مفاهيم القرآن ـ جلد الثامن ::: 381 ـ 386
(381)
    وقال سبحانه : ( نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ ). (1)
    ولأجل انقطاع صلة المنافقين باللّه تعالى ، يحسبون وعده سبحانه بالنصر غروراً ، وربما يغتر به بعض مرضى القلوب ، قال سبحانه : ( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنا اللّهُ وَرَسُولهُ إِلاّ غُرُوراً ). (2)
    فقد ضلّوا لنفاقهم واللّه سبحانه سدّ أبواب الهداية عليهم وأمدّ في طغيانهم ، يقول سبحانه : ( وَاللّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا ) (3) ، أي أهلكهم بكفرهم ، بما أظهروه من الكفر وقال سبحانه : ( اللّهُ يَسْتَهْزِئ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُون ) (4) ، وليس استهزاؤه سبحانه إلاّ جزاءهم على أفعالهم ، كما أنّ المراد من قوله : ( وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيانِهِمْ ) حرمانهم من هداية اللّه فيتيهون في وادي الضلال بسبب نفاقهم.

2. صلتهم بالمؤمنين
    يتظاهر المنافقون بأنّهم من المؤمنين وداخلون في عدادهم ، لكنّه شيء يقولونه بلسانهم وينكرونه بقلوبهم وأعمالهم ، وذلك لأنّهم وإن كانوا يشاركون المسلمين في الجهاد ولكن يخذلونهم في اللحظات الحاسمة من خلال ترك ساحات الوغى بأعذار مختلفة ، ويا ليت انّهم يكتفون بترك القتال ، ولكنّهم كانوا كالطابور الخامس في خدمة الأعداء ، وإليك بيان أهم سماتهم :
    1. التظاهر بالإيمان عند المؤمنين وبالكفر عند الكافرين ، يقول
1 ـ التوبة : 67.
2 ـ الأحزاب : 12.
3 ـ النساء : 88.
4 ـ البقرة : 15.


(382)
سبحانه : ( وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَإِذا خَلَوا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِءُون ). (1)
    2. انّ النفاق ظهر لأوّل وهلة بين أهل يثرب ، لأنّ عبد اللّه بن أُبيّ كان قد تمتع بنفوذ واسع بين طائفتي الأوس و الخزرج ، وكان مرشحاً أن يكون سلطاناً على يثرب وحواليها ، ولما جاء الإسلام انفض من كان حوله إلاّ قليلاً منهم ، وراح يشكل نواة للنفاق ، ويتحيّن الفرص للانقضاض على المهاجرين من أهل مكة ، ولمّا تنازع مهاجر مع أنصاري في سقي الماء في غزوة بني المصطلق واوشكت الحرب أن تستعر اغتنم الفرصة وكلّم أصحابه ونهاهم عن الإنفاق على أصحاب رسول اللّه كي ينفضوا من حوله ، كما حث الطائفتين على إخراج المهاجرين من يثرب ، وهذا ما يحكيه عنه سبحانه في القرآن الكريم ضمن آيتين ، ويقول : ( هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ حَتّى يَنْفَضُّوا وَللّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقينَ لا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ ليُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَللّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُون ). (2)
    3. انّ خصيصة النفاق لا تنفك عن التظاهر بالإيمان والسعي وراء كيد المسلمين في المواقف الحساسة فلو خرجوا إلى الجهاد مع المسلمين فإنّما يخرجون طلباً للشر والفساد ونشر الفتنة ، وربما يتبعهم الضعفاء من المؤمنين ، كما يقول سبحانه : ( لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاّخَبالاً وَلأَوضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَة وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمين ). (3)
1 ـ البقرة : 14.
2 ـ المنافقون : 7 ـ 8.
3 ـ التوبة : 47.


(383)
    فقد أشار الوحي الإلهي في هذه الآية إلى ما يرتكبون في الحرب من الشر وانّهم ( لَوْ خَرجُوا فيكُمْ ) ما زادوكم إلاّشراً وفساداً وغدراً ومكراً دون أن ينفعونكم بشيء.
    ( وَلأَوضَعُوا خلالَكُمْ ) أي أسرعوا في الدخول بينكم في الإفساد والتفريق بين المسلمين.
    ( يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَة ) أي يطلبون لكم المحنة باختلاف الكلمة والفرقة.
    ( وَفِيكُمْ سَمّاعُون ) للمنافقين ينقلون إليهم ما يسمعون منكم.
    4. انّ الجهاد رمز الإيمان وترك الدنيا لأجل الآخرة ، فالمؤمن يندفع عن شوق إلى الجهاد بنفسه في حين انّ المنافق يندفع عن كره إليه ويفرح بالتخلّف عن ركب رسول اللّه ، وكانوا يغرون المسلمين ألا ينفروا في الحرب مع رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، كما قال سبحانه : ( فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهدُوا بِأَموالهِِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَو كانُوا يَفْقَهُون ). (1)

3. صلتهم بالكافرين والمشركين
    إنّ المنافقين والمشركين ينضوون تحت لواء واحد ، وهو عدم الإيمان باللّه سبحانه و إنكار اليوم الآخر ، غير انّ المشرك يتظاهر به دون المنافق ، إنّما الكلام في صلة المنافق بأهل الكتاب ، فقد كان المنافقون في عصر الرسالة على علاقة وثيقة باليهود لكيد الإسلام والمسلمين ، وقد ظهرت تلك المكيدة عند إجلاء بني النضير من يثرب جزاءً لغدرهم بالمسلمين ، ولما وصل خبر ذلك إلى المنافقين ، أرسلوا رسولاً إلى بني النضير يناشدونهم بالبقاء وعدم اخلاء ديارهم وانّهم سوف
1 ـ التوبة : 81.

(384)
يبذلون لهم المزيد من الدعم والمساندة ، وانّهم في حالة إخراجهم عنوة سوف يتبعونهم ، وقد حكى سبحانه تبارك وتعالى تلك الوعود الكاذبة منهم لأهل الكتاب ، وقال : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَننصُرَنَّكُمْ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُون ). (1)
    ولكنّه سبحانه ينسبهم إلى النفاق في ادّعائهم المزيف ، قال سبحانه : ( لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُم وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُولُّنَّ الأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنصَرُون ). (2)

أحوال المنافقين في الآخرة
    إنّ النفاق شعبة من شعب الكفر ولا يفترق عنه إلاّبالتظاهر بالإيمان ، ولذلك يجمعهم اللّه يوم القيامة في مأوى واحد ، ويقول : ( إِنَّ اللّهَ جامِعُ الْمُنافِقينَ وَالكافِرينَ في جَهَنَّمَ جَمِيعاً ). (3)
    وقال أيضاً : ( وَعَدَ اللّهُ الْمُنافِقينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالكُفّارَ نارَ جَهَنّم ). (4)
    وبما انّهم قد جبلوا بالنفاق وخمرت طينتهم عليه فيتظاهرون به في الآخرة أيضاً ، ويخاطبون المؤمنين خطاب الخليل للخليل ويطلبون قبساً من نورهم غافلين عن أنّ النور رهن إيمانهم وعملهم في الحياة الدنيا ، ولم يكن لهم حظ منه في الآخرة ، يقول سبحانه : ( يَومَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا
1 ـ الحشر : 11.
2 ـ الحشر : 12.
3. النساء : 140.
4 ـ التوبة : 68.


(385)
انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُور لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذاب ). (1)
    فلم يكن النفاق ينفعهم في الدنيا ولا الآخرة ، وتكون عاقبتهم هي الدرك الأسفل من النار مقروناً بالعذاب الأليم.
    يقول سبحانه : ( بَشِّرِالمُنافِقينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) (2) ، ويقول أيضاً : ( إِنَّ الْمُنافِقينَ فِي الدَرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النّار ). (3)
    وهذه الآيات توحي إلى شدة خصومتهم للحق ولذلك جُوُزُوا بأشد مجازاة.
    وأخيراً نود أن نختم الموضوع بهذه الشذرة من كلام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نقله عنه الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حول النفاق و المنافقين جاء فيها : « ولقد قال لي رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنّي لا أخاف على أُمّتي مؤمناً ولا مشركاً ، ولكنّي أخاف عليكم كلّ منافق الجنان ، عالم اللسان ، يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون ». (4)
    وممّا يؤكد قلق رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المتزايد حيال المنافقين ، هو انّه سبحانه في سورة البقرة تطرق إلى الكافرين واقتصر في حقِّهم على آيتين ، وقال : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ ءَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ). (5)
    ولكنّه تبارك و تعالى لما تطرق إلى المنافقين عقب الكافرين تكلم عنهم
1 ـ الحديد : 13.
2 ـ النساء : 138.
3 ـ النساء : 145.
4 ـ نهج البلاغه ، قسم الرسائل ، برقم 27.
5 ـ البقرة : 6 ـ 7.


(386)
ضمن ثلاث عشرة آية مستهلاً بقوله : ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وِبِالْيَومِ الآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنينَ ) (1) ومختتماً بقوله : ( يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَو شاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْء قَدِير ). (2)
تمّ ـ بحمداللّه ـ تأليف الجزء الثامن من موسوعتنا
« مفاهيم القرآن » نحمد ونشكر ونصلّي على النبي وآله
وفرغنا من تأليفه ظهيرة يوم الأحد
الموافق 26 من ذي القعدة الحرام
من شهور عام 1419 هـ
في مؤسسة الإمام الصادق ( عليه السلام )
في قم المشرّفة

1 ـ البقرة : 8.
2 ـ البقرة : 20.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثامن ::: فهرس