( لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هيهُنَا ).
و اللّه سبحانه يجيب عليها : 1 ـ بأنّ أمر النصر بيد اللّه كما أخبر به النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولكنّه مرهون بعوامل و أسباب غيبيّة و اُخرى إكتسابيّة خاصّة ، و أنتم أيّها المعترضون قد فوّتم تحصيل تلك الأسباب و العوامل ، فلايحق لكم الإعتراض بعد تقصيركم. 2 ـ بأنّ لكل نفس أجلاً محدّداً لايتقدّم عليه و لايتأخّر. 3 ـ إنّ في هذه النكسة الفادحة تمحيص لما في الصدور و القلوب فقد تميّز به المؤمن المثابر من المتظاهر بالإيمان ، و بذلك يعلم أنّ القول بأنّ الصحبة كافية في تحقيق إتّصاف الرجل بالعدالة و النزاهة و الإستقامة شيء لاحقيقة له و لاأساس وقدتحقّق لديك بفضل هذه الآيات أنّ أصحاب النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إنقسموا إلى طوائف : فمن منافق نكص على عقبيه في أثناء الطريق و لم يشترك في القتال و تذرّع بقولهم : ( لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلاِْيمَانِ ) ( آل عمران/167 ). و من مؤمن كابر أمر الرسول و خرج عن طاعته و أخلى ساحة القتال و لكنّه لم تنتابه و تعتريه شبهات و ظنون أهل الجاهليّة ، فتاب و رجع إلى النبيّ بعد جلاء المعركة و هم من مصاديق قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقُوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ) ( الأعراف/201 ). و من متظاهر بالإيمان لم يتمكّن الإيمان من قلبه حقّ التمكّن ، فلمّا حاق به البلاءو رأى الإنتكاسة المروّعة الرهيبة ، إرتدّ القهقري و صار يتفوّه بمقولات أهل الشرك و الجاهلية. أضف إلى ذلك ، الطائفة الثالثة الذين رجعوا أثناء الطريق و لم يساهموا النبيّ و المسلمين ، و هؤلاء هم أتباع عبد اللّه بن اُبيّ المنافقون.
(362)
أفبعد هذا يصحّ لنا القول بأنّ كلّ صحابي عادل ؟!! و انّ العدل و الصحبة متلازمان كلا و من يذهب إليه فإنّما يجترء عظيماً. و الذي يعرب عن أنّ بعضهم قد بلغ به الحال إلى المشارفة على أعتاب الرّدة قوله سبحانه : ( وَ مَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَئِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبَ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً ) ( آل عمران/144 ). قال أنس بن النضر : في السّاعة التي زاغت فيها الأبصار و البصائر و بلغت القلوب فيها الحناجر ، و حين فشا في النّاس أنّ رسول اللّه قد قتل ، و قال بعض ضعفاء المؤمنين ليت لنا رسولاً إلى عبد اللّه بن اُبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان (1) وقال ناس من أهل النّفاق : إن كان محمّد قد قتل فالحقوا بدينكم الأوّل. قال أنس : إن كان محمد قد قتل فإنّ ربّ محمّد لم يقتل ، و ما تصنعون بالحياة بعد رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه و موتوا على ما مات عليه ، ثمّ قال : اللّهم إنّي أعتذر إليك ممّا قال هؤلاء ، و أبرأُ إليك ممّا جاء به هؤلاء ، ثمَّ شدّ بسيفه فقاتل حتّى قتل ( رضي الله عنه ) ، كما مرّ (2). فمحصّل معنى الآية على ما فيها من سياق العتاب و التوبيخ : إنّ محمّداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليس إلاّ رسولاً من اللّه مثل سائر الرّسل ليس شأنه إلاّ تبليغ رسالة ربّه لايملك من الأمر شيئاً ، و إنّما الأمر للّه و الدين دينه باق ببقائه ، فما معنى إتّكاء إيمانكم على حياته ، حيث يظهر منكم أنّ لو مات أو قتل تركتم القيام بالدين و رجعتم إلى أعقابكم القهقري و اتّخذتم الغواية بعد الهداية ؟ و هذا السياق أقوى شاهد على أنّهم ظنّوا يوم أُحد بعد أن حمى الوطيس إنّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد قتل فانسلّوا عند ذلك و تولّوا عن القتال.
1 ـ مجمع البيان : ج1 ص513. 2 ـ لاحظ ص 332.
(363)
القصاص بالقسط : إنّ المشركين لمّا مثّلوا بقتلى المسلمين في اُحد و بحمزة بن عبد المطّلب فشقّوا بطنه ، و أخذت هند بنت عتبة كبده فجعلت تلوكه ، وجدعوا أنفه و اُذنه ... قال المسلمون لئن أمكننا اللّه منهم لنمثّلنّ بالأحياء منهم فضلاً عن الأموات ، و في ذلك نزل قوله سبحانه : ( وَ إِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَ اصْبِر وَ مَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَ لاَتَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لاَتَكُ فِى ضَيْق مِمَّايَمْكُرُونَ ) (1). و روى السيوطي في الدر المنثور عن ابن عبّاس قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم قتل حمزة و مثّل به : لئن ظفرت بقريش لاُمثلنّ بسبعين رجلاً منهم ، فأنزل اللّه : ( وَ إِنْ عَاقَبْتُمْ ) الآية ، فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « بل نصبر يا ربّ. فصبر و نهى عن المثلة » و الظّاهر أنّ الحكاية الاُولى أوثق و ذلك لأنّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أجلّ و أعلى شأناً من أن يتمنّى قصاصاً فيه إجحاف و انتقاص بالآخرين. و روى البيهقي عن محمّد بن كعب القرظي قال : لمّا رأى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حمزة بالحال التي هو بها حين مثّل به ، قال : لئن ظفرت بقريش لاُمثلنّ بثلاثين منهم ، فلمّا رأى أصحاب رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما به من الجزع قالوا : لئن ظفرنا بهم لنمثلنّ بهم مثلة لم يمثّلها أحد من العرب بأحد ، فأنزل اللّه عزّ و جلّ : ( وَ إِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) إلى آخر السورة فعفا رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (2). و الإختلاف بين الحكايتين واضح لكنّ محمّد بن كعب القرظي من بني قريظة الذين تمّت إبادتهم أيام رسول اللّه في المدينة و لم يبق منهم إلاّ قلّة قليلة ، و لايعبأ بنقله ، و لعلّ غرضه الاّزدراء بالنبيّ و ادّعاء عدم قيامه بمقتضى العدل.
1 ـ مجمع البيان : ج3 ص605. 2 ـ دلائل النبوّة ، ج3 ص286 ، و السيرة النبويّة لابن هشام ج2 ص95.
(364)
مطاردة العدو : ثمّ إنّه لمّا بلغ رسول اللّه أنّ العدو بصدد معاودة الكرّة إلى المدينة حتّى يستأصل بقية المسلمين ، فأمر رسول اللّه المؤذّن أن يؤذّن بالخروج إلى مطاردة العدو و أن لايخرج إلاّ من حضر الأمس في المعركة ، و إليه يشير قوله سبحانه : ( الَّذِينَاسْتَجَابُوا للّهِ وَ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَ نِعْمَ الوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَة مِنَ اللّهِ وَ فَضْل لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللّهِ وَ اللّهُ ذُو فَضْل عَظِيم * إِنَّمَا ذلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَتَخَافُوهُمْ وَ خَافُون إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران/172 ـ 175 ). و يستفاد من جملتها : ( أوّلاً ) : إنّ المؤمن إذا إنتابته الهزيمة و اعتراه الإنكسار الظاهري لايصل به الأمر إلى فقد الثقة باللّه سبحانه و تعالى ، فلو تمكّن من معاودة الكرّة لتحقيق الإنتصار لهبّ مسرعاً و لم يقعد به القرح و لايكون جليس البيت لأجل ملمّة ألمّت به ، و إليه يشير قوله سبحانه : ( اَلَّذِينَ اسْتَجَابُوا للّه ... ). ( و ثانياً ) : لو بلغهم تأهّب العدوّ لكرّ عليهم ثانياً وجاءت النذر يخوفونهم من بأس العدو و مازادهم إلاّ إيماناً وثقة و إنقطاعاً إلى اللّه و قالوا : ( حَسْبُنَا اللّهُ وَ نِعْمَ الوَكُيلُ ). ( و ثالثاً ) : إنّ ما جاءت به النذر من الأنباء إنّما كانت من الشياطين الّذين يخوّفون أولياءهم ، و أمّا المؤمنون فإنّهم قد خرجوا عن نطاق تأثير تلك الإرهاصات النفسيّة. غزوة اُحد بين السلبيات و الإيجابيّات : إنّ غزوة اُحد كسائر الغزوات التي تمخّض عنها ما هو سلبي و ما هو إيجابي ، و قد ورد في الذّكر الحكيم آيات تشير إلى جملتها ، و إليك نصوصها مشفوعة بما
(365)
يليق بها من التحليل : قال عزّ و جلّ : ( وَ تِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَ اللّهُ لاَيُحِبُّ الظَّالِمِينَ ). ( وَ لِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الكَافِرينَ ). ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَم اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ). ( وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) ( آل عمران/140 ـ 143 ). ( مَا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَميزُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَاكَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَ لَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِى مِنْ رُسلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) ( آل عمران/179 ). و يستفاد من هذه الآيات ما يلي : 1 ـ الإنتصار و الإنكسار من سنن اللّه : إنّ من سنن اللّه تعالى الطبيعية في الاُمم أنّه لم يكتب على جبين اُمّة السيادة والإنتصار في جميع الأزمنة والأمكنة ، وكذلك شأن الهزيمة. فهي تعيش بين هذين مقبلة ومدبرة تارة اُخرى كما يشير إليه قوله سبحانه : ( وَتِلْكَ الاَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ... ). 2 ـ التمحيص بالمحنة و البلاء : إذا كتب النصر على جبين اُمّة على ممرّ الأعصار والدهور لم يتميّز المؤمن عن المنافق والصابر المجاهد عن المتهاون المتقاعد ، وقد كان المسلمون قبل لقاء العدوّ
(366)
يتمنّون الموت ولكنّهم فشلوا في الإمتحان عند اللّقاء كما يشير إليه قوله : ( وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِنْ قَبْلِ اَنْ تَلْقَوْهُ ... ) وقد طبّقت غزوة اُحد ذلك المقياس وقد عرفت ماآل إليه جيش المسلمين حيث إنقسموا إلى ثلاث طوائف أو أكثر ، و إليه يشير قوله سبحانه : ( وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الذِينَ آمَنُوا ... ) وقوله سبحانه : ( وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ ) وقال أيضاً : ( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا اَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ... ).
3 ـ خُلّص الغزاة شهداء على الأعمال : وقد بلغ إخلاص بعض الغزاة إلى حدّ جعلهم يتسنّمون درجة الشهادة على الأعمال وهي درجة رفيعة تحتاج إلى بصيرة مثاليّةو كماليّة في القلب حتّى يشهد على سائر إخوانه بخير أو شرّ كما يشير إليه قوله سبحانه : ( وَيَتّخِذْ مِنْكُمْ شُهَداء ) ومع ذلك فربّما يحتمل أن يراد من الشهداء في الآية هو الشهيد في المعركة والمضحّي بنفسه في سبيل إعلاء كلمة الحق. 4 ـ الجنّة رهن الجهاد والصمود : إنّ إستحقاق دخول الجنّة لا يكتسب بمجرّد التفوّه بمحض عبارات اللّسان بل يحتاج إلى عظيم جهاد بالنفس والنفيس. وإليه يشير قوله سبحانه : ( اَمْ حَسِبْتُمْ اَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّهَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُم وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ). هذا ما يستفاد من جملة هذه الآيات ، وهناك طائفة اُخرى من الآيات وردت في شأن تلك الغزوة فيها من العظات والحكم البليغة.
(367)
5 ـ استنهاض الهمم والعزائم : لا شكّ إنّ الهزيمة والإنكسار في الحرب من أعظم عوامل تثبيط العزائم كما إنّ الإنتصار من أقوى عوامل النهوض بها وتتويجها بتاج الإستبسال والبطولة. وبما إنّ الهزيمة كانت قد لحقت بالمسلمين في خاتمة المعركة فقد كان لها بطبيعة الحال آثار سيّئة مروّعة خصوصاً عند ظهور الأعداء عليهم فهم قد انبروا يحيكون حولها من الأراجيف ، قال علي ( عليه السلام ) : « إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره ، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه » (1) فعاد الذكر الحكيم يعالج هذا الداء المزمن الّذي إستشرى في نفوس المسلمين وتمكّن في قلوبهم وذلك بإعلامهم بأنّ الموت من سنن اللّه سبحانه الحتميّة وإنّ لكلّ نفس كتاباً مؤجّلاً لايتخلّف ولا يحيد عنه أبداً ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( وَمَا كَانَ لِنَفْس اَنْ تَمُوتَ اِلاَّ بِاِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ ) ( آل عمران/145 ). 6 ـ الاعتبار بالاُمم الماضية : إنّه سبحانه من أجل رفع معنويّات المسلمين واستنهاض هممهم يذكرّهم بالاُمم الماضية وكيف انّ فئتهم القليلة كانت تغلب الفئات الكثيرة وتجعل الصبر على البلاء دثارها وذلك لأخذ هم بأسباب النّصر من الصمود والمفاداة في سبيل إظهار الحق وإعلاء كلمته ، قال سبحانه : ( وَكَأَيِّن مِنْ نَبِىّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا اَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) ( آل عمران/146 ). ( وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ اِلاَّ اَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِر لَنَا ذُنُوبَنَا وَاِسْرَافَنَا فِى اَمْرِنَا وَثَبَّتْ اَقْدَامَنَا وَانْصُرنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ ) ( آل عمران/147 ).
1 ـ نهج البلاغة قسم الحكم رقم 2.
(368)
7 ـ إخماد ثائرة الفتنة : ولمّا رجع المسلمون إلى المدينة بعد أن أصابهم ما أصابهم فوجئوا بشماتة المتقاعدين والمنافقين حيث خاطبوهم بقولهم : لو كنتم معنا لما قتلتم ، وذلك ما يحكيه عنهم سبحانه بقوله : ( الَّذِينَ قَالُوا لاِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ اَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ اَنْفُسِكُمُ المَوْتَ اِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ( آل عمران/168 ). وقد ورد ذلك المضمون في موضع آخر من السورة في قوله سبحانه : ( يَا اَيُّهَا الَّذِينَ آمنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لاِخْوَانِهِمْ اِذَا ضَرَبُوا فِى الاَرْضِ اَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَهً فِى قُلُوبِهِم وَاللَّهُ يُحْيِى وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ( آل عمران/156 ). فهو سبحانه يجيب عن هذه الشبهة باُمور : أ ـ ما أشار إليه في قوله : ( قُلْ فَادَرُؤوا عَنْ اَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ اِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) وحاصله أنّ قولكم « لو أطاعونا ما قتلوا » يعرب عن أنّ القائل يعتقد بأنّ الموت والحياة بيد الانسان ولو صحّ ذلك فليدفع الموت عن نفسه ، مع أنّه سنّة اللّه الحتميّة في جميع الكائنات. ب ـ بأنّ موت الإنسان في ساحة القتال مع الشرك ليس موتاً حقيقياً وإنّما هو في حقيقة الأمر ارتحال من دار إلى دار ومن حياة مادّية إلى حياة مثالية وأبدية سرمدية في خاتمة المطاف في جنات النعيم وانّ الشهداء أحياء عند ربّهم يرزقون ويستبشرون بالّذين لم يلحقوا بهم بما هم فيه من حياة بلا كآبة ووجل ، قال سبحانه : ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ اَمْوَاتاً بَلْ اَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ اَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَة مِنَ اللَّهِ وَفَضْل وَاَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ اَجْرَ المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران/169 ـ 171 ). ثمّ إنّ المستفاد منها أنّ حياة الشهداء حياة حقيقية لها آثار جسمية ولها آثار
(369)
روحية ، ومن آثارها الجسميّة هو الرزق ، ومن آثارها النفسية الاستبشار ، فمن زعم أنّ المراد من حياة الشهداء هو خلودهم في صفحة تاريخ أمجاد الشعوب فقد فسّر القرآن تفسيراً مادّياً أعاذنا اللّه تعالى منه ولذلك قال النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في جوابه لأبي سفيان ـ عندما قال : « إنّ الحرب سجال يوم بيوم » ـ : « قتلانا في الجنّة وقتلاكم في النار ». وقال الإمام الحسين حينما أمر أصحابه بالصبر : « صبراً بني الكرام فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة فأيّكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر وما هو لأعدائكم إلاّ كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب ، وإنّ أبي حدّثني عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنّ الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر ، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم ما كذبت ولا كذّبت » (1). فما جاء في كلامه ( عليه السلام ) صريح في كون الحياة حياة حقيقية. وهذه الآيات بجملتها قد تناولت غزوة اُحد بجوانبها المختلفة وهناك آيات أخرى أيضاً وردت بالتنديد بالمتقاعدين وباستنهاض هممهم مثل قوله سبحانه : ( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَاَنْتُمُ الاَْعْلَونَ اِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * اِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الاَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) ( آل عمران/139و140 ).
1 ـ بلاغة الحسين ص47.
(370)
3 ـ غزوة الخندق أجلى النبي الأكرم قبيلتي « بني قينقاع » و « بني النضير » من المدينة المنوّرة إلى شمال شبه الجزيرة العربيّة فنزلت عدّة منهم قلاع خيبر ورحلت عدّة اُخرى منهم إلى الشام ولبثتا تتحيّنان الفرص لإدراك ثأرهما من النبيّ وأصحابه والإنقضاض عليهم في عقر دارهم ، و قد كان اليهود أبصر خصوم المسلمين وأشدّهم حنكة وسياسة ، فهم كانوا دعاة التوحيد في شبه الجزيرة العربية ، وكانوا ينافسون المسيحيين في سلطانهم حيث كانوا دعاة التثليث ، وفي خضمّ هذه الظروف فوجئوا ببزوغ نجم شخصيّة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكتابه الجديد حيث يدعوا إلى التوحيد بعبارات قويّة جذّابة وبمبادئ خلاّبَة تأخذ بمجامع القلوب وتستقطب الأفكار. ولأجل ذلك اجتمعت كلمتهم على تأليب العرب وإثارة حفائظهم ضدّ محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأرسلوا رسلهم إلى قريش منهم سلاّم بن أبي الحقيق ، وحيي بن أخطب ، وكنانة بن أبي الحقيق من بني النضير ، ونفراً من بني وائل حتى قدموا قريشاً فدعوهم إلى حرب رسول اللّه وقالوا : إنّا سنكون معكم حتى نستأصله ، فقالت لهم قريش : يا معشر اليهود إنّكم أهل الكتاب الاُوّل والعلم وتعلمون اختلافنا ومحمّد ، أفديننا خير أم دينه ؟ قالوا : بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق. اللّه أكبر ما هذه الشراسة والصلافة والوقاحة! وهم يزعمون أنّهم دعاة التوحيد وهاهم يفضّلون ويرجّحون الوثنيّة على التوحيد بملء فيهم لغاية التشفّي والإنتقام ، وإليه يشير قوله سبحانه : ( اَلَمْ تَرَ اِلَى الَّذِينَ اُوْتُوا نَصِيباً مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ