مفاهيم القرآن ـ جلد الثامن ::: 231 ـ 240
(231)
السؤال في المحاكم.
    حيث يُسأل الشخص عن الأعمال التي اقترفها ولِمَ فعلها ؟ بيد انّ السؤال في المحكمة الإلهية ليس على هذا الغرار ، بل انّ آثار الجرائم والذنوب تتجلّى في وجوده على وجه لا يمكن التملص منها ، ولذلك نرى أنّه سبحانه أردف قوله : ( فَيَومَئِذ لا يُسأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَان ) (1) بقوله : ( يُعْرفُ المُجْرِمُونَ بِسيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالْنَّواصِي وَالأَقْدامِ ). (2)
    الثاني : إزاحة الاختلاف بين الطائفتين باختلاف المواقف في يوم القيامة ، حيث يُسأل الإنسان في موقف ولا يُسأل في موقف آخر.
    الثالث : حمل الآيات النافية للسؤال ، على السؤال عن طريق اللسان حيث تتكلم الأعضاء مكان الإجابة باللسان ، قال سبحانه : ( الْيَومَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُون ). (3)
    الرابع : الآيات المثبتة للسؤال ناظرة إلى الأحوال التي يمرّ بها الإنسان في غضون محاكمته ، كما أنّ الآيات النافية ناظرة إلى المواقف التي ختمت فيها محاكمته واتضح مصيره من الجنة والنار. ولعلّ هذا الوجه يرجع إلى الوجه الثاني.
    وعلى ذلك فتوفية الصابرين أُجورهم بغير حساب استثناء من الآيات المذكورة.

دراسة شمولية الحساب في الروايات
    إنّ الروايات الواردة في هذا المضمار على طوائف :
1 ـ الرحمن : 39.
2 ـ الرحمن : 41.
3 ـ يس : 65.


(232)
    الأُولى : شمولية الحساب للجميع.
    الثانية : شمولية الحساب للجميع عدا المشركين الذين يدخلون الجحيم بلا حساب.
    الثالثة : شموليته لهم عدا بعض المؤمنين الذين يدخلون الجنة بلا حساب.
    وإليك بعض ما روي في المقام.
    أ. روى الإمام الباقر ( عليه السلام ) عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) انّه قال : « يا معاشر قرّاء القرآن ، اتّقوا اللّه عزّ وجلّ فيما حملكم من كتابه فانّي مسؤول وانّكم مسؤولون ، انّي مسؤول عن تبليغي ، وأمّا أنتم فتسألون عمّا حملتم من كتاب ربّي وسنتي ». (1)
    ويصف الإمام علي ( عليه السلام ) يوم القيامة في بعض خطبه ، ويقول : « وذلك يوم يجمع اللّه فيه الأوّلين والآخرين لنقاش الحساب ». (2)
    ب. وقال الإمام علي بن الحسين ( عليهما السلام ) : « اعلموا عباد اللّه انّ أهل الشرك لا تنصب لهم الموازين ولا تنشر لهم الدواوين وإنّما تنشر الدواوين لأهل الإسلام ». (3)
    روى الصدوق عن الإمام علي بن موسى الرضا ( عليهما السلام ) عن آبائه عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) انّه قال : « إنّ اللّه عزّ وجلّ يحاسب كلّ خلق إلاّ من أشرك باللّه عزّوجلّ فانّه لا يحاسب ويؤمر به إلى النار ». (4)
    ج. روى المفيد في أماليه بسنده ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر ، عن آبائه ، عن رسول اللّه : « إذا كان يوم القيامة جمع اللّه الخلائق في
1 ـ أُصول الكافي : 2/606.
2 ـ نهج البلاغة : الخطبة 102.
3 ـ بحار الأنوار : 7/258 ، الباب 11 من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 2.
4 ـ المصدر السابق : الحديث 7.


(233)
صعيد واحد ونادى مناد من عند اللّه يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم ، يقول : أين أهل الصبر ؟ قال : فيقوم عنق من الناس فتستقبلهم زمرة من الملائكة فيقولون لهم : ماكان صبركم هذا الذي صبرتم ؟ فيقولون : صبرنا أنفسنا على طاعة اللّه ، وصبرناها عن معصيته ، قال : فينادي مناد من عند اللّه : صدق عبادي خلّوا سبيلهم ليدخلوا الجنة بغير حساب; قال : ثمّ ينادي مناد آخر يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم ، فيقول : أين أهل الفضل ؟ فيقوم عنق من الناس فتستقبلهم الملائكة ، فيقولون : ما فضلكم هذا الذي ترديتم به ؟ فيقولون : كنا يجهل علينا في الدنيا فنحتمل ، ويساء إلينا فنعفو ، قال : فينادي مناد من عند اللّه تعالى صدق عبادي ، خلّوا سبيلهم ليدخلوا الجنة بغير حساب; قال : ثمّ ينادي مناد من اللّه عزّ وجلّ يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم ، فيقول : أين جيران اللّه جلّ جلاله في داره ؟ فيقوم عنق من الناس فتستقبلهم زمرة من الملائكة ، فيقولون لهم : ما كان عملكم في دار الدنيا فصرتم به اليوم جيران اللّه تعالى في داره ؟ فيقولون : كنّا نتحاب في اللّه عزّوجلّ ، ونتباذل في اللّه ، ونتوازر في اللّه ، قال : فينادي مناد من عند اللّه تعالى : صدق عبادي خلّوا سبيلهم لينطلقوا إلى جوار اللّه في الجنة بغير حساب ، قال : فينطلقون إلى الجنة بغير حساب ». ثمّ قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : « فهؤلاء جيران اللّه في داره يخاف الناس ولا يخافون ، ويحاسب الناس ولا يحاسبون ». (1)
    إنّ الطائفة الأُولى من الروايات تتفق مع الطائفة الأُولى من الآيات في شمولية الحساب ، كما أنّ الطائفة الثالثة من الروايات تتفق مع ما جاء في الطائفة الثالثة من الآيات في استثناء الصابرين من الحساب ، وإن كانت الروايات أوسع شمولاً من الآيات حيث عطف على الصابرين المخلصين والعافين عن الناس.
1 ـ بحار الأنوار : 7/171 ـ 172 ، باب أحوال المتقين والمجرمين في القيامة من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 1.

(234)
    ثمّ إنّ عدم سؤال المؤمنين نوع تكريم لهم ، ولكن عدم سؤال المشركين نوع إهانة لهم ، ولا غروة في أن يكون عملٌ واحدٌ تكريماً لقوم واهانة لقوم آخرين.
    وعلى أيّة حال فالسؤال ونفيه يرجعان إلى السؤال التدويني لا التكويني فانّها عامة قطعاً.

5. ما معنى كونه سبحانه سريع الحساب ؟
    إنّ الذكر الحكيم يصف اللّه سبحانه بأنّه سريع الحساب ، يقول : ( الْيَومَ تُجْزَى كُلُّ نَفْس بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ اليَومَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسَاب ) (1) وقد ورد ذلك الوصف في غير واحد من السور. (2)
    وفي الدعاء المعروف بالجوشن الكبير : « يا من هو سريع الحساب ».
    وحينها يطرح هذا السؤال وهو ما معنى وصفه سبحانه بأنّه سريع الحساب ؟
    قد ذكر المفسرون في تفسير ذلك الوصف وجوهاً :
    الوجه الأوّل : انّه سبحانه سيجزي المؤمنين والكافرين.
    والوصف كناية عن اقتراب الساعة ، قال سبحانه : ( وَمَا أَمْرُالسّاعَةِ إِلاّكَلَمْحِ البَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَب ). (3)
    وربما يطلق الحساب ويراد منه الجزاء.
    الوجه الثاني : انّ سريع الحساب كناية عن أنّ العباد سيحاسبون في أسرع
1 ـ غافر : 17.
2 ـ لاحظ البقرة : 202; آل عمران : 19 ، 199; المائدة : 4; الأنعام : 62; الرعد : 41; إبراهيم : 51; النور : 39.
3 ـ النحل : 77.


(235)
وقت دون أن يظلم أحد منهم.
    روي عن الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) انّه قال : « إنّه يحاسب الخلق دفعة كما يرزقهم دفعة ». (1)
    الوجه الثالث : انّ الحساب لا يختص بالآخرة بل يشمل الدنيا أيضاً ، سواء أكان العمل حسناً أم قبيحاً ، فيحاسب كلّ إنسان حسب عمله ويجزى على وفقه. ويجزى المحسن بتوفيقه للطاعة والإحسان ويجزى المجرم بخذلانه وحرمانه من الخير.
    فكلّ عمل أعمّ من الخير والشر يعقبه الجزاء ، بيد انّ الإنسان العادي لا يدرك الجزاء ، ولكن العارف الواعي الذي يحاسب نفسه كلّ يوم يقف على جزاء عمله ، ولذلك ورد في الحديث : « حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ». (2)
    هذه هي الوجوه المذكورة في تفسير ذلك الوصف ، والوجهان الأوّلان ناظران إلى أنّ ظرف الحساب هو النشأة الآخرة ، والوجه الأخير ناظر إلى أنّ ظرفه هو النشأة الدنيوية ، ولكلّ دليل يدعمه.
    أمّا الوجهان الأوّلان ، فيدل عليهما الآيات التالية التي تنص على أنّ ظرف الحساب هو النشأة الآخرة.
    1. ( وَتَرى المُجْرِمِينَ يَومَئِذ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ... لِيَجْزِيَ اللّهُ كلَّ نَفْس ما كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسَاب ). (3)
    2. ( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللّهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسِبيِن ). (4)
1 ـ مجمع البيان : 1/298; الكشاف : 1/248.
2 ـ تفسير الصافي : للفيض الكاشاني.
3 ـ إبراهيم : 49 ـ 51.
4 ـ الأنعام : 62.


(236)
    3. ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالَهُمْ كَسَراب بِقيعَة يَحْسَبُهُ الظَمآنُ ماءً حَتّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللّه عِنْدَهُ فَوفّاهُ حِسَابَهُ وَاللّهُ سَرِيعُ الحِسَاب ). (1)
    غير انّ بعض الآيات يستظهر منها الإطلاق والشمولية للدنيا والآخرة ، يقول سبحانه :
    ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللّه فَإِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسَاب ). (2)
    والدليل على إطلاقه وشموليته الآية التالية بعدها ، يقول :
    ( أُولئِكَ الَّذينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَة وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِين ). (3)
    وجه دلالته : انّه سبحانه يحكم في هذه الدنيا بحبط أعمالهم في النشأتين ، ولا يحكم بالحبط إلاّ بعد الحساب.
    وممّا يؤيد الشمول قوله سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُل أُحِلَّ لَكُمُ الطَيِّباتُ وَمَاعَلَّمْتُم مِنَ الجَوارحِ مُكلِّبِينَ تعلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسَاب ). (4)
    وظاهر الآية انّه سبحانه تبارك وتعالى يوصي في الصيد بالتقوى والإعراض عن اللهو والهوى وأن يكون الصيد لأجل سدّ العيلة ، وما ذلك إلاّ لأنّه سبحانه بالمرصاد لهم وهو سريع الحساب.
    فتحصل ممّا ذكرنا انّ الآيات على طائفتين :
1 ـ النور : 39.
2 ـ آل عمران : 19.
3 ـ آل عمران : 22.
4 ـ المائدة : 4.


(237)
    الأُولى : ما هي صريحة أو ظاهرة في أنّ ظرف الحساب هي النشأة الأُخرى.
    الثانية : ما هي ظاهرة في أنّ ظرفه هي النشأة الدنيوية ، أو مطلقة تعم النشأتين.
    وعلى ضوء هذا التقسيم يكون المعنى الثاني والثالث أوفق بتفسير « سريع الحساب ».
    وأمّا المعنى الأوّل الذي يفسر الحساب بالجزاء فهو أبعد من ظاهر الآية فانّه يجعل الوصف كناية عن اقتراب الساعة وهو في غاية البعد.
    ولا غرو في أن يكون سبحانه سريع الحساب ، فكما هو يسمع دعاء الجميع في آن واحد ويرزقهم مجتمعين يحاسبهم كذلك.
    سئل علي ( عليه السلام ) كيف يحاسب اللّه الخلق على كثرتهم ؟ فقال ( عليه السلام ) : « كما يرزقهم على كثرتهم » فقيل كيف يحاسبهم ولا يرونه ؟ فقال ( عليه السلام ) : « كما يرزقهم ولا يرونه ». (1)

6. ما هو المقصود من سوء الحساب ؟
    إنّ الذكر الحكيم يصف الحساب في موارد بالسوء ، ويقول : ( وَالَّذينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَونَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الحِساب ). (2) وفي آية أُخرى : ( أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الحِسَاب ). (3)
    وعندئذ يطرح السؤال التالي نفسه :
    إذا كان الموكلون للحساب أُمناء صادقين فما هو الوجه في وصف الحساب بالسوء ؟
1 ـ نهج البلاغة : قسم الحكم ، برقم 300.
2 ـ الرعد : 21.
3 ـ الرعد : 18.


(238)
    والجواب : انّ المراد من سوء الحساب هو الحساب الصادق الذي يسيء صاحبه ، لأنّه يرى كلّ صغير وكبير من أعماله فيه مستتراً وعند ذلك تثور ثورته ويناله ذلك الحساب الصادق.
    روى هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) في تفسير قوله تعالى : ( وَيَخافُونَ سُوء الحِساب ) ، انّه قال : « الاستقصاء والمداقة » وقال : « يحسب عليهم السيئات ولا يحسب لهم الحسنات ». (1)
    روى حماد بن عثمان ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) أنّه قال لرجل : « يا فلان مالك ولأخيك ؟! » قال : جعلت فداك كان لي عليه حقّ فاستقصيت منه حقّي ، قال أبو عبد اللّه ( عليه السلام ) : « أخبرني عن قول اللّه : ( وَيخافُون سُوء الحِساب ) أتراهم خافوا أن يجور عليهم أو يظلمهم ؟ لا واللّه خافوا الاستقصاء والمداقة ». (2)
    وروى محمد بن عيسى (3) عن حماد بن عثمان ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) انّه قال لرجل شكاه بعض إخوانه : « ما لأخيك فلان يشكوك » فقال : أيشكوني ان استقصيت حقي ؟! قال : فجلس مغضباً ، ثمّ قال : « كأنّك إذا استقصيت لم تسئ ، أرأيت ما حكى اللّه تبارك وتعالى : ( وَيخافُون سوء الحِساب ) أخافوا أن يجور عليهم ؟ لا واللّه ما خافوا إلاّ الاستقصاء. فسمّاه اللّه سوء الحساب ، فمن استقصى فقد أساء ». (4)

7. من هم الذين يحاسبون حساباً يسيراً ؟
    انّه كما يذكر سبحانه سوء الحساب يذكر يسر الحساب أيضاً ، يقول
1 ـ بحار الأنوار : 7 ، الباب 11 من كتاب العدل و المعاد ، الحديث 27.
2 ـ بحار الأنوار : 7 ، الباب 11 من كتاب العدل و المعاد ، الحديث 28.
3 ـ المراد به محمد بن عيسى العُبيد.
4 ـ المصدر السابق ، الحديث 29.


(239)
سبحانه : ( فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً ) (1) غير أنّ المهم هو الوقوف على من يحاسب بهذا النوع من الحساب.
    ويستفاد من الآية التالية : أنّ صلة الرحم توجب يسر الحساب ، قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَونَ ربَّهُمْ وَيَخافُون سُوءَ الحِسَاب ). (2) وهذا يوحي إلى أنّ قطع الرحم يوجب سوء الحساب ووصلها يوجب يسره ، وقد ورد في بعض الروايات أنّ صلة الرحم تهون الحساب يوم القيامة ، ثمّ قرأ : ( يَصِلُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَونَ ربَّهُمْ وَيَخافُون سُوءَ الحِساب ).

8. اختلاف العباد عند الحساب
    انّه سبحانه كما يحاسب بعض العباد بالدقة والاستقصاء ، يحاسب بعضهم بالعفو والإغماض ، فمن بلغ في العقل والوعي مرتبة سامية يحاسب حساباً دقيقاً ، بخلاف من لم يبلغ تلك المرتبة من العقل والوعي فانّه يحاسب دون ذلك.
    يقول الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « إنّ ما يداقّ اللّه العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا ». (3)
    وروي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) انّه قال : « إذا كان يوم القيامة وقف عبدان مؤمنان ، للحساب كلاهما من أهل الجنة ، فقير في الدنيا ، وغني في الدنيا ، فيقول الفقير : يا ربّ على ما أوقف ؟ فوعزتك إنّك لتعلم أنّك لم تولّني ولاية فأعدل فيها أو أجور ، ولم ترزقني مالاً فأُؤدّي منه حقاً أو أمنع ، ولا كان رزقي يأتيني منها
1 ـ الانشقاق : 7 ـ 8.
2 ـ الرعد : 21.
3 ـ بحار الأنوار : 7/267 ، الباب 11 من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 32.


(240)
إلاّ كفافاً على ما علمت وقدّرت لي ، فيقول اللّه جلّ جلاله : صدق عبدي خلّوا عنه يدخل الجنّة. ويبقى الآخر حتّى يسيل منه من العرق ما لو شربه أربعون بعيراً لكفاها ، ثمّ يدخل الجنة ، فيقول له الفقير ، ماحبسك ؟ فيقول : طول الحساب ، مازال الشيء يجيئني بعد الشيء يغفر لي ، ثمّ اسأل عن شيء آخر حتى تغمّدني اللّه عزّوجلّ منه برحمة وألحقني بالتائبين ، فمن أنت ؟ فيقول : أنا الفقير الذي كنت معك آنفاً ، فيقول : لقد غيّرك النعيم بعدي ». (1)

9. إتمام الحجّة على العباد عند الحساب
    إنّ الحساب على أصناف :
    أ. إذا كان جاهلاً وكان جهله عن قصور ، فترك الواجب أو اقترف الحرام من دون أن يحتمل كون المتروك واجب الفعل ، والمأتي واجب الترك ، فهذا هو الجاهل القاصر الذي يكون معذوراً سواء أكان بين العلماء ولم يحتمل كون المتروك واجباً أو المفعول حراماً ، أو لم يكن بينهم بل كان يقطن في بيئة نائية عن العلم.
    ب. إذا اقترف المحرمات أو ارتكب الواجبات عن تقصير ، بأن كان جاهلاً ولم يتعلّم ، وهذا نظير القسم الثالث أي العالم بالأحكام.
    فربما يعتذر ذلك الجاهل بجهله ويتترّس به ، فيخاطب لماذا لم تتعلم ؟
    روى هارون ، عن ابن زياد ، قال : سمعت جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) يقول وقد سئل عن قوله تعالى : ( قُلْ فَلِلّه الحُجَّةُ البالِغَة ) ؟ فقال : « إنّ اللّه تعالى يقول للعبد يوم القيامة : عبدي أكنت عالماً ؟ فإن قال : نعم ، قال له : أفلا عملت بما علمت ؟ وإن قال كنت جاهلاً ، قال له : أفلا تعلَّمت حتى تعمل ؟ فيخصم ، فتلك الحجّة
1 ـ بحار الأنوار : 7/259 ، الباب 11 من كتاب العدل والمعاد ، الحديث 4.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثامن ::: فهرس