وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاَء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * اُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ... ) ( النساء/51 ـ 52 ) (1).
فلمّا قالوا ذلك لقريش طاروا فرحاً وامتلأوا سروراً ونشطوا لإنجاح وتلبية مادعوهم إليه من حرب رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . ولمّا تمكّنوا من أخذ الميثاق منهم على الحركة صوب المدينة في وقت مُخصّص ارتحلوا من مكّة إلى شمال الجزيرة فجاؤا إلى غطفان من قيس بن غيلان ومن بني مرّة ، ومن بني فزارة ، ومن أشجع ، ومن سليم ، ومن بني سعد ، ومن أسد التي هي بمجموعها تشكّل بطون غطفان ، وما زالوا بهم يحرّضونهم ويستحثّونهم ويذكرون لهم متابعة قريش إيّاهم على حرب محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فاجتمع أمرهم على نصرتهم ووعدهم يهود خيبر على أن يدفعوا إليهم محاصيل نخيلهم طيلة عام واحد ازاء نصرتهم لهم ومعاضدتهم إيّاهم (2).
حفر الخندق واحداثه حول المدينة (3) : ولمّا بلغ رسول الله اتّفاق كلمتهم على حربه واجتماع قبائلهم على غزوه ، أخذ يخطّط لكيفيّة الدفاع وصدّ هجوم القبائل عليه في عقر داره. إذ فرق كبير بين غزوتي بدر واُحد وغزوة الخندق ، فإنّ المحاربين في هذه الغزوة المترقبة أشد شراسة وعدداً وعدّة من سلفهم ، ومن أجل ذلك فإنّ الصمود في وجهم يحتاج إلى حنكة عسكرية فائقة وتخطيط حربي متقن فاستشار أصحابه في أمرهم فقال سلمان : يا رسول الله إنّ القليل لا يقاوم الكثير في المطاولة ، قال : فما نصنع ؟ قال : نحفر خندقاً يكون بيننا
1 ـ و قد أشبعنا الكلام في توضيح الآية في الفصل المخصّص بأهل الكتاب فراجع. 2 ـ المغازي للواقدي ج2 ص446. 3 ـ عسكر رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم الثلاثاء لثمان مضت من ذي القعدة فحاصروه خمس عشرة و انصرف يوم الأربعاء لسبع بقين سنة خمس ، و قد استعمل على المدينة ابن اُمّ مكتوم.
(372)
وبينهم حجاباً فيمكنك منعهم في المطاولة ، ولا يمكنهم أن يأتوا من كل وجه ، فإنّا كنا معاشر العجم في بلاد فارس إذا باغتنا العدو نحفر خندقاً فتكون الحرب من مواضع معروفة ، فأمر رسول الله بالحفر من ناحية « اُحد » إلى « راتج » وجعل على كل عشرين خطوة وثلاثين خطوة (1) قوماً من المهاجرين يحفرونه ، فحملت المساحي والمعاول وبدأ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأخذ معولاً فحفر في موضع المهاجرين بنفسه وأميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ينقل التراب من الحفرة حتى عرق رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعيّ وقال : « لا عيش إلاّ عيش الآخرة اللّهمّ اغفر للأنصار والمهاجرة » فلمّا نظر الناس إلى رسول الله يحفر اجتهدوا فى الحفر ونقل التراب فلمّا كان في اليوم الثاني بكّروا إلى الحفر ... (2).
ومع ذلك أبطأ عن رسول الله وعن المسلمين رجال من المنافقين يستترون بالضعيف من العمل ويتسلّلون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولا إذن ، وأمّا غيرهم من المسلمين فإذا نابته النائبة من الحاجة التي لابدّله منها يذكر ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويستأذنه في اللحوق بحاجته ، فياذن له ، فاذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة في الخير واحتساباًله (3). فخرجت قريش ومن لحق بها من أحابيشها أربعة آلاف فارس وعقدوا اللواء في دارالندوة وقادوا معهم ثمانمائة فرس ، وكان معهم من الظهر ألف وخمسمائة بعير لحمل أمتعتهم ومؤونتهم. وأمّا من غير قريش فقد خرجت جموح من القبائل فبلغ القوم الذين وافوا
1 ـ و لعلّ في النصّ سقط ، و يحتمل أن يكون الصواب بهذا النحو : و جعل على كل عشرين خطوة قوماً من المهاجرين و على كل ثلاثين خطوة قوماً من الأنصار ، و الوجه في ذلك كثرة عدد الأنصار و قلّة عدد المهاجرين فتأمّل. 2 ـ البحار ج20 ص218. 3 ـ السيرة النبويّة لابن هشام ج2 ص216.
(373)
الخندق من قريش وسواهم عشرة آلاف بين راكب وراجل ، فنزلت قريش برومة ووادي العقيق فى أحابيشها ومن انضوى إليها من العرب واقبلت غطفان حتى نزلوا بالزغابة بجانب اُحد (1).
وخرج رسول الله والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم (2). بينما كانت قريش وحلفاؤها ترجو أن تلقى المسلمين باُحد ، فلم تجد عنده أحداً فجاوزته إلى المدينة حتى فاجأها الخندق ، ولم تكن عارفة بهذا الاُسلوب من الدفاع ، فرابطوا حول الخندق وعلموا أنّهم لا يستطيعون اقتحامه واجتيازه بعد جهد جهيد ، فاكتفوا بتراشق النبل والسهام عدّة أيّام متوالية وكلّما أراد بطل من أبطال الحلفاء أن يجتاز الخندق ، رُمي بالحجارة والنبل من خلف كثبان الرمل التي نصبت على أطرافه في مواقع المسلمين ، وقد ا ستمرّت الحال على هذا المنوال قرابة خمسة عشر يوماً أو أزيد. قال المقريزي : كان المشركون يتناوبون بينهم فيغدو أبوسفيان بن حرب في أصحابه يوماً وخالدبن الوليد يوماً ويغدو عمرو بن العاص يوماً وهبيرة بن أبي وهب يوما وعكرمة بن أبي جهل يوماً وضرار بن الخطاب الفهري يوماً ، فلا يزالون يجيلون خيلهم ويتفرّقون مرّة ويجتمعون مرّة اُخرى ويناوشون المسلمين ويقدّمون رماتهم فيرمون ، وإذا أبوسفيان في خيل يطيفون يمضيق من الخندق فرماهم المسلمون. حتى رجعوا وكان عبّاد بن بشر ألزم الناس لقبّة رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يحرسها وكان « أسيد بن حضير » يحرس في جماعة ، فاذا عمرو بن العاص في نحو المائة يريدون العبور من الخندق فرماهم حتى ولّوا ، وكان المسلمون يتناوبون الحراسة وكانوا في فقر وجوع وكان عمرو بن العاص وخالدبن الوليد كثيراً ما يطلبان
1 ـ المغازي للواقدي ج2 ص444. 2 ـ السيرة النبويّة ج2 ص220.
(374)
غرّة ومضيقاً من الخندق يقتحمانه فكانت للمسلمين معها وقائع في تلك الليالي (1).
فأقام رسول الله والمشركون بضعاً وعشرين ليلة ، فبينما الناس على ذلك من الخوف والبلاء ولم يكن قتال إلاّ الحصار و الرمي بالنبل إلاّ أنّ فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ودّ ، وعكرمة ابن أبي جهل ، وضرار بن الخطاب ، وهبيرة بن أبي وهب ، تلبّسوا للقتال وخرجوا على خيولهم حتى مرّوا على منازل بني كنانة ووقفوا فقالوا : تهيئوا للحرب يا بني كنانة فستعلمون من الفرسان اليوم ، ثم أقبلوا تسرع بهم خيولهم حتى وقفوا على الخندق فقالوا : والله إنّ هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها. ثم يمّموا شطرهم مكاناً من الخندق ضيّقاً ، فضربوا خيولهم فجالت بهم حتى عبرت الخندق فطلب عمرو بن عبد ودّ البراز مرّة بعد اُخرى إلى أن ارتجز بقوله :
ولقد بححت من النداءووقفت إذ جبن المشجعولذاك إنّي لم أزلإنّ السجاعة في الفتى
بجمعكم هل من مبارزموقف القرن المناجزمتسرّعاً قبل الهزائزوالجود من خير الغرائز (2)
ثمّ قال النبي لأصحابه ثلاث مرّات : أيّكم يبرز لعمرو وأضمن له على الله الجنّة ، في كلّ مرّة كان يقوم عليّ فاستدانه وعمّمه بيده ، فلمّا برز قال : « برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه » وقال : « اللّهمّ إنّك أخذت منّي عبيدة بن الحارث يوم بدر وحمزة بن عبد المطلب يوم اُحد و هذا أخي عليّ بن أبي طالب ، ربّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين » (3). وقال الواقدي : إنّ المسلمين كأنّ على رؤوسهم الطير لمكان عمرو وشجاعته ، فلمّا استقبله عليّ ارتجز بقوله :
1 ـ إمتاع الأسماع ص241. 2 ـ دلائل النبوّة ج3 ص438. 3 ـ بحار الأنوار ج20 ص215 نقلاً عن كنز الفوائد للعلامة الكراجكي ص136.
(375)
لا تعجلنّ فقد أتاكذو نيّة وبصيرةإنّي لأرجو أن اُقيممن ضربة نجلاء
مجيب صوتك غير عاجزوالصدق منجى كلّ فائزعليك نائحة الجنائزيبقى ذكرها عند الهزائز
فقال له عمرو : ومن أنت ؟ قال : أنا عليّ. قال : ابن عبد مناف ؟ فقال : علي ابن أبي طالب. فقال : غيرك يا ابن أخي ومن أعمامك من هو أسنّ منك فأنا أكره أن اهريق دمك. و قال الواقدي : أقبل عمرو يومئذ و هو فارس و عليّ راجل فقال له عليّ ( عليه السلام ) : إنّك كنت تقول في الجاهلية : لايدعوني أحد إلى واحدة من ثلاث إلاّ قبلتها! قال : أجل! قال علي : فإنّي أدعوك أن تشهد أن لاإله إلاّ اللّه و أنّ محمداً رسول اللّه و اسلم للّه رب العالمين ، قال : يا ابن أخي أخّر هذا عني. قال : فاُخرى ترجع إلى بلادك فإن يكن محمد صادقاً كنت أسعد الناس به ، و إن كان غير ذلك كان الذي تريد ، قال : هذا ما لاتتحدّث به نساء قريش أبداً ، و قد نذرت ما نذرت وحرّمت الدهن ، قال : فالثالثة ؟ قال : البراز ، قال : فضحك عمرو ، ثمّ قال : إنّ هذه الخصلة ما كنت أظن إنّ أحداً من العرب يرومني عليها إنّي لأكره أن أقتل مثلك و كان أبوك لي نديماً ، فارجع فأنت غلام حدث و إنّما أردت شيخي قريش أبابكر و عمر قال ، فقال عليّ ( عليه السلام ) : فإنّي أدعوك إلى المبارزة فأنا أحبّ أن أقتلك ، فأسفّ عمرو و نزل و عقل فرسه (1) و سلّ سيفه كأنة شعلة نار ثمّ أقبل نحو عليّ مغضباً ، فأنحى بسيفه على هامّة علي ، فصدّها علي بمجنّه فانقدّ المجن و أثبت فيها السيف و أصاب رأسه فشجّه ، فعاجله عليّ فضربه على حبل العاتق فسقط وثار العجاج ، و سمع رسول اللّه التكبير فعرف أنّ عليّاً قد قتله ، و عند ذلك خرجت خيلهم منهزمة حتى جاوزت الخندق هاربة ، ثمّ أقبل عليّ نحو رسول اللّه و وجهه يتهلّل ، فقال عمر بن الخطاب هلا استلبته درعه ؟ فإنّه ليس للعرب درع خير منها
1 ـ المغازي للواقدي ج2 ص417.
(376)
فقال : ضربته فاتقاني بسواده (1) فاستحييت ابن عمي أن استلبه ثمّ أنشد يقول :
نصر الحجارة من سفاهة رأيهفصددتّ حين تركته متجدّلاًلا تحسبنّ الله خاذل دينه
ونصرت ربّ محمد بصوابكالجذع بين دكادك (2) وروابونبيّه يا معشر الأحزاب (3)
استبشار المؤمنين و كآبة المشركين : قد كان الخوف و الوجل مستولياً على نفوس المسلمين منذ جاء الأحزاب وحاصروا المدينة ولمّا قتل علي بطل الأحزاب و فارسها و انهزم من كان معه من أبطالهم و ذؤبانهم ، حتى إنّ عكرمة بن أبي جهل ألقى رمحه يومئذ و فرّ ، انقلبت الاُمور رأساً على عقب ، فصار الخوف و الهلع نصيب المشركين و مخيّماً عليهم. هذا من جانب ، و من جانب آخر ، كان الوقت إذ ذاك شتاءاً قارساً برده ، عاصفة رياحه ، يخشى في كل وقت مطره ، فالخيام التي ضربوها أمام يثرب لاتحميهم منها فتيلاً. و من ناحية ثالثة وقف أبو سفيان و حلفاؤه على أنّ الخندق مادام حائلاً بينهم و بين المسلمين و الأبطال منهم يذودون عنه بالنبال و الحجارة ، و ما دامت بنو قريظة تمدّ المسلمين بالمؤونه إمداداً ، فإنّه من الصعب العسير إحراز النصر عليهم بل بإمكانهم الصمود أمامهم على تلك الحال مدّة مديدة تطول مع الشهور ، و الحل الوحيد الذي أصبح أمامهم هو أن ترجع الأحزاب إلى أدراجهم. ولكن إجتماع هؤلاء الأحزاب على حرب المسلمين مرّة اُخرى ليس بالأمر
1 ـ هكذا في المصدر و لعلّ الصحيح : بسوأته. 2 ـ جمع « دكداك » و هو الرمل اللّين ، و « الروابي » : جمع « رابية » و هي الكدية المرتفعة. 3 ـ السيرة النبويّة لابن هشام ج2 ص265.
(377)
الميسور فإن افلتت الفرصة ربّما لم يسنح لهم الزمان بمثلها في المستقبل.
هذه النهاية التي آل إليها أمر الأحزاب و كانوا في حيرة من أمرهم و غمّة شديدة. و عند ذلك تفطّن حيي بن أخطب فتيل الفتنة بأنّ في إمكانه أن يتّصل ببني قريظة القاطنين في داخل المدينة و يحرّضهم على نقض عهدهم مع النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و المسلمين ، فعند ذلك تنقطع الميرة و المؤونة و المدد أوّلاً ، وينفتح الطريق لدخول يثرب من قلاع بني قريظة ثانياً. و خال حيي بن أخطب بأنّه جاء بمكيدة محكمة ، فعرضت فكرته على قريش وغطفان فحبّذاها و سارعا إلى إنجازها فذهب بنفسه يريد كعب بن أسد صاحب عقد بني قريظة و قد أغلق كعب دونه باب حصنه إذ عرف أنّه حيى بن أخطب و لكنّه آخر الأمر فتح باب قلعته و اعتنق نظريّته و نقض عهده مع الرسول ، و أوجد ذلك قلقاً شديداً بين المسلمين ، و قد ذكرنا تفصيله عند البحث عن أهل الكتاب ، و لكنّه سبحانه دفع شرّهم بحدوث الاختلاف بين المشركين و بني قريظة فآل الأمر إلى انجلاء الأحزاب من ساحة القتال من دون نتيجة و إليك بيانه :
إنقسام المشركين على أنفسهم : إنّ نعيم بن مسعود أتى رسول اللّه فقال : يا رسول اللّه إنّي قد أسلمت و إنّ قومي لم يعلموا بإسلامي ، فمرني بما شئت. فقال رسول اللّه : إنّما أنت فينا رجل واحد فادخل بين القوم خذلانا إن استطعت فإنّ الحرب خدعة ، فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة و كان لهم نديماً في الجاهلية فقال : يا بني قريظة قد عرفتم ودّي إياكم وخاصة ما بيني و بينكم قالوا : صدقت لست عندنا بمتّهم ، فقال لهم : إنّ قريشاً وغطفان ليسوا كأنتم. البلد بلدكم فيه أموالكم و أبناؤكم و نساؤكم لاتقدرون على أن تحوّلوا منه إلى غيره ، و إن قريشاً و غطفان قد جاؤا لحرب محمد و أصحابه
(378)
وقد ظاهرتموهم عليه و بلدهم و أموالهم و نساؤهم بغيره فليسوا كأنتم ، فإن رأوا نهزة أصابوها ، و إن كان ذلك لحقوا ببلادهم ، و خلّوا بينكم و بين الرجل ببلدكم ولاطاقة لكم به إن خلابكم فلاتقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمداً حتى تناجزوه ، فقالوا له : أشرت بالرأي.
ثمّ خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب و من معه من رجال قريش : قدعرفتم ودّى لكم و فراقي محمداً و أنّه بلغني أمر قدرأيت عليّ حقّاً أن اُبلغكموه نصحاً لكم فاكتموا عنّي ، فقالوا : نفعل. قال : تعلموا أنّ معشر يهود قدندموا على ما صنعوا فيما بينهم و بين محمّد و قد أرسلوا إليه : إنّا قد ندمنا على مافعلنا فهل يرضيك أن نأخذلك من القبيلتين من قريش و غطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثمّ نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم ؟ فأرسل إليهم نعم ، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلاتدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً. ثمّ خرج حتّى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان إنّكم أصلي و عشيرتي وأحبّ الناس إلىّ و لا أراكم تتّهموني ، قالوا : صدقت ما أنت عندنا بمنّهم ، قال : فاكتموا عني ، قالوا : نفعل ، فما أمرك ؟ ثمّ قال لهم مثل ما قال لقريش و حذّرهم ما حذّرهم. فلمّا كانت ليلة السبت من شوّال سنة خمس أرسل أبو سفيان بن حرب ووجهاء غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل ، فقالوا لهم لسنابدار مقام ، قدهلك الخف و الحافر ، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمّداً فأجابوا إنّ اليوم يوم السبت لانعمل فيه شيئاً و مع ذلك لسنا بالذين نقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمّداً ، فإنّنا نخشى إن اشتدّ عليكم القتال تتركوننا في بلادنا و لاطاقة لنا بذلك منه ، فلمّا رجعت إليهم الرسل بما قالته بنو قريظة ، قالت قريش و غطفان : و اللّه إنّ الذي حدّثكم به نعيم بن مسعود لحق ، فارسلوا إلى بني قريظة : إنّا لاندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا ، فإن كنتم تريدون
(379)
القتال فاخرجوا فقاتلوا ، فقالت بني قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا : إنّ الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ما يريد القوم إلاّ أن يقاتلوا ، فإن رأوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك تفرّقوا إلى بلادهم و خلّوا بينكم و بين محمّد فى بلدكم ، فارسلوا إلى قريش و غطفان : إنّا و اللّه لانقاتل معكم محمداً حتى تعطونا رهناً فأبوا عليهم.
فلمّا كان ليلة السبت بعث اللّه عليهم الريح في ليلة شاتية باردة شديدة البرد فجعلت تكفأ قدورهم و تطرح آنيتهم و لمّا انتهى إلى رسول اللّه ما فرّق اللّه من جماعتهم دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً. فذهب حذيفه و رجع بقوله : دخلت في القوم و الريح و جنود اللّه تفعل بهم ماتفعل لاتقرّ لهم قدراً و لاناراً و لابناءاً ، فقال أبو سفيان : يا معشر قريش إنّكم و اللّه ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع و الخف و اخلفنا بنو قريظة و لقينا من شدّة الريح ماترون ما تطمئن لنا قدر و لاتقوم لنا نار فارتحلوا فإنّى مرتحل. و بذلك اختلفت الأحزاب و لم يبق منهم أحد و أصبح الصبح و لم ير منهم شيء ، فرجع المسلمون إلى منازلهم شاكرين. هذا خلاصة ما أفادته كتب السير و التواريخ (1) و إليك تحليل ما ورد حول تلك الواقعة من الآيات و لا محيص لمفسّر عن الوقوف بما جاء في كتب السيرة فإنّها كالقرائن المنفصلة لفهم معنى ما تضمّنته الآيات الشريفة و نحن نذكر الآيات الواردة حول هذه الغزوة كاملة ثمّ نعقبّها ، بما تسنح به الفرصة من التحليل و التوضيح.
1 ـ راجع السيرة النبويّة ج2 ، و مغازي الواقدي ج2 ، وبحار الأنوار ج20 ، ومجمع البيان ج4.