رضا عام 1326ه ـ ق. روى البيهقي : قال أبو زكريا : و لنبيّنا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خمسة أسماء في القرآن : محمد ، و أحمد ، و عبداللّه ، و طه ، و يس. قال اللّه عزّ وجلّ في ذكر محمّد : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّهِ ... ) و قال : ( وَ مُبَشِّراً بِرَسُول يَأْتِى مِنْ بَعْدِى اسْمُهُ اَحْمَد ... ) وقال اللّه عزّ و جلّ في ذكر عبداللّه : ( وإنّهلمّا قام عبد اللّه يدعوه ) ـ يعني النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليلة الجن ـ ( كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ) ( الجن/19 ). و إنّما كانوا يقعون بعضهم على بعض ، كما أنّ اللبد يتّخذ من الصوف ، فيوضع بعضه على بعض فيصير لبداً ، وقال عزّ وجلّ : ( طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ القُرآنَ لِتَشْقَى ) ( طه/1و2 ) و القرآن إنّما نزل على رسول اللّه دون غيره ، و قال عزّ و جلّ : ( يس ) يعني يا إنسان و الإنسان هنا العاقل و هو محمد ، إنّك لمن المرسلين. ثمّ قال : قلت وزاد غيره من أهل العلم ، فقال : سمّاه اللّه تعالى في القرآن : رسولاً ، نبيّاً ، اُمّيّاً. و سمّاه : شاهداً ، و مبشّراً ، و نذيراً ، و داعياً إلى اللّه باذنه ،
(76)
وسراجاً منيراً. و سمّاه : رؤوفاً رحيماً. و سمّاه : نذيراً مبيناً. و سمّاه : مذكراً ، و جعله رحمة ، و نعمة ، و هادياً. و سمّاه : عبداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كثيراً (1).
أقول : و المراد من الإسم هنا أعم من الوصف ، فإنّ كثيراً منها صفاته ـ صلوات اللّه عليه ـ لا إسمه بمعنى العلم. و روى أيضاً بسنده عن محمّد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال : سمعت رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : إنّ لي أسماء. أنا محمد ، أنا أحمد ، و أنا الماحي الذي يمحو بي الكفر ، و أنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، و أنا العاقب الذي ليس بعده أحد (2). قال العلماء : « كثرة الأسماء دالّة على عظم المسمّى و رفعته و ذلك للعناية به وبشأنه و لذلك ترى المسمّيات في كلام العرب أكثرها محاولة و اعتناء ». قال النواوي : و غالب هذه الأسماء التي ذكروها إنّما هي صفات كالعاقب والحاشر ، فإطلاق الإسم عليها مجاز ، و نقل الغزالي : « الإتّفاق على أنّه لايجوز أن نسمّي رسول اللّه باسم لم يسمّه به أبوه و لاسمّا به نفسه الشريفة » أقرّه الحافظ ابن حجر في « الفتح » على ذلك (3). قلت : ما ادعاه من الإتّفاق غير ثابت ، و المسألة غير معنونة في كلام الكثير فكيف يمكن ادّعاء الاتّفاق عليه ، و كلّ صفة تنبثق عن تكريمه و توقيره و كان ( صلّى
1 ـ دلائل النبوّة ج1 ص159 ـ 160. 2 . دلائل النبوّة ج1 ص152. و أخرجه البخاري كما في التعليقة في كتاب المناقب ، باب ما جاء في أسماء رسول اللّه. 3 ـ دلائل النبوّة ج1 ص155 ، في التعليقة : إنّ جماعة أفردوا أسماء رسول اللّه بالتصنيف منهم بدر الدين البلقيني ، و كانت قصيدته الميميّة بديعة لم ينسج على منوالها ناسج ، و رتّب السيوطي أسماءه على حروف المعجم في كتابه « الرياض الأنيقة في شرح أسماء خير الخليقة ».
(77)
اللّه عليه و آله و سلّم ) واجداً لمبدءها فيصحّ توصيفه به.
روى البيهقي عن ابن عباس ، قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « إنّ اللّه عزّ و جلّ قسّم الخلق قسمين ، فجعلني في خيرهما قسماً ، و ذلك قوله : ( وأصحاب اليمين ) و ( أصحاب الشمال ) فأنا من أصحاب اليمين و أنا خير أصحاب اليمين. ثم جعل القسمين ثلاثاً ، فجعلني في خيرها ثلثاً ، فذلك قوله تعالى : ( فأصحاب الميمنة ) ( و السابقون السابقون ). فأنا من السابقين ، و أنا خير السابقين. ثمّ جعل الأثلاث : قبائل ، فجعلني في خيرها قبيلة ، و ذلك قول اللّه تعالى : ( وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ اَتْقَاكُمْ اِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) و أنا أتقى ولد آدم ، و أكرمهم على اللّه و لافخر ، ثمّ جعل القبائل بيوتاً ، فجعلني في خيرها بيتاً ، و ذلك قوله عزّ و جلّ : ( اِنَّمَا يُريدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ اَهْلَ البَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) فأنا و أهل بيتي مطهّرون من الذنوب (1).
6 ـ اُمّيّة النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) القرآن الكريم يصف النبي في غير واحد من الآيات بالاُمّية و يقول : ( اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الاُمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِى التَّورَاةِ وَ الإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ اِصْرَهُمْ وَ الأَغْلاَلَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ ... ) ( الأعراف/157 ). فقد وصف سبحانه نبيّه في هذه الآية بخصال عشر و هي أنّه : 1 ـ رسول ، 2 ـ نبي ، 3 ـ اُمّي ، 4 ـ مكتوب اسمه في التوارة والإنجيل ، 5 ـ منعوت فيهما بأنّه يأمر بالمعروف 6 ـ وينهى عن المنكر ، 7 ـ ويحل لهم الطيبات ، 8 ـ ويحرّم عليهم الخبائث ، 9 ـ ويضع عنهم إصرهم ، 10 ـ ويضع عنهم الأغلال التي كانت عليهم.
1 ـ دلائل النبوّة ج1 ص170و171.
(78)
ويقول سبحانه أيضاً : ( فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرَسولِهِ النَّبِيّ الاُمّيّ الَّذي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِماتِه وَاتّبِعُوهُ لَعَلّكُمْ تَهْتدُونَ ) ( الأعراف/158 ). وقد عرفت أنّه سبحانه يصف قوم النبي بالأُمّيين بل العرب جميعاً بهذا الوصف ، كما تعرّفت على معنى الأُمّي عند البحث عن ثقافة قوم النبي وحضارتهم ، فلا حاجة إلى إعادة البحث عن معنى الاُمّي وذكر نصوص أئمّة اللّغة إنّما المهم في المقام نقد الآراء الشاذة في تفسير الاُمّي وإليك البحث عنها واحداً بعد آخر : أ ـ الأُمّي منسوب إلى أُمّ القرى ربّما يقال : إنّ الأُمّي هو المنسوب إلى « أُمّ القرى » وهي علم من أعلام مكّة كما يشير إليه قوله سبحانه : ( وَكَذلكَ أوْحَيْنَا إليْكَ قُرْآناً عرَبِيّاً لتِنْذِرَ أُمَّ ا لقُرى وَمَنْ حَوْلَها ) ( الشورى/7 ). وعلى ذلك فلا يدل على أنّ النبي كان أُمّيّاً بمعنى أنّه لا يقرأ ولا يكتب. يلاحظ عليه : أوّلاً : إنّ أُمّ القرى ليست من أعلام مكّة وإنّما هي كلّية لها مصاديق ، منها مكّة المكرّمة ، يقول سبحانه : ( وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتّى يَبْعثَ في أُمِّها رَسُولاً ) ( القصص/59 ). أي حتّى يبعث في أُمّ القرى وعاصمتها رسولاً. قال ابن فارس في المقاييس : « كل مدينة هي ا ُمّ ما حولها من القرى ». ثانياً : لو صحّ كونها من أعلام مكّة ، فالصحيح عند النسبة إليها « هو القروي » لا « الأُمّي » (1).
1 ـ راجع شرح ابن عقيل ج2 ص391 عند البحث عن « ياء » النسب.
(79)
ثالثاً : لو كان المراد من الأُمّي هو المنسوب إلى أُمّ القرى لكان الإتيان به في ثنايا الخصال العشر إقحاماً بلا وجه واقتضاباً بلا جهة ، بخلاف ما إذا قلنا بأنّه إيعاز إلى أُمّيّته وعدم قراءته وكتابته ولكن في الوقت نفسه جاء بكتاب عجز كلُّ البلغاء عن معارضته ، واخرسّ الفصحاء عن مباراته. وعلى الجملة انّ توصيف النبي بالأُمّي وقومه بالأُمّيين ، إيعاز إلى هذه النكتة ، وإنّ هذا النبي خرج من قوم غير قارئين ولا كاتبين ولا متحضّرين كما هو أيضاً غير قارئ ولا كاتب ، ومع ذلك أتى بشريعة متقنة وسنن محكمة وكتاب بديع بلا بديل. ب ـ الأُمّي غير المنتحل لملّة أو كتاب سماوي وربّما يقال : إنّ الأُمّي هو غير المنتحل لملّة أو كتاب من الكتب السماوية ولو أطلق على العرب أنّهم ا ُمّيون فالمراد أنّهم غير منتحلين لكتاب من الكتب السماوية ويدل على ذلك أنّه سبحانه يجعل أهل الكتاب في مقابل الأُمّيين ويقول : ( وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ والأُمِّيِّينَ ءأسْلَمْتُمْ فَإنْ اَسْلَمُوا فَقَد اهْتَدَوْا وَاِنْ تَوَلَّوْا فإنّمَا عَلَيْكَ البَلاَغُ وَاللّهُ بَصيرٌ بِالِعبادِ ) ( آل عمران/20 ). يلاحظ عليه : إنّ توصيف العرب بالاُميّيين لا لأجل عدم إنتحالهم لملّة أو كتاب سماوي بل لأجل عدم إقتدارهم على القراءة والكتابة ، فقد كانت الاُمّية بهذا المعنى سائدة عليهم كما كان التعرّف عليهما هو الغالب على أهل الكتاب ، فصحّ لأجل ذلك التقابل بين أهل الكتاب والأُمّيين ويعود معنى الآية : « قل » للطائفتين الأُمّيين غير القارئين والكاتبين وأهل الكتاب الذين لهم اقتدار بهما. والذي يدل على أنّ هذا هو ملاك التقابل هو أنّه سبحانه يصف بعض أهل الكتاب بالاُميّة ويقول : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إلاّ اَمَانِىَّ واِنْ هُمْ إلاّ يَظُنُّونَ ) ( البقرة/78 ).
(80)
فالآية بحكم رجوع الضمير « ومنهم » إلى اليهود تقسّم اليهود إلى طائفتين : طائفة يعلمون الكتاب لثقافتهم وتمكّنهم من القراءة والكتابة وبالتالي تمكّنهم من التطلّع على التوراة والإستفادة منها. وطائفة فاقدة للثقافة وغير قادرة على القراءة والكتابة وبالتالي جاهلين بكتابهم الذي نزل بلسانهم والجهل بلغتهم قراءة وكتابة يلازم جهلهم بسائر اللغات غالباً خصوصاً في بيئة اليهود الذين يقدّمون تعليم لغتهم على سائر اللغات. فلو كان الاُمّي بمعنى غير المنتحل لكتاب ولا ملّة فما معنى تقسيم أهل الكتاب إلى طائفيتن أُمّي وغير أُمّي ؟. ج ـ الاُمّي من لا يعرف المتون السامية الأُمّي عبارة عمّن لم يعرف المتون العتيقة السامية التي كتبت بها زبر الأوّلين من التوارة والإنجيل وإن كان عالماً بسائر اللغات قادراً بقرائتها وكتابتها يقول سبحانه : ( وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إلاّ اَمَانِىَّ وإنْ هُمْ إلاّ يَظُنُّونَ ). فإنّ قوله : « لا يعلمون الكتاب » جملة تفسيريّة لقوله « أُمّيون » فالأُمّي من لايحسن تلاوة الإنجيل والتوراة. يلاحظ عليه : إنّ إرادة المعنى المذكور من « الأُمّيّين » في الآية لا يثبت أنّ الأُمّي عبارة عمّن لا يعرف اللّغة السامية بل الأُمّي من لا يعرف القراءة والكتابة وذلك يختلف حسب البيئة والظروف. ففي العصور التي سادت فيها اللّغة السامية التي بها تكتب الدواوين والرسائل ، و عليها لغة دينهم و كتابهم ، يكون الاُمّي عبارة عمّن لايعرف تلك اللغة ، ـ وبحسب الطبع ـ من كان جاهلاً في أمثال تلك الظروف بلغته الواجبة الضرورية ،