ولمّا صاح : نحن لنا العزّى ولا عزّى لكم. قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم. كما أنّ المسلمين كانوا عند الهجوم على الأعداء ينادون بشعار خاص مثل : امت ... امت (1). كانت هذه لمحة سريعة عن أساليب رسول الإسلام ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في التبليغ والدعوة إلى الإسلام ، وهي تكفي لمعرفة إهتمام الإسلام بهذا الأمر. وفي هذا العصر حيث اُتيحت للبشرية أجهزة ووسائل أوسع للتبليغ يتعيّن على المسلمين الإستفادة منها بشكل أفضل وبمنتهى الشجاعة والعزم ليصدق في شأنهم قوله تعالى : ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَيَخْشَوْنَ أَحَداً اِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً ) ( الأحزاب/39 ).
ما هي وظائفنا اليوم في مجال التبليغ والدعوة ؟ هذا بعض ما كان يقوم به رسول الإسلام ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مجال التبليغ والدعوة إلى الإسلام ، وقد كان عملاً عظيماً جبّاراً بالقياس إلى وسائل ذلك العصر ، فما هو واجب المسلمين في هذا الزمن وهم يملكون أعظم الأجهزة للتبليغ والدعوة. فما ذا يجب أن يفعله المسلمون اليوم ؟ هذا هو ما يجب أن نشير إليه في هذا المقام. والذي نراه هي الاُمور التالية : 1 ـ رصد التبشير المسيحي والدعايات الماركسية : إنّ العالم الإسلامي يحاصره
1 ـ السيرة النبويّة ج2 ص68.
اليوم معسكران قويّان مزوّدان بكلّ القوى والإمكانات ، وهما المعسكر الغربي الذي يروّج المسيحية ، والمعسكر الشرقي الذي يروّج الماركسية والإلحاد.
و يعمل هذان المعسكران ليل نهار على بثّ سمومهما في أقطار العالم الإسلامي بمختلف الأساليب و السبل. و من أساليبهم النيل من كرامة النبي العظيم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فهذا هو كتاب يصدر في لندن باسم « الآيات الشيطانية » يشكّك في نبوّة رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، و تتحدّث عنه إذاعة لندن لإلقاء الضوء عليه ، و حثّ الناس على قراءته تحت غطاء نقل الأخبار. و هو مع الأسف يستند إلى بعض المصادر الإسلامية التي تحتاج إلى نظارة التنقيب جدّاً مثل تاريخ الطبري و السيرة الحلبية ، فكم فيهما من موضوعات ومنحولات و إسرائيليّات و مسيحيّات بثّها أبناء الديانتين من كعب الأحبار و وهب ابن منبه و تميم الداري ، وأخذها السذّج من المسلمين ، و زعموا أنّها حقائق راهنة. فلابدّ أن تنهض جماعة من العلماء و المفكّرين و الخطباء للتصدّي لهذه الهجمة الظالمة على الإسلام بالوسائل المتاحة و المفيدة. 2 ـ رصد الدعايات المفرّقة لصفوف المسلمين و تبديد وحدتهم التي هي أقوى قلعة في وجه العدوّين المذكورين آنفاً ، فلابدّ أن تجدّد فكرة دار التقريب بين المذاهب الإسلامية ، و لابدّ أن يتصدّى مركز إسلامي قوي للكتب المفرّقة التي لايقصد من كتابتها و بثّها إلاّ إيجاد الفرقة بين الطوائف الإسلامية في عصر هي أحوج ما فيه إلى التعاضد و التعاون و التعاطف ، خاصّة أنّ هذه الكتب تحتوي على سفاسف و ترّهات و قضايا لاقيمة لها و لاأساس. ضع يدك على كثير ممّا ينتشر في أشهر الحج ضد الشيعة الإمامية. نعم لايعني من هذا أن لايعرض أحد عقيدته بصورة موضوعية علميّة أو أن يتجرّد أحد من عقائده من دون دليل ، بل المطلوب هو تجنّب التهجّم على الآخرين ،
و بثّ بذور الفرقة و التشتّت ، و إلاّ فعرض المذاهب مستنداً إلى أوثق المصادر لغاية التعرّف من وسائل التقريب و أدواته.
3 ـ تأسيس وحدة إعلامية واحدة للمسلمين : إنّ الأعداء على اختلاف مشاربهم و مطامعهم يؤلّفون وحدة إعلامية واحدة ، فلابد أن يقوم المسلمون بتأسيس وحدة إعلامية واحدة ، و يستفيدون من جميع وسائل الإعلام و التبليغ و الدعوة من إذاعة و تلفزيون و سينما و مسرح ، لعرض الحقائق الدينية للناس بعيداً عن أجواء السياسات الداخلية و الظروف الخاصة. 4 ـ اصلاح الكتب الدراسية : ينبغي أن يقوم علماء الإسلام باصلاح الكتب الدارسية التي تدرّس في المدارس و الجامعات و يجرّدوها عمّا يشوّش أفكار الناشئة و يدفعه عن اساءة الظن بتاريخه و دينه. هذا هو بعض ما يجب أن يقوم به المسلمون في مجال التبليغ و الدعوة إلى الإسلام و هو فرض عليهم و واجب من واجباتهم كيف لا ، و مهمة الإعلام و الإبلاغ لم تنحصر برسول الإسلام فقط ، بل اعتبرها القرآن من وظيفة الاُمّة الإسلامية أيضاً. وسمّاها الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و جعل هذا العمل من وظائف المسلمين على اختلاف مستوياتهم و مؤهّلاتهم فقال : ( وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ اُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَ يَنْهَونَ عَنِ المُنْكَرِ وَ اُولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) ( آل عمران/104 ). و قال سبحانه : ( كُنْتُمْ خَيْرَ اُمَّة اُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَ تَنْهَونَ عَنِ المُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ) ( آل عمران/110 ). و ليس الأمر بالمعروف مقصوراً على تنبيه العصاة من المسلمين ، بل هو أصل عام يعم كل دعوة فيها و صلاح للمجتمع الإنساني من ابلاغ دينه سبحانه ، و نشر اُصوله و فروعه أوّلاً و الحث على الطاعة و الانذار على المخالفة ثانياً.
(544)
و اعتبر الإسلام القيام بهذاه الوظيفة سبباً لازدهار الحياة ، في شتّى مجالاتها إذ قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر سبيل الأنبياء و منهاج الصلحاء ، بها تقام الفرائض و تأمن المذاهب ، و تحل المكاسب ، و ترد المظالم ، و تعمّر الأرض وينتصف من الأعداء و يستقيم الأمر » (1). إنّ القرآن الكريم عد ترك هاتين الوظيفتين سبباً لهلاك الناس إذ قال : ( وَ سْأَلْهُمْ عَنِ القَرْيَةِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ البَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيْتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لاَيَسْبِتُونَ لاَتَأْتِيهِمْ كَذِلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ اُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَونَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بَعَذَاب بَئِيس بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) ( الأعراف/163 ـ 165 ). فقد أهلك اللّه الذين كانوا يتقاعسون عن أداء وظيفة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، بل يعترضون على من يقوم بهذه الوظيفة ، أهلكهم كما أهلك الفاسقين الذين كانوا يتجاوزون حدود اللّه و حرمة الصيد يوم السبت. و قد ورد عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في هذا الصدد أنّه قال : « لايزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر ، و تعارفوا على البرّ ، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلّط بعضهم على بعض ، و لم يكن لهم ناصر في الأرض و لا في السماء » (2). إنّ النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حذّر من مغبة ترك هاتين الفريضتين ، و انّ ذلك يؤدي إلى أن تنقلب القيم لدى الاُمّة الإسلامية عند ترك الأمر
1 ـ الوسائل : ج11 ص395. 2 ـ البحار : ج94 ص97.
(545)
بالمعروف و النهي عن المنكر ، فيصير المنكر معروفاً و المعروف منكراً ، إذ قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : كيف بكم إذ افسدت نساؤكم و فسق شبابكم ، و لم تأمروا بالمعروف و لم تنهوا عن المنكر ؟
فقيل له : و يكون ذلك يا رسول اللّه ؟ قال : نعم ، وشرّ من ذلك ، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر و نهيتم عن المعروف ؟ قالوا : يا رسول اللّه و يكون ذلك ؟ قال : نعم ، و شرّ من ذلك ، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً ، و المنكر معروفاً (1).
النظر إلى الإنسانية برحابة صدر و من أساليب دعوته أنّه كان ينظر إلى الإنسانية برحابة صدر و لايرى ميزاً لانسان أو تفوّقاً له على انسان إلاّ بالتقوى ، وكانت القومية عنده أبغض شيء ، والدعوة إليها عنده دعوة خبيثة مفرّقة للاُمّة ومشتتة لها ، وبما أنّ القومية بمفهومها الواسع صارت شعاراً لأكثر المسلمين المعاصرين على اختلاف ألسنتهم ولغاتهم ، فالعربي يدعو إلى القومية العربية ، والتركي الى القومية التركية وهكذا ، فوجب علينا البحث عن القومية من منظار الكتاب والسنّة وبذلك نختم البحث حتى يكون ختامه مسكاً فنقول :
1 ـ البحار : ج97 ص74.
وقبل أن ندخل في صلب الموضوع نأتي بعناوين البحث فنقول : إنّ البحث يدور على نقاط عشر وهي : 1 ـ ما هي القومية في مصطلح السياسيين وأصحاب هذه الفكرة ؟ 2 ـ تعيين تاريخ تكوّن هذه الفكرة في هذه العصور الأخيرة. 3 ـ هزيمة هذه الفكرة في مولدها وموطنها. 4 ـ اشتعال هذه الفكرة ونموّها في البلاد الاسلامية مؤخّراً. 5 ـ دعاة هذه الفكرة في الشرق الاسلامي جماعة ينتسبون إلى البيوت المسيحية وهل يمكن عدّ هذا الامر أمراً اتفاقياً وصدفيا ؟. 6 ـ ما هي الغاية من زرع هذه الفكرة وترويجها في الاوساط الاسلاميه ؟ 7 ـ رسالة الاسلام رسالة عامة عالمية لا تختص بقوم دون قوم. 8 ـ تفسير قوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَر وَ اُنْثى ... ) وبيان النكات الست فيه. 9 ـ كلمات مضيئة للرسول الاعظم في تحطيم القومية. 10 ـ الخسارة التي تفرضها القومية على البشرية أولاً والاسلام والمسلمين ثانياً. فهذه جهات البحث ونقاطها الحساسة التي نبحث عن الكل موجزاً فنقول : 1 ـ ما هي القومية ؟ القومية حسب ما يستفاد من المعاجم السياسية : هي الاعتقاد بارتقاء شعب
(547)
خاص على سائر الشعوب من حيث الخِلقة والخلق والعقيدة والمثل ويراد فيها باللغة الاوريية ( ناسيوناليزم ) ، وبعبارة اُخرى هي الاعتقاد بتفوّق شعب خاص والنظر إلى سائر الشعوب بالحقد والضغينة وكاُنّ حامل تلك الفكرة يحب نفسه ويبغض غيره ويخاصمه.
وهذا المورد من الموارد التي تنتزع الايديولوجية من النظرة العامة إلى الكون بمعنى انّ مدّعي القومية ينظر إلى الكون والحياة ، فيرى لنفسه حسب خياله تفوّقاً وعلوّاً ، فيرتب على تلك النظرة فكرته القومية ويبني الايديولوجية على ما استنتجه من النظر إلى الكون ، ويقول : إذا كنت أنا وقومي متفوقين في الخلق والخلقة يجب أن نكون متصدرين في السياسة والسلطة ويكون الغير خادماً ومتعبداً لنا وتكون لنا السلطة عليه. وبذلك يعلم أنّ القومية لا تفترق عن العنصرية ، فلو لم تكن هناك فكرة التفوق في الحياة لما كان للقومية تفسير منهجي صحيح ، فالقومية قائمة على العنصرية وتكون الثانية أساساً للأولى ، ونشير هنا إلى نكتة وهي انّ دعاة القومية يذمّون العنصرية مع أنّ القومية مبنيّة على أساس العنصرية كما أشرنا فلو لم يكن هناك تفوق عنصري لم يكن لصرح القوميه أساس ولا تفسير صحيح.
2 ـ تعيين تاريخ زرع هذه الفكرة في العصور الأخيرة : إنّ الباحثين عن القومية يتفقون على أنّ تلك الفكرة ظاهرة غربية يعود أصلها إلى الفرنسيين في القرن السادس عشر ، وذلك لأنّ التفرقة الهدّامة كانت سائدة على ذلك الشعب من حيث المذهب والعقيدة ، وكانت كل فرقة متمسكة بعقيدتها غير عادلة إلى غيرها ، ففي تلك الآونة ، قام عدة من رجال السياسة الذين يهمّهم كل شيء إلاّ المذهب ، بجمع شتات تلك الاُمة في ظل عامل واحد وهو القومية الفرنسية عسى أن يتوفقوا في ظلّ هذا العامل بجمع شتاتهم ولمِّ شعثهم ، وقد نجحوا في ذلك المجال بعض النجاح.
(548)
ولم تكن تلك الكلمة يوم ذلك مفيدة غير هذا المعنى ، إلاّ أنّها عبر القرون والعصور أخذت لنفسها معنى خاصاً ، وتضمّنت تضمير الحقدو التحقير لسائر الاقوام. نعم هذه جذور القومية النامية في القرون الاخيرة ، ولكن للشعوبية بمعنى القومية جذوراً تاريخية اُخرى ، وهي انّ التعصب للعربية ، من جانب الخلفاء الامويين والعباسيين ، كوّن تلك الفكرة في الشعوب الاسلامية غير العربية ، ولهذا اجتمعت الاُمم على التعلّق بالقومية في مقابل التعصبات العربية التي كانت تثيرها الخلافة الاموية والعباسية ، والبحث عن ذلك يحتاج إلى افراد رسالة مستقلة.
3 ـ هزيمة تلك الفكرة في مولدها : بينما يسعى بعض المفكرين السياسيين في ترويج تلك الفكرة في الشرق الاسلامي نرى تقهقر تلك الفكرة في الغرب وانهزامها أمام المشاكل العظيمة ، وهذا لأنّ الغرب جرّب بعد الحربين العالميتين أنّه لا يقدر على العيش والحياة إلاّ بتوحيد الشعوب والاقوام ، بل الدخول في أحد المعسكرين الشرقي والغربي ، فرفض القومية وطفق يستظل بظل الاتحاديات الاقتصادية والسياسية والثقافية وأحس انّه لا ينجح في معترك الحياة إلاّ برفض القومية ونسيانها. ويدلّ على تقهقر هذه الفكرة في القرن العشرين ظهور جامعة الدول قبل الحرب العالمية الاُولى ، وتكوّن الاُمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية فيها ، والتجاء الدول النامية والمستضعفة إلى عقد مواثيق وتحالفات مع القوى الكبرى. كل ذلك يسفر عن حقيقة واضحة ، وهي انّه قد مضى زمن تلك الفكرة وانّ بناء الدولة والمملكة على ذاك الأساس بناء على شفا جرف هار. إنّ إنجراف بعض الدول الشرقية في تيار الإشتراكية والتحالف مع الماركسية ، كتعلق الدول الغربية بمعسكر الرأسمالية ، يكشف عن عدم كفاءة هذه الظاهرة المادّية في حل مشاكل الأقوام ، ورفع العراقيل النامية في حياتهم.
(549)
4 ـ اشتعال هذه الفكرة ونموها في البلاد الإسلامية مؤخّراً : إنّ هذه الفكرة أخذت تنهزم في الغرب وتنسحب عن تلك الجوامع ، ولكنّنا نرى في الشرق دعاة إليها ، بجدّ وحماس فنرى هناك دعوة إلى القومية بأشكالها وألوانها المختلفة ، المتناسبة للظروف والملابسات المحيطة بالمناطق ، فالقومية في مصر عبارة عن الدعوة إلى الفرعونية ، وفي العراق إلى البابلية ، وفي سوريا إلى الآشورية ، وفي الاُردن إلى الرومانية ، وفي إيران إلى الجمشيدية وفي ماوراء النهر إلى جنكيزخان وزملائه العصاة الطغاة. ما هذه الدمدمة والهمهمة في الأوساط الإسلامية ، وما هو الحافز والمحرك والدافع إلى إحياء تلك الفكرة فيها ، بعد ما تقهقرت في موطنها وقُبرت في مولدها ؟ فياليتهم يدعون إلى القومية البسيطة التي دعا إليها الساسة الفرنسيون في القرن السادس عشر ، ولكنّهم أخذوا يدعون إلى القومية البغيضة الإلحادية حتى تصبح هذه الفكرة ذات مكانة خاصّة ، تغني حاملها عن الإيمان بالله ، والاعتناق بالإسلام ، وها نحن ننقل إليكم ـ يا أصحاب الفضيلة ـ كلمات من دعاة القومية في خصوص البلاد العربية ، فها هو ناصرالدين علي يقول في كتابه « قضية العرب » ص 28 : إنّ العربية هو الدين الواقعي لكل عربي سليم مسلماً كان أو مسيحيّاً ، لأنّ القومية العربية كانت سائدة على تلك الاُمّة قبل أن تولد المسيحية والإسلام ، وقد أتت بأمثل الخلق وأعلاها في مجال الحياة. نرى أنّ وسائل الاعلام العامّة تروّج هذه الفكرة ، فها هي مجلّة العالم العربي تكتب في عدد 1959 : ـ يجب أن تحل الوحدة العربية المكان الذي حلّ فية الإيمان بالله الواحد. ونقل أبوالحسن الندوي عن الكاتب القومي عمرو فاخو ري : إنّ العرب لايكونون قادرين على الثورة والتقدّم ، إلاّ إذا عدّوا العربية ديناً ، ويتمسّكوا بها كتمسّك المسلم بالقرآن ، والمسيحي بالإنجيل إلى غير ذلك.
(550)
5 ـ دعاة هذه الفكرة في الشرق الإسلامي جماعة ينتسبون إلى المسيحية وهل يمكن عد هذا الأمر أمراً اتفاقيّاً وصدفياً : والعجب أنّ منتحلي هذه الفكرة في مركز الخلافة الإسلامية « بغداد ودمشق » لايمتّون إلى الإسلام بصلة نظراء : ميشل عفلق وانطوان سعادة وجورج حبش ، هؤلاء لا يمتّون بالإسلام كما لا تمتّ بيوتهم التي نشأوا فيها بهذا الدين ، ومع ذلك فهم يدّعون أنّهم يريدون إعادة المجد إلى البلاد الإسلامية وأبناء القرآن الكريم عن طريق تحكيم القومية فيهم ، فهل يمكن تفسير ذلك بالإتفاق والصدفة ؟ وكيف تريد أبناء النصارى إعادة المجد إلى البلاد الإسلامية والمسلمين وهم ليسوا منهم ؟
إذا ما فصلت عليّا قريش
فلا في العير أنت ولا النفير
6 ـ ماهي الغاية من زرع هذه الفكرة وترويجها في الأوساط الإسلامية ؟ كانت الغاية من زرع بذور القومية في الأوساط الإسلامية ، تبديد الحكومة الإسلامية الموحّدة الحاكمة باسم الإسلام ، وكانت البلاد الإسلامية إلاّ ماشذ تعيش في ظل حكومة إسلامية لها طابع الإسلام ، وأراد المستعمرون بزرع تلك البذرة وتنميتها بيد عملائهم ، تقسيم الحكومة الواحدة إلى حكومات ، والبلد الواحد إلى بلاد ، والحاكم الواحد إلى حكّام ، حتى يسهل السيطرة عليهم ، والعجب أنّ جماعة كثيرة من الشباب والمثقّفين اغترّوا بهذه الفكرة وحسبوا أنّ الدعوة إلى القومية دعوة ناجحة مطبّقة بالإسلام والقرآن ، وكأنّهم نسوا قول الباري عزّ وجلّ : ( وَاِنَّ هَذِهِ اُمَّتُكُم اُمَّةً وَاحِدَةً وَاَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) ( المؤمنون/52 ). وقال سبحانه : ( إِنَّ هَذِهِ اُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) ( الأنبياء/92 ). فصاروا يتخاصمون مكان أن يتحابّوا ، يشتم بعضهم بعضاً ويبغض بعضهم