مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: 31 ـ 40
(31)
الاَمثلة. فهي فيما عنده أمثال كامنة ولكنّه من الواضح أن هذه العبارات القرآنية لا تدخل في باب الاَمثال ، فإن اشتمال العبارة على معنى ورد في مثل من الاَمثال ، لا يكفى لاِطلاق لفظ المثل على تلك العبارة ، فالصيغة الموروثة ركن أساس في المثل ، لذلك نرى أنّ اصطلاح العلماء على تسمية هذه العبارات القرآنية ( أمثالاً كامنة ) محاولة لا تستند على دليل نصّي ولا تاريخي. (1)
     تفسير آخر للمثل الكامن :
    ويمكن تفسير المثل الكامن بالتمثيلات التي وردت في الذكر الحكيم من دون أن يقترن بكلمة « مثل » أو « كاف » التشبيه ، ولكنّه في الواقع تمثيل رائع لحقيقة عقلية بعيدة عن الحسن المجسّد بما في التمثيل من الاَمر المحسوس ، ومن هذا الباب قوله سبحانه :
    1. ( أَفَمَنْ أسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيرٌ أَمْ مَن أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بهِ في نارِ جَهَنَّم وَاللهُ لا يَهْدي القَوم الظّالِمين ). (2)
    إنّه سبحانه شبَّه بنيانهم على نار جهنم بالبناء على جانب نهر هذا صفته ، فكما أنّ من بنى على جانب هذا النهر فإنّه ينهار بناءه في الماء ولا يثبت ، فكذلك بناء هوَلاء ينهار ويسقط في نار جهنم ، فالآية تدلّ على أنّه لا يستوي عمل المتقي وعمل المنافق ، فإنّ عمل الموَمن المتقي ثابت مستقيم مبني على أصل صحيح ثابت ، وعمل المنافق ليس بثابت وهو واهٍ ساقط. (3)
    1 ـ الصورة الفنية في المثل القرآني : 118 ، نقلاً عن كتاب « الاَمثال في النثر العربي القديم ».
    2 ـ التوبة : 109.
    3 ـ مجمع البيان : 3/73.


(32)
    2. ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَروا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدخُلُونَ الجنَّةَ حتّى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِين ). (1)
    كانت العرب تمثّل للشيء البعيد المنال ، بقولهم : لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب ، وحتى يَبْيَضَّ القار ، إلى غير ذلك من الاَمثال.
    يقول الشاعر :
    إذا شاب الغراب أتيت أهليوصار القار كاللبن الحليب
    ولكنّه سبحانه مثّل لاستحالة دخول الكافر الجنّة بأنّهم يدخلون لو دخل الجمل في ثقب الاِبرة ، وقال : ولايدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط ، معبراً عن كونهم لا يدخلون الجنة أبداً.
    ففي الآية تمثيل وليس لها من لفظ المثل وحرف التشبيه أثر.
    3. ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ وَالّذي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرّفُ الآيات لِقَوْمٍ يَشْكُرُون ). (2)
    إنّ هذا مثل ضربه الله تعالى للموَمن والكافر فأخبر بأنّ الاَرض كلّها جنس واحد ، إلا أنّ منها طيّبة تلين بالمطر ، ويحسن نباتها ويكثر ريعها ، ومنها سبخة لا تنبت شيئاً ، فإن أنبتت فممّ ـ ا لا منفعة فيه ، وكذلك القلوب كلّها لحم ودم ثمّ منها ليّن يقبل الوعظ ومنها قاسٍ جافٍ لا يقبل الوعظ ، فليشكر الله تعالى من لانَ قلبه بذكره. (3)

    1 ـ الاَعراف : 40.
    2 ـ الاَعراف : 58.
    3 ـ مجمع البيان : 2/432.


(33)
    وفي ذيل الآية ( كَذلِكَ نُصَرّفُ الآيات ) إلمام إلى كونه تمثيلاً ، كما في الآية التالية.
    4. قال سبحانه : ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاََنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلّ الثَّمراتِ وَأَصابَهُ الكِبَر وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعفاءُ فَأَصابَها إعصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيّنُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون ). (1)
    أخرج البخاري عن ابن عباس ، قال : قال عمر بن الخطاب يوماً لاَصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيمن ترون هذه الآية نزلت ( أَيَوَدُّ أَحدكُمْ أَنْ تَكُون لَهُ جَنَّة مِنْ نَخيل وَأَعْناب ) ؟
    قالوا : الله أعلم ، فغضب عمر ، و قال : قولوا : نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء ، فقال : يابن أخي : قل ولا تحقِّر نفسك ، قال ابن عباس : ضربت مثلاً لعملٍ ، قال عمر : أي عمل؟ قال ابن عباس : لرجل غني عمل بطاعة الله ، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله. (2)
    وحصيلة البحث : إنّ التمثيل الوارد في القرآن الكريم ، تارة يقترن بكلمة المثل ، وأُخرى يقترن به مع لفظ الضرب حيث اختار سبحانه مادة الضرب لقسم كبير من أمثال القرآن ، وثالثة بحرف كاف التشبيه ، ورابعة بذكر مادة المثل بدون اقتران بواحد منهما مثل قوله : ( وَالْبَلَدُ الطَّيّبُ يخْرجُ نَباتهُ بِإِذْنِ رَبّهِ وَالّذِي خَبُثَ لا يَخرجُ إِلا نَكِداً ). (3)
    1 ـ البقرة : 266.
    2 ـ صحيح البخاري : التفسير : تفسير سور ة البقرة ، باب قوله : ( أيودّ أحدكم ) رقم 4264.
    3 ـ الاَعراف : 58.


(34)
التاسع : ما هو المراد من ضرب المثل؟
    قد استعمل الذكر الحكيم كلاً من لفظي « المَثَل » و « المِثْل » في غير واحد من سوره وآياته حتى ناهز استعمالهما ثمانين مرة ، إلاّ أنّ الثاني يزيد على الاَوّل بواحد.والاَمثال جمع لكليهما ويميّزان بالقرائن قال سبحانه : ( إِنَّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله عِبادٌ أَمْثالُكُمْ ) (1) وهو في المقام ، جمع المِثْل لشهادة أنّه يحكم على آلهتهم بأنّها مثلهم في الحاجة والاِمكان.
    وقال سبحانه : ( تِلْكَ الاََمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لعلّهُمْ يَتفَكَّرُون ). (2)
    فاقتران الاَمثال بلفظ الضرب ، دليل على أنّه جمع مَثَل. إلاّ أنّ المهم هو دراسة معنى « الضرب » في هذا المورد ونظائره ، فكثيراً ما يقارن لفظ المثل لفظ الضرب ، يقول سبحانه : ( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً ). (3) وقال سبحانه : ( وَلَقَدْضَرَبْنا للنّاسِ في هذا القُرآن مِنْ كُلّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرون ). (4)
    وقد اختلفت كلمتهم في تفسير لفظ « الضرب » في هذا المقام ، بعد اتّفاقهم على أنّه في اللغة بمعنى إيقاع شيء على شيء ، ويتعدّى باليد أو بالعصى أو بغيرهما من آلات الضرب ، قال سبحانه : ( أَنِ اضْرِب بِعَصاكَ الْحَجَر ) (5) وقد ذكروا وجوهاً :
    الاَوّل : إنّ الضرب في هذه الموارد بمعنى المَثَل ، والمرا د هو التَمثيل ، وهو
    1 ـ الاَعراف : 194.
    2 ـ الحشر : 21.
    3 ـ إبراهيم : 24.
    4 ـ الزمر : 27.
    5 ـ الاَعراف : 160.


(35)
خيرة ابن منظور واستشهد بقوله : ( واضْربْ لَهُمْ مَثَلاً أَصحابَ القَرْيَةِ إِذْ جاءَها الْمُرسَلُون ) (1) أي مثّل لهم مثلاً وهو حال أصحاب القرية ، وقال : ( يَضْرِبُ اللهُ الحَقَّ وَالباطِل ) (2) أي يمثل الله الحقّ والباطل. (3) وهذا خيرة صاحب القاموس أيضاً.
    الثاني : إنّ الضرب بمعنى الوصف والبيان ، وقد حُكي عن مقاتل بن سليمان ، وفسر به قوله سبحانه : ( وضَرَبَ الله مَثلاً عَبداً مَمْلُوكاً لاَ يَقْدِرُ عَلى شَىء ). (4)
    واستشهد بقول الكميت :
    وذلك ضرب أخماس أريدت لاَسداس عسى أن لا تكونا (5)
    الثالث : إنّ الضرب بمعنى الاعتماد والتثبيت ، وهو خيرة الشيخ الطوسى (6) ( 385 ـ 460 هـ ) ، والزمخشري ، (7) والآلوسى ، (8) ( المتوفّى عام 0721 ) فقد فسّروا به قوله سبحانه : ( يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ). (9)
    الرابع : إن الضرب في المقام من باب الضرب في الاَرض وقطع المسير ،
    1 ـ يس : 13
    2 ـ الرعد : 17.
    3 ـ لسان العرب : 2/37 ، مادة ضرب.
    4 ـ النحل : 75.
    5 ـ تفسير الطبرى : 1/175.
    6 ـ التبيان في تفسير القرآن : 7/302.
    7 ـ الكشّاف : 2/553.
    8 ـ روح المعاني : 1/206.
    9 ـ الحج : 73.


(36)
وضرب المثل عبارة عن جعله سائراً في البلاد كقولك : ضرب في الاَرض إذا صار فيها ، ومنه سُمِّيَ الضارب مضارباً. (1)
    فإذا كان الضرب بمعنى قطع الاَرض وطيّها ، فضرب المثل عبارة عن جعله شيئاً سائراً بين الاَقوام والشعوب يمشى ويسير حتى يستوعب القلوب.
    وفي المقام كلمة لابن قيم ، يوضّح فيها أكثر هذه الاحتمالات :
    ضرب الله سبحانه لعباده ، الاَمثال ، وضرب الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لاَُمّته الاَمثال ، وضرب الحكماء والعلماء والموَدّبون الاَمثال ، فما معنى ضرب المثل؟
    قد يكون مشتقّاً من قولك ( ضرب في الاَرض ) أي سار فيها.
    فمعنى ضرب المثل جعله ينتشر ويذيع ويسير في البلاد. وإلى هذا ذهب أبو هلال في مقدمة كتابه. (2)
    وقد يكون معنى « ضرب المثل » نصبه للناس بإشهاره لتستدلّ عليه خواطرهم كما تستدلّ عيونهم على الاَشياء المنصوبة. واشتقاقه حينئذٍ من قولهم : ( ضربت الخباء ) إذا نصبته.
    وقوله تعالى : ( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الحَقَّ وَالباطل ) (3) أي ينصب منارهما ويوضح أعلامهما ليعرف المكلّفون الحق بعلاماته فيقصدوه ، ويعرفون الباطل فيجتنبوه ، كما قال الشريف الرضيّ ( 359 ـ 406 هـ ) في كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن » :
    1 ـ الحكم والاَمثال : 79.
    2 ـ انظر مقدمة كتاب جمهرة الاَمثال.
    3 ـ الرعد : 17.


(37)
وقد يفهم من ضرب المثل صنعه وإنشاوَه ، فيكون مشتقّاً من ضرب اللّبْنِ وضرب الخاتم.
    أو قد يكون من الضرب بمعنى : إبقاء شيء على شيء. (1)
    ومنه ضرب الدراهم : أي إيقاع النموذج الذي به الصّكُ على الدراهم لتنطبع به ، فكأنّ المثل مطابق للحالة ، أي للصفة التي جاء لاِيضاحها ، وخلاصة القول : ضرب المثل مأخوذ : إمّا من :
    1. ضرَب في الاَرض بمعنى : سار.
    2. ضربه : نصبه للناس وأشهره.
    3. ضرب : صنع وأنشأ.
    4. ضرب : إبقاء شيء على مثال شيء. (2)
    وبذلك يُعلم تفسير قوله سبحانه : ( ... وَقالَ الظّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً * انْظُر كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الاََمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ). (3)
نرى أنّ المشركين وصفوا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بكونه رجلاً مسحوراً ، فيردّ عليه سبحانه باستنكار ويقول : ( انظر ـ أيّها النبي ـ كيف ضربوا لك الاَمثال ) أي كيف وصفوك بأنّك مسحور مع أنّ سيرتك تشهد على خلاف ذلك ، وما تتلو من الآيات كلامه سبحانه لا صلة له بالسحر وإنّ ما يجدونه خلاَّباً للعقول وآخذاً بمجامع القلوب فإنّه هو لاَجل عذوبته وجماله وإعجازه الخارق وأين هو من السحر ؟!

    1 ـ تلخيص البيان في مجازات القرآن : 107.
    2 ـ الاَمثال في القرآن الكريم : 20 ـ 21.
    3 ـ الفرقان : 8 ـ 9.


(38)
    وعلى ذلك فالمعنى المناسب لتفسير الآية ، هو تفسير الضرب بالوصف ، وقد تقدّم أنّ الوصف أحد معانيه ، وأقرّ به ابن منظور : أن انظر كيف وصفوك بكونك مسحوراً.
    وأمّا تفسيره بالتمثيل بأن يقال : انظر كيف مثّلوا لك المثال أو التمثيل ، فغير تام ، لاَنّ وصف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بكونه « مسحوراً » ، لا مثَل سائر ، ولا تمثيل قياسي.
    ونظيره تفسيره بقطع الاَرض ، لاَنّ المشركين ما وصفوه به ليشهّروه حتى يصير قولهم « سيراً في الاَرض ».

العاشر : الاَمثال القرآنية وانسجامها مع البيئة
    لا شكّ أنّ كلّ خطيب يتأثر بالظروف التي يعيش فيها ، وبسهولة يمكن فرز كلام المدني عن القروي ، وكلامهما عن كلام البدوي ، وما ذاك إلاّ لاَنّ البيئة تُعدّ أحد الاَضلاع الثلاثة التي تُكوّن شخصية الاِنسان ، و من هذا الجانب أصبح بإمكان المحقّق الخبير بالتاريخ أن يميز الشعر الجاهلي عن الشعر في العصر الاِسلامي ، و الشعر في العصر الاَموي عن الشعر في العصر العباسي ، وما هذا إلاّ نتيجة انعكاسات البيئة على التراث الاَدبي ، ولكن القرآن بما أنّه كلامه سبحانه قد تنزّه عن هذه الوصمة ، لاَنّ الله سبحانه خالق كلّ شيء فهو منزَّه من أن يتأثر بشىء سواه.
    ومع ذلك كلّه نزلت الاَمثال القرآنية لهداية الناس ولذلك رُوعيَ فيها الغايات التي نزلت لاَجلها ، فنجد ان الطابع المكي يعلو هامة الاَمثال المكية ، والطابع المدني يعلو هامة الاَمثال المدنية.
    أمّا الاَمثال المكية ، فكانت دائرة مدار معالجة الاَدواء التي ابتلي بها


(39)
المجتمع المكى لا سيما وانّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يجادل المشركين ويسفّه أحلامهم ويدعوهم إلى الاِيمان بالله وحده ، وترك عبادة غيره ، والاِيمان باليوم الآخر ، ففي خِضمّ هذا الصراع يأتي القرآن بأروع مثل ويشبّه آلهتهم المزعومة التي تمسّكوا بأهدابها ببيت العنكبوت الذي لا يظهر أدنى مقاومة أمام النسيم الهاديَ ، وقطرات المطر ، وهبوب الرياح.
    يقول سبحانه : ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَولياء كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتّخَذَتْ بَيتاً وإِنَّ أَوهَنَ الْبُيُوتِ لَبيتُ العَنْكَبُوتِ لو كانُوا يَعْلَمون ). (1)
    فقد شبّه آلهتهم التي اتخذوها حصوناً منيعة لاَنفسهم بخيوط العنكبوت ، وبذلك صغّرهم وذلّلهم.
    كما أنّه سبحانه في آية أُخرى شبّه آلهتهم بالذباب ، وقال : ( يا أَيُّهَا النّاس ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا له إِنَّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً ولَوِ اجْتَمَعوا لَهُ وإن يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالْمَطْلُوب ). (2)
فقد كانت قريش تعبد 360 إلهاً يطلونها بالزعفران فيجفّ ، فيأتى الذباب فيختلسه فلا يقدرون عن الدفاع عن أنفسهم ، ففي هذا الصدد ، قال سبحانه : ( ضعف الطالب والمطلوب ) أي الذباب والمدعوّ.
    فأي مثل أقرع من تشبيه آلهتهم بهذه الحشرة الحقيرة.ولقد مضى على الناس منذ ضرب لهم كتاب الاِسلام هذا المثل أربعة عشر قرناً ، وما يزال المثل القرآني يتحدَّى كل جبروت الغزاة وعبقرية العلماء ، وما يزال على الذين غرّهم الغرور بما حقّق إنسان العصر الحديث من معجزات العلم ، أن ينسخوا ذلك ، بأن
    1 ـ العنكبوت : 41.
    2 ـ الحج : 73.


(40)
يجتمعوا فيخلقوا ذباباً ، أو يستنقذوا شيئاً سلبتهم إيّاه هذه الحشرة الضئيلة التي تقتلها ذرّة من هواء مشبع بمُبيد الحشرات ، وتستطيع مع ذلك أن تسلب مخترع المبيد حياته ، بلمسة هيّنة خاطفة تحمل إليه جرثومة داء مميت. (1)
    هذا في مجال الردِّ على عبادتهم للاَوثان والاَصنام ، أمّا في مجال ركونهم إلى الدنيا والاِعراض عن الآخرة ، يستعرض مثلاً يشير فيه إلى أنّ الدنيا ظل زائل وليست خالدة ، قال سبحانه : ( إِنَّما مَثَلُ الحَياة الدُّنيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الاََرض مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ وَالاََنْعامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ الاََرْضُ زُخْرُفَها وَ ازّيّنَتْ وَظَنّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَليها أَتاها أَمْرُنا لَيلاً أو نَهاراً فَجَعَلْناها حَصيداً كَأنْ لَمْ تَغْنَ بِالاََمْسِ كَذلِكَ نُفَصّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَتَفكَّرُون ). (2)
هذا بعض ما يمكن أن يقال حول الاَمثال التي نزلت في مكة.
    وأمّا الاَمثال التي نزلت في المدينة ، فقد نجد فيها الطابع المدني لاَجل انّها بصدد علاج الاَدواء التي ابتلي بها المجتمع يومذاك وهي الاَدواء الخلقية مكان الشرك والوثنية ، أو مكان إنكار الحياة الاَُخروية ، فلذلك ركّز الوحي على معالجة هذا النوع من الاَدواء بالتمثيلات التي سنشير إليها.
    فقد كان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مهجره مبتلياً بالمنافقين الذين كانوا يبطنون الكفر ويظهرون الاِسلام بغية الاِطاحة بالحكومة الاِسلامية الفتيّة ، وفي هذا الصدد نرى أنّ الاَمثال المدنية تطرّقت في آيات كثيرة إلى المنافقين و بيّنت خطورة موقفهم على الاِسلام والمسلمين ، فتارة يضرب الله سبحانه لهم مثلاً بالنار وأُخرى بالمطر ، يقول سبحانه : ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوقَدَ ناراً فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ
    1 ـ الصورة الفنية في المثل القرآني : 99 ، نقلاً عن كتاب « القرآن وقضايا الاِنسان » لبنت الشاطىَ.
    2 ـ يونس : 24.
مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: فهرس