إنّ انتشار أي دين أو أيديولوجية ورسوخها في العقول والنفوس يتوقّف مضافاً إلى اتقان ذلك الدين في محتواه ومضامينه على الدعوة الصحيحة إليه ، وعرضه عرضاً واسعاً وشاملاً. وقد توفر في الإسلام هذان الجانبان : أمّا الأوّل : فإنّ الإسلام ذو اُصول ، ومفاهيم تنطبق على الفطرة الإنسانية ، فهو يدعو إلى العدل والإحسان ، واجتناب البغي والعدوان ، وإلى النظر في ملكوت السماوات والأرض ، وإلى العلم والقراءة والكتابة ، وإلى التعاون والتعاضد ، وغير ذلك من الاُصول الاجتماعية والأخلاقية التي توافق فطرة البشر وتعضدها العقول بلااستثناء. كما أنّ الإسلام لا يشتمل على أيّة عقيدة رمزية أو اُصول معقدة لا تقدر على حلّها الأفكار ، ولا تستطيع على دركها العقول ، كما هو الحال في « تثليث » البراهمة والمسيحيين. وأمّا الثاني : فإنّ القرآن الكريم يسعى بكل قوّة ووسيلة ممكنة إلى نشر الاسلام ، فيخاطب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويأمره بالإنذار و التبشير ، والدعوة والتبليغ ، والصدع والموعظة ، والتذكير ، والبيان ، والتعليم ، والانباء ، إلى غير ذلك من الأساليب التي تعرب عن لزوم قيام النبي بتبليغ الرسالة الاسلامية إلى الناس ، بكل صورة ممكنة ، وإليك نماذج من تلك الخطابات.
(532)
ففي مجال الانذار يقول تعالى : ( وَاَنْذِر عَشِيرَتَكَ الاَقْرَبِينَ ) ( الشعراء/214 ). وفي مجال التبشير يقول تعالى : ( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ اَنَّ لَهُمْ جَنَّات ) ( البقرة/25 ). ويقول تعالى : ( اِنَّا اَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) ( الفتح/8 ). وفي مجال الدعوة يقول سبحانه : ( ادْعُ اِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ ) ( النحل/125 ). وفي مجال الابلاغ يقول سبحانه : ( فَاِنْ اَعْرَضُوا فَمَا اَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِم حَفِيظَاَ اِنْ عَلَيْكَ اِلاَّ البَلاَغُ ) ( الشورى/48 ). وفي مجال الصدع يقول سبحانه : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) ( الحجر/94 ). وفي مجال الموعظة يقول تعالى : ( فَاَعْرِضْ عَنْهُم وَعِظْهُم ) ( النساء/63 ). وفي مجال التذكير يقول تعالى : ( فَذَكِّر بِالقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ) ( ق/45 ). وفي مجال البيان يقول سبحانه : ( وَاَنْزَلْنَا اِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ اِلَيْهِمْ ) ( النحل/44 ). وفي مجال التعليم يقول سبحانه : ( يَتْلُوا عَلَيْكُم آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) ( البقرة/151 ). وفي مجال التنبّؤ قال سبحانه : ( نَبِّىْء عِبَادِى اَنِّى اَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ( الحجر/49 ). وقد قام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بهذا الأمر ، وعرض الاسلام عرضاً كاملاً قوّياً ، فدعا أهله وأقرباءه أوّلاً ، ثم دعا قومه وأبناء جلدته ثانياً ، ولمّا استتب له الأمر ، واستقر به المقام في المدينة المنوّرة ، وجّه دعاته إلى شتى أقطار الأرض وكلّفهم بابلاغ دينه ومنهاجه إلى الملوك والاُمراء والشعوب والقبائل ، وتحقّق هذا العمل بشكل واسع حتى لم يلبث أن بلغ نداء الاسلام إلى مسامع جميع المجتمعات البشرية ، دانيها وقاصيها في مدة لا تتجاوز قرناً واحداً من الزمان.
(533)
نماذج من الإعلام في العهد النبوي وقد تمثّل الإعلام الإسلامي في العهد النبوي ، في اُمور قام بها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مجال تبليغ الإسلام ، وإيصال نداءه إلى مسامع البشرية في مختلف الأقطار والأصقاع وهذه الاُمور هي : 1 ـ البعثات الإعلامية قد قام النبي الأكرم بارسال مبعوثين ومندوبين للدعوة والتبليغ ، ونذكر على سبيل المثال مصعب بن عمير ، الذي بعثه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى المدينة ليعلّم الناس القرآن ، ويفقّههم في الدين ، وكان شابّاً ذكياً أسلم عن رغبة وتفهّم وتعلّم من القرآن كثيراً ، فأمره رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالخروج إلى المدينة مع بعض من آمن من أهلها برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ليدعو أهل المدينة من الأوس والخزرج إلى الإسلام ، فاستطاع بحسن تدبيره ، وفضل حكمته في التبليغ والإرشاد أن يستقطب عدداً كبيراً من أهل المدينة شيباً و شباباً ورجالاً و نساءً إلى الإسلام حتى لم يلبث أن جعل من يثرب مدينة إسلامية تهيّأت لاستقبال رسول الله أكبر استقبال ، وهو لم يملك إلاّ إيماناً صادقاً وإخلاصاً في العمل (1). وبعد ما هاجر إلى المدينة بعث مجموعات تبليغية لنشر الإسلام ودعوة الناس إليه ، وأخصّ بالذكر مجموعتين تبليغيتين أرسلهما رسول الإسلام إلى بعض القبائل لتعليمها القرآن الكريم وأحكام الاسلام ، وهاتان المجموعتان هما : المجموعة الاُولى : التي بعثها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى قبيلتي عضل وقارة. فقد طلبت القبيلتان من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يبعث إليهم من
1 ـ أعلام الورى ص27.
(534)
يعلّمهم القرآن ، ويفقّههم في الاسلام.
فاستجاب النبي لهذا الطلب ، وأرسل ستة أشخاص ، وأمر عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي ، ولكن القوم غدروا بأولئك المبلغين الأبرياء ، فقتلوا من قتلوا منهم ، وأسروا رجلين منهم باعوهما لقريش ، فصلبوهما انتقاماً لقتلى بدر من المشركين والقصة مفصلة (1). المجموعة الثانية : وهي المجموعة التبليغية التي أرسلها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى قبيلة « بني عامر » لطلب أحد زعمائها الكبار ، وذلك قبل أن يبلغه غدر عضل وقارة بالمجموعة الاُولى ، وقد أرسلهم بعد أخذ مواثيق وضمانات من الطالب ، ولكن هذه المجموعة التي كانت تتألّف من أربعين شخصاً من خيرة القرّاء قد واجهت نفس ما واجهت المجموعة التبليغية الاُولى ، ولكن لا على أيدي القبيلة المبعوثين إليها ، بل على يد آخرين من القبائل المشركة المعادية للإسلام ، وقد وقع الغدر والفتك بهم في منطقة تدعى بئر معونة (2). وقد أحزنت هاتان الفاجعتان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلاّ أنّهما لم يثنيا عزمه الشريف عن مواصلة التبليغ ، بل واصل ارسال المبلّغين والرسل إلى مناطق اُخرى كما أرسل طائفة كبيرة إلى الملوك والاُمراء والقبائل وزعماء الجماعات داخل الجزيرة العربية وخارجها.
2 ـ الرسائل الإعلامية وإليك فيما يلي طائفة من الرسائل التي بعثها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يدعو فيها رؤساء القبائل إلى الاسلام ، ونخص بالذكر كتبه الاعلامية فقط :
1 ـ المغازي ج1 ص354 ـ 362 ، و السيرة النبوية لابن هشام ج2 ص169. 2 ـ السيرة النبوية لابن هشام ج2 ص183 ـ 187.
(535)
1 ـ كتابه إلى سمعان بن عمرو الكلابي. 2 ـ كتابه إلى ورد بن مرداس أحد بني سعد هذيم. 3 ـ كتابه إلى الا قيال من حضرموت. 4 ـ 5 ـ كتابان إلى أهل قريتين. 6 ـ كتابه إلى بني حارثة بن عمرو بن قريط. 7 ـ كتابه إلى عبد العزيز بن سيف بن ذي يزن. 8 ـ كتابه إلى عمرو بن مالك بن عمير الأرحبي. 9 ـ كتابه إلى عريب والحارث ابني عبد كلال. 10 ـ 16 ـ سبعة كتب إلى فهد وزرعة وبس وغير هم من ملوك حمير. 17 ـ كتابه إلى جفينة النهدي. 18 ـ كتابه إلى ملك الروم. 19 ـ كتابه إلى عبد الله بن الحارث الأعرج الأزدي الغامدي. 20 ـ كتابه إلى خراش بن جحش العبسي. 21 ـ كتابه إلى سرباتك ملك الهند. 22 ـ كتابه إلى قيس بن عمر الهمداني. 23 ـ كتابه إلى جبلّة بن الأيهم الغساني. 24 ـ كتابه إلى بني معاوية من كندة. 25 ـ كتابه إلى نفاثة بن فروة ملك السماوة. 26 ـ كتابه إلى عذرة. 27 ـ كتابه إلى ذي عمرو. 28 ـ كتابه إلى ذي الكلاع.
(536)
29 ـ كتابه إلى اسيخب. 30 ـ كتابه إلى حوشب ذي ظليم. 31 ـ كتابه إلى رعية السحيمي. 32 ـ كتابه إلى قيس بن مالك (1). هذه كتاباته التبليغية التي وردت أسماؤها في الكتب ، وإن ذهبت ألفاظها وعبارتها فلم يبق منها إلاّ الإسم. وهناك كتب تبليغية له ( صلى الله عليه وآله وسلم ) موجودة بأعيانها وخصوصيّاتها في كتب السير والتاريخ والحديث ، والكلّ يدلّ على أنّ الإسلام انتشر في العالم بفضل الدعوة الصحيحة وبعث الدعاة والرسل ، ولو كان هناك سل السيف وسفك الدم ، فإنّما كان لرفع الحواجز بين الرسول وتبليغه. وإليك أسماء كتبه الموجودة التبليغيّة التي أرسلها إلى الملوك والاُمراء والشيوخ والقبائل على نحو الإيجاز والإيعاز والتفصيل يطلب من مظانّه (2).
مراسلة الملوك والاُمراء ورؤساء القبائل إنّ أبرز كتبه في الدعوة إلى الاسلام هي : 1 ـ كتابه إلى كسرى ملك الفرس. 2 ـ كتابه إلى قيصر عظيم الروم. 3 ـ كتابه إلى النجاشي ملك الحبشة. 4 ـ كتابه إلى المقوقس ملك مصر.
1 ـ لاحظ مكاتيب الرسول للعلاّمة الأحمدي ص35 ـ 40. 2 ـ راجع الوثائق السياسية و مكاتيب الرسول.
(537)
5 ـ كتابه إلى ملوك الشام واليمامة. 6 ـ كتابه إلى الحارث بن أبي شمر. 7 ـ كتابه إلى هوذة بن علي الحنفي ملك اليمامة. 8 ـ كتابه إلى المنذر بن ساوي. 9 ـ كتابه لرفاعة بن زيد الجزامي. 10 ـ كتابه إلى جيفر وعبد ابني الجلندي. 11 ـ كتابه إلى فروة بن عمرو الجذابي. 12 ـ كتابه إلى أكثم بن صيفي. 13 ـ كتابه إلى اسيخب بن عبد الله. 14 ـ كتابه إلى يحنه بن رؤبة وسروات أهل أيلة. 15 ـ كتابه إلى زيادبن جهور. 16 ـ كتابه إلى بكر بن وائل. 17 ـ كتابه إلى مسيلمة الكذّاب. 18 ـ كتابه إلى ضغاطر الأسقف. 19 ـ كتابه إلى اليهود. 20 ـ كتابه إلى يهود خيبر. 21 ـ كتابه إلى أسقف نجران. 22 ـ كتابه إلى هرمزان عامل كسرى. وقد دعا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في هذه الكتب التي سجّلها التاريخ وأثبت نصوصها كاملة ، الملوك والاُمراء إلى الدين الإسلامي وشرح أهدافه وغاياته السامية.
(538)
وقد حمل هذه الكتب رجالاً من أصحابه اتّسموا بالنباهة والذكاء ، والشجاعة والحكمة. ويذكر التاريخ انّ بعضهم كان يعرف لغة القوم الذين اُرسل إليهم مع كتاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ). وكان هؤلاء الرسل يتمتّعون بإيمان قوي ، وينطلقون من عقيدة راسخة بالدين وشجاعة ، وهي الصفات التي يجب أن يتحلّى بها المبلّغ ، ولهذا كانوا في الأغلب يؤثرون في نفوس المرسل إليهم حتّى انّهم كانوا يقبلون دعوة النبي ولو آل إلى التضحية بحياتهم كما حدث لضغاطر الأسقف فإنّه لمّا جاءه كتاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقرأه أخذ بمجامع قلبه واهتدى إلى الحق واعتنق الإسلام راغباً وقال لقومه من الروم : « يا معشر الروم ... إنّي أشهد أن لا إله إلاّ الله وانّ أحمد عبده ورسوله ، فوثبوا عليه وثبة رجل واحد وقتلوه » (1).
3 ـ التبليغ عن طريق الأدب والنظم ولم يكتف رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في تبليغ رسالته بالرسائل والكتب بل استعان بالشعر أيضاً ولهذا كان حسّان يخلّد الحوادث ، بأبيات من الشعر ، ويشجّعه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وربّما دافع حسّان وغيره عن حوزة الإسلام ونبيّه بهجاء من يعادونه أو يتعرّضون له أو يهجونه ، وإليك نماذج من هذا الأمر. 1 ـ عندما هجا ابن الزبعريّ المسلمين يوم اُحد ، قائلاً :
ياغراب البين اسمعت فقل
إنّما تنطق شيئاً قد فعل
1 ـ الطبري ج2 ص392 و 693.
(539)
إلى أن قال :
ليت أشياخي ببدر شهدوافقتلنا الضِّعف من أشرافهم
جزع الخزرج من وقع الأسلوعدلنا ميل بدر فاعتدل
قال حسّان في الرد عليه :
ذهبت يا بن الزبعري وقعةولقد نلتم ونلنا منكم
كان منّا الفضل فيها لو عدلوكذاك الحرب أحياناً دول
الى آخره .... 2 ـ لما قال عمرو بن العاص في هجاء المسلمين يوم اُحد :
خرجنا من الفيفا عليهم كأنّناأرادوا لكيما يستبيحوا قبابنا
مع الصبح من رضوى الحبيك المُنَطّقودون القباب اليوم ضرب محَرّق
قال كعب بن مالك في الردّ عليه :
ألا أبلغا فهراً على نأي دارها
وعندهم من علمنا اليوم مصدق
إلى أن قال :
لنا حومة لا تستطاع يقودها
نبيّ أتى بالحقّ عف مصدّق
3 ـ ما قاله هبيرة يوم اُحد أيضاً في هجاء المسلمين إذ قال فيما قال من الشعر :
كان هامهم عند الوغى فلق
من قيض رُبْد نفته عن أداحيها
فأجاب حسّان بقوله :
ألا اعتبرتم بخيل الله إذ قتلت
أهل القليب ومن ألقينه فيها
(540)
كم من أسير فككناه بلا ثمن
وجزّ ناصية كنّا مواليها (1)
وغير ذلك من الموارد التي قابل فيها حسّان وغيره من شعراء الإسلام الأوّل هجاء بهجاء ، قارع قاصع.
4 ـ إعلان البراءة من المشركين وكان من أبرز مصاديق التبليغ والإعلام ما كلّف به رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأمر من الله تعالى ، أميرالمؤمنين علي ابن أبي طالب بتلاوة آيات من صدر سورة التوبة على مسامع المشركين وغير هم في يوم الحج الأكبر والتي أعلن الله فيها براءته وبراءة نبيّه من الشرك والمشركين ، وضرب لهم أجلاً ليبيّنوا موقف من الاسلام وأعلن انّ المشركين لا يجوز لهم دخول مكّة بعد ذلك الوقت والأجل. وقد كان لهذا الإعلان العام القوي أثر كبير في إسلام مجموعات كبيرة من القبائل المشركة ، وتوافدها على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في العام المسمّى بعام الوفود. 5 ـ شعار المسلمين في الهجمات العسكرية ومن جملة أساليب التبليغ التي كان يتبعها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إطلاق الشعارات المناسبة في المعارك فمثلاً لمّا صاح أبوسفيان بعد إلحاق الهزيمة بالمسلمين : اعل هبل اعل هبل. أمر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأن يقابلوه بشعار : اللّه أعلى وأجل.
1 ـ السيرة النبوية ج2 ص2 و 131 ـ 132.