مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: 1 ـ 10
مفاهيم القرآن
الجزء التاسع
دراسة
الأمثال
في القرآن الكريم
تأليف
العلاّمة
جعفر السبحاني


(3)
بسم الله الرحمن الرحيم
( لَوْ أَنْزلْنا هَذَا القُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعَاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الاَْمثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يِتَفَكّرُون ) (1)

    1 ـ ( الحشر : 21 )

(4)

(5)
الاَمثال في القرآن
    وقبل الخوض في المقصود نقدم أُموراً :

الاَوّل : المثل في اللغة
    يظهر من غير واحد من المعاجم ، كلسان العرب والقاموس المحيط ، أنّ للفظ "المثل" معانى مختلفة ، كالنظير والصفة والعبرة وما يجعل مثالاً لغيره يُحذا عليه إلى غير ذلك من المعانى. (1)
    قال الفيروز آبادي : المِثْل ـ بالكسر والتحريك ـ الشبه ، والجمع أمثال ؛ والمَثَلُ ـ محرّكة ـ الحجة ، والصفة ؛ والمثال : المقدار والقصاص ، إلى غير ذلك من المعانى. (2)
    ولكن الظاهر أنّ الجميع من قبيل المصاديق ، وما ذكروه من باب خلط المفهوم بها وليس للّفظ إلا معنى أو معنيين ، والباقي صور ومصاديق لذلك المفهوم ، وممن نبَّه على ذلك صاحب معجم المقاييس ، حيث قال :
    المِثْل والمثَل يدلاّن على معنى واحد وهو كون شيء نظيراً للشيء ، قال
    1 ـ لسان العرب : 13/22 ، مادة مثل.
    2 ـ القاموس المحيط : 4/49 ، مادة مثل.


(6)
ابن فارس : « مثل » يدل على مناظرة الشيء للشىء ، وهذا مثل هذا ، أي نظيره ، والمثل والمثال بمعنى واحد. وربما قالوا : « مثيل كشبيه » ، تقول العرب : أمثل السلطان فلاناً ، قتله قوداً ، والمعنى أنّه فعل به مثلما كان فعله.
    والمِثْل : المثَل أيضاً ، كشِبْه وشبَه ، والمثل المضروب مأخوذ من هذا ، لانّه يذكر مورّى به عن مثله في المعنى.
    وقوله : مَثَّلَ به إذا نُكِّل ، هو من هذا أيضاً ، لاَنّ المعنى فيه إذا نُكل به : جعل ذلك مثالاً لكل من صنع ذلك الصنيع أو أراد صنعه. والمثُلات أيضاً من هذا القبيل ، قال الله تعالى : ( وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلات ) (1) أي العقوبات التي تزجر عن مثل ما وقعت لاَجله ، وواحدها : مُثُل. (2)
    وعلى الرغم من ذلك فمن المحتمل أن يكون من معانيه الوصف والصفة ، فقد استعمل فيه إمّا حقيقة أو مجازاً ، وقد نسب ابن منظور استعماله فيه إلى يونس ابن حبيب النحوي ( المتوفّى 182 هـ ) ، ومحمد بن سلام الجمحي ( المتوفّى 232 هـ ) ، وأبي منصور الثعالبي ( المتوفّى 429 هـ ). (3)
    ويقول الزركشى ( المتوفّى 794 هـ ) : إنّ ظاهر كلام أهل اللغة أن المثل هو الصفة ، ولكن المنقول عن أبى على الفارسى ( المتوفّى 377 هـ ) أنّ المثل بمعنى الصفة غير معروف في كلام العرب ، إنّما معناه التمثيل. (4)
    ويدل على مختار الاَكثر ما أورده صاحب لسان العرب ، حيث قال : قال
    1 ـ الرعد : 6.
    2 ـ معجم مقاييس اللغة : 5/296.
    3 ـ لسان العرب : 13/22 ، مادة مثل.
    4 ـ البرهان في علوم القرآن : 1/490.


(7)
عمر بن أبى خليفة : سمعت مُقاتِلاً صاحب التفسير ، يسأل أبا عمرو بن العلاء ، عن قول الله عزّ وجلّ : ( مَثَلُ الجَنّة ) ، ما مَثَلُها؟ فقال : ( فيهَا أنهارٌ مِنْ ماءٍ غيرِ آسن ) ، قال : ما مَثَلُها؟ فسكت أبو عمرو.
    قال : فسألت يونس عنها ، فقال : مَثَلها صفتها ، قال محمد بن سلام : ومثل ذلك قوله : ( ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الاِِنْجِيل ) (1) أي صفتهم.
    قال أبو منصور : ونحو ذلك روي عن ابن عباس ، وأمّا جواب أبى عمرو لمقاتل حين سأله ما مثَلُها ، فقال : فيها أنهار من ماءٍ غير آسنٍ ، ثمّ تكريره السوَال ما مَثَلُها وسكوت أبى عمرو عنه ، فانّ أبا عمرو أجابه جواباً مقنعاً ، ولما رأى نبوة فَهْمِ مقاتل ، سكت عنه لما وقف من غلظ فهمه. وذلك انّ قوله تعالى : ( مثل الجنّة ) تفسير لقوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ يُدخِلُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات جَنّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الاََنْهار ) (2) وصف تلك الجنات ، فقال : مَثَلُ الجنة التي وصفتها ، وذلك مثل قوله : ( ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الاِِنْجيل ) أي ذلك صفة محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأصحابه في التوراة ، ثم أعلمهم أنّ صفتهم في (3) الاِنجيل كزرعٍ.
    ثمّ إنّ الفرق بين المماثلة والمساواة ، أن المساواة تكون بين المختلفين في الجنس والمتفقين ، لاَنّ التساوي هو التكافوَ في المقدار لا يزيد ولا ينقص ، وأمّا المماثلة فلا تكون إلاّ في المتفقين. (4)
    1 ـ الفتح : 29.
    2 ـ الحج : 14.
    3 ـ لسان العرب : مادة مثل.
    4 ـ لسان العرب : مادة مثل.


(8)
وأمّا الفرق بين المماثلة والمشابهة هو أنّ الاَُولى تستعمل في المتفقين في الماهية والواقعية ، بخلاف الثانية فإنّما تستعمل غالباً في مختلفي الحقيقة ، المتفقين في خصوصية من الخصوصيات.
    وبهذا يعلم أنّ التجربة تجري في المتماثلين والمتفقين في الحقيقة ، كانبساط الفلز حينما تمسُّه النار ، وهذا بخلاف الاستقراء ، فإنّ مجراه الاَُمور المختلفة كاستقراء أنّ كل حيوان يتحرك فكه الاَسفل عند المضغ ، فيتعلّق الاستقراء بمختلفي الحقيقة كالشاة والبقرة والاِبل.
    وقد تكرر في كلام غير واحد من أصحاب المعاجم أن المَ ـ ثَل والمثْل سيان ، كالشَبَه والشبْه ، ومع ذلك كلّه نرى أنّ القرآن ينفي المثْل لله ، ويقول : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء ) (1) وفي الوقت نفسه يُثبت له المثَل ، ويقول : ( لِلَّذينَ لا يُوَْمِنُونَ بِالآخرةِ مَثَلُ السَّوءِ وَللهِ المَثَلُ الاََعْلى وَهُوَ الْعَزيزُ الحَكِيم ). (2) والجواب : أنّه لا منافاة بين نفي المِثْل لله واثبات المَثَل له؛ أمّا الاَوّل ، فهو عبارة عن وجود فرد لواجب الوجود يشاركه في الماهية ، ويخالفه في الخصوصيات ، فهذا أمر محال ثبت امتناعه في محلّه ، وأمّا المَثَلُ فهو نُعوت محمودة يُعرف بها الله سبحانه كأسمائه الحسنى وصفاته العليا ، وعلى هذا ، المَثَلُ في هذه الآية وما يشابهها بمعنى ما يوصف به الشيء ويعبَّر به عنه ، من صفات وحالات وخصوصيات.
    فهذه الآية تصرّح بأنّ عدم الاِيمان بالآخرة مبدأ لكثير من الصفات
    1 ـ الشورى : 11.
    2 ـ النحل : 60.


(9)
القبيحة ، ومصدر كل شر ، وفي المقابل أنّ الاِيمان بالآخرة هو منشأ كل حسنة ومنبع كلّ خير وبركة ، فكلّ وصف سوء وقبيح يلزم الاِنسان ويلحقه ، فإنّما يأتيه من قبل عدم الاِيمان بالآخرة ، كما أنّ كلّ وصف حسن يلزم الاِنسان ينشأ من الاِيمان بها ، وبذلك ظهر معنى قوله : ( لِلَّذينَ لا يُوَْمِنُونَ بِالآخِرَة مَثَل السَّوء ) الذي يدلّ بالملازمة للذين يوَمنون بالآخرة لهم مثل الحسن.
    وأمّا قوله سبحانه : ( وَللهِ المَثَلُ الاََعلى ) فمعناه أنّه منزّه من أن يوصف بصفات مذمومة وقبيحة كالظلم ، قال سبحانه : ( ولا يَظلم رَبُّك أَحداً ). (1) وفي الوقت نفسه فهو موصوف بصفات محمودة.
    فكلّ وصف يستكرهه الطبع أو يردعه العقل فلا سبيل له إليه ، فهو قدرة لا عجز فيها ، وحياة لا موت معها إلى غير ذلك من الصفات الحميدة ، بخلاف ما يقبله الطبع فهو موصوف به.
    وقد أشار إلى ذلك في غير واحد من الآيات أيضاً ، قال : ( وَلَهُ المَثَلُ الاََعلى فِي السَّماواتِ وَالاََرْضِ ) (2) وقال : ( لَهُ الاََسْماءُ الحُسْنى ) (3) ، فالاَمثال منها دانية ومنها عالية فإنّما يثبت له العالي بل الاَعلى. (4)
    ومنه يعلم أنّ الاَمثال إذا كان جمع مثْل ـ بالسكون ـ فالله سبحانه منزّه من المثْل والاَمثال ، وأمّا إذا كان جمع مثَل ـ بالفتح ـ بمعنى الوصف الذي يحمد به سبحانه ، فله الاَمثال العليا ، والاَسماء الحسنى كما مرّ.
    1 ـ الكهف : 49.
    2 ـ الروم : 27
    3 ـ طه : 8.
    4 ـ لاحظ : الميزان : 12/249.


(10)
الثاني : المَثَلَ في الاصطلاح
    المَثَلُ : قسم من الحكم ، يرد في واقعة لمناسبة اقتضت وروده فيها ، ثمّ يتداولها الناس في غير واحد من الوقائع التي تشابهها دون أدنى تغيير لما فيه من وجازة وغرابة ودقة في التصوير.
    فالكلمة الحكيمة على قسمين : سائر منتشر بين الناس ودارج على الاَلسن فهو المثل ، وإلا فهي كلمة حكيمة لها قيمتها الخاصة وإن لم تكن سائرة. فما ربما يقال : "المثل السائر" فالوصف قيد توضيحي لا احترازي ، لاَنّ الانتشار والتداول داخل في مفهوم المثل ، ويظهر ذلك من أبى هلال العسكري ( المتوفّى حوالى 400 هـ ) ، حيث قال : جعل كل حكمة سائرة ، مَثَلاً ، وقد يأتى القائل بما يحسن من الكلام أن يتمثل به إلاّ أنّه لا يتفق أن يسير فلا يكون مَثَلاً. (1)
    وكلامه هذا ينم « انّ الشيوع والانتشار وكثرة الدوران على الاَلسن هو الفارق بين الحكمة والمثل ، فالقول الصائب الصادر عن تجربة يسمّى حكمة إذا لم يتداول ، ومثلاً إذا كثر استعماله وشاع أداوَه في المناسبات المختلفة ».
    ولاَجل ذلك يقول الشاعر :
ما أنت إلا مثل سائر يعرفه الجاهل والخابر
    وأمّا تسمية ذلك الشيء بالمثال ، فهو لاَجل المناسبة والمشابهة بين الموردين على وجه يُصبح مثالاً لكل ما هو على غراره.
    1 ـ جمهرة أمثال العرب : 1/5.
مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: فهرس