مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: 81 ـ 90
(81)
    والرعد : هو الصوت الذي يُسمَع في السحاب أحياناً عند تجمعه.
    والبرق : هو الضوء الذي يلمع في السحاب غالباً ، وربما لمع في الاَُفق حيث لا سحاب ، وأسباب هذه الظواهر اتحاد شحنات السحاب الموجبة بالسالبة كما تقرر ذلك في علم الطبيعيات.
    والصاعقة : نار عظيمة تنزل أحياناً أثناء المطر والبرق ، وسببها تفريغ الشحنات التي في السحاب بجاذب يجذبها إلى الاَرض.
    والاِحاطة بالشيء : الاِحداق به من جميع الجهات.
    والخطف : السلب والاَخذ بسرعة ، ومنه نهي عن الخطفة بمعنى النهبة.
    قوله : ( وَإِذا أَظلَم ) بمعنى إذا خفت ضوء البرق.
    إلى هنا تمّ تفسير مفردات الآيات ، فلنرجع إلى بيان حقيقة التمثيل الوارد في الآية ، ليتضح من خلالها حال المنافقين ، فانّ حال المشبه يعرف من حال المشبه به ، فالمهم هو التعرّف على المشبه به.
    والاِمعان في الآيات يثبت بأنّ التمثيل يبتدأ من قوله ( أو كصيّبٍ من السَّماء ) وينتهي بقوله : ( وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا ).
    وأمّا قوله : ( وَاللهُ محيطٌ بِالكافرين ) جملة معترضة جىء بها في أثناء التمثيل ، وقوله بعد انتهاء التمثيل : ( وَلَو شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ ) يرجع إلى المشبه.
    هذا ما يرجع إلى مفردات الآيات وكيفية انسجامها ، والمهمّ هو ترسيم ذلك المشهد الرهيب.
    فلنفترض أنّ قوماً كانوا يسيرون في الفلوات وسط أجواء سادها الظلام


(82)
الدامس ، فإذا بصيّب من السماء يتساقط عليهم بغزارة ، فيه رعود قاصفة وبروق لامعة تكاد تخطف الاَبصار من شدتها وصواعق مخيفة ، فتولاّهم الرعب والفزع والهلع ممّا حدا بهم إلى أن يجعلوا أصابعهم في آذانهم خشية الموت للحيلولة دون سماع ذلك الصوت المخيف ، فعندئذٍ وقفوا حيارى لا يدرون أين يولّون وجوهم ، فإذا ببصيص من البرق أضاء لهم الطريق فمشوا فيه هنيئة ، فلما استتر ضوء البرق أحاطت بهم الظلمة مرة أُخرى وسكنوا عن المشي.
    ونستخلص من هذا المشهد أنّ الهول والرعب والفزع والحيرة قد استولى على هوَلاء القوم لا يدرون ماذا يفعلون ، وهذه الحالة برمَّتها تصدق على المنافقين ، ويمكن تقريب ذلك ببيانين :
    البيان الاَوّل : التطبيق المفرق لكلّ ما جاء من المفردات في المشبه به ، كالصيّب والظلمات والرعد والبرق ، على المشبَّه ، وقد ذكر المفسرون في ذلك وجوهاً أفضلها ما ذكره الطبرسي تحت عنوان الوجه الثالث.
    وقال : إنّه مثل للاِسلام ، لاَنّ فيه الحياة كما في الغيث الحياة ، وشبه ما فيه من الظلمات بما في إسلامهم من إبطان الكفر ، ومافيه من الرعد بما في الاِسلام من فرض الجهاد وخوف القتل ، وبما يخافونه من وعيد الآخرة لشكّهم في دينهم ، وما فيه من البرق بما في إظهار الاِسلام من حقن دمائهم ومناكحتهم وموارثتهم ، وما فيه من الصواعق كما في الاِسلام من الزواجر بالعقاب في العاجل والآجل. ويقوى ذلك ما روي عن الحسن ( عليه السلام ) انّه قال : « مثل إسلام المنافق كصيّب هذا وصفه ». (1)
    وربّما يقرّر هذا الوجه بشكل آخر ، وهو ما أفاده المحقّق محمد جواد
    1 ـ مجمع البيان : 1/57.

(83)
البلاغي ( المتوفّى1352 هـ ) فقال : الاِسلام للناس ونظام اجتماعهم كالمطر الصيّب فيه حياتهم وسعادتهم في الدارين وزهرة الاَرض بالعدل والصلاح والاَمن وحسن الاجتماع ، ولكن معاندة المعاندين للحق وأهله جعلت الاِسلام كالمطر لا يخلو من ظلمات شدائد وحروب ومعاداة من المشركين ورعود قتل وقتال وتهديدات مزعجات لغير الصابرين من ذوي البصائر والذين ارخصوا نفوسهم في سبيل الله ونيل السعادة ، وفيه بروق من النصر وآمال الظفر واغتنام الغنائم وعزّ الانتصار والمنعة والهيبة. فهم إذا سمعوا صواعق الحرب أخذهم الهلع والحذر من القتل وشبهت حالهم في ذلك بأنّهم ( يجعلون أصابعهم في آذانهم من ) أجل ( الصواعق حذر الموت ) وخوفاً من أن تخلع قلوبهم من هول أصواتها ، وسفهاً لعقولهم أين يفرون عن الموت وماذا يجديهم حذرهم والله محيط بالكافرين. (1)
    وهذان التقريران يرجعان إلى التطبيق المفرّق كما عرفت.
    البيان الثاني : التطبيق المركّب ، وهو إنّ الغاية من وراء هذا التمثيل أُمور ثلاثة ترجع إلى بيان حالة المنافقين.
    وقبل أن نستوعب البحث عنها نذكر نص كلام الزمخشري في هذا الصدد.
    قال الزمخشري : والصحيح الذي عليه علماء البيان لا يتخطّونه أنّ التمثيلين جميعاً من جملة التمثيلات المركبة دون المفرقة لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به وهو القول الفصل والمذهب الجزل. (2)
    إذا عرفت ذلك ، فإليك البحث في الاَُمور الثلاثة :
    1 ـ آلاء الرحمن : 1/74.
    2 ـ الكشاف : 1/162 ـ 163.


(84)
    الاَوّل : إحاطة الرعب والهلع بالمنافقين إثر انتشار الاِسلام في الجزيرة العربية ودخول القبائل فيه وتنامي شوكته ، مما أوجد رعباً في قلوبهم وفزعاً في نفوسهم المضطربة ، ويجدون ذلك بلاءً أحاط بهم كالقوم الذين يصيبهم الصيّب من السماء فيه ظلمات و رعد وبرق وإليه أشار قوله سبحانه : ( أو كصيّب من السماء فيه رعد وبرق ).
    الثاني : انّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لمّا كان يخبرهم عن المستقبل المظلم للكافرين والمدبرين عن الاِسلام والاِيمان خصوصاً بعد الموت صار ذلك كالصاعقة النازلة على روَوسهم فكانوا يهربون من سماع آيات الله ويحذرون من صواعق براهينه الساطعة ، مع أنّ هذا هو منتهى الحماقة ، لاَنّ صمّ الآذان ليس من أسباب الوقاية من أخذ الصاعقة ونزول الموت وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( يَجْعَلُون أَصابعهُمْ في آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَر المَوت وَالله مُحيطٌ بِالكافِرين ).
    الثالث : كان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يدعوهم إلى أصل الدين ويتلوا عليهم الآيات البيّنة ويقيم لهم الحجج القيّمة ، فعنئذٍ يظهر لهم الحق ، فربّما كانوا يعزمون على اتّباعه والسير وراء أفكاره ، ولكن هذه الحالة لم تدم طويلاً ، إذ سرعان ما يعودون إلى تقليد الآباء ، وظلمة الشهوات والشبهات ، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : ( يَكادُ الْبَرقُ يَخْطَفُ أَبْصارهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشوا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا ).
    إلى هنا تمّ التطبيق المركب لكن في مقاطع ثلاثة.
    ثمّ إنّه سبحانه أعقب التمثيل بقوله : ( وَلَو شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأَبْصارِهِم إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدير ) أي انّه سبحانه قادر أن يجعلهم صمّاً وعمياًحتى لا ينجع فيهم وعظ واعظ ولا تجدي هداية هادٍ.
    وذهاب سمعهم وأبصارهم نتيجة أعمالهم الطالحة التي توصد باب


(85)
التوفيق أمامهم فيصيرون صمّاً وبكماً وعمياً.
    ثمّ إنّ الآيات القرآنية تفسر تلك الحالة النفسانية التي كانت تسود المنافقين في مهجر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث كانوا في حيطة وحذر من أن تنزل عليهم سورة تكشف نواياهم ، كما يشير إليه قوله سبحانه : ( يَحْذَرُ المُنافِقُونَ أَن تُنَزَّل عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِءُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُون ). (1)
    ومن جانب آخر يشاهدون تنامي قدرة الاِسلام وتزايد شوكته على وجه يستطيع أن يقطع دابرهم من أديم الاَرض ، يقول سبحانه : ( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالمُرجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاّ قَلِيلاً * مَلْعُونينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتّلُوا تَقْتِيلاً ). (2)
    هذا بعض ما يمكن أن يقال حول التمثيل الوارد في حق المنافقين ، ولكن المهمَّ تطبيق هذا التمثيل على منافقي عصرنا ، فدراسة حال المنافقين في عصرنا هذا من أهم وظيفة المفسّر ، فانّ حقيقة النفاق واحدة ، ترجع إلى إظهار الاِيمان وإبطان الكفر لغاية الاِضرار بالاِسلام والمسلمين ، وهم يقيمون في خوف ورعب ، وفي الوقت نفسه صم بكم عمي فهم لا يرجعون.
    1 ـ التوبة : 64.
    2 ـ الاَحزاب : 60 ـ 61.


(86)
سورة البقرة
3
التمثيل الثالث
    قال سبحانه : ( إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبّهِمْ وَأَمّا الّذينَ كَفَروا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاّ الْفاسِقِينَ * الَّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الاََرضِ أُولئِكَ هُمُ الخاسِرُون ). (1)
    تفسير الآيات
    الحياء تغيّر وانكسار يعتري الاِنسان من تخوّف مايعاب به ويُذمّ ، يقال : فلان يستحي أن يفعل كذا ، أي أنّ نفسه تنقبض عن فعله.
    فعلى هذا فالحياء من مقولة الانفعال ، فكيف يمكن نسبته إلى الله سبحانه مع أنّه لا يجوز عليه التغيّر والخوف والذم؟
    الجواب : إنّ إسناد الحياء كإسناد الغضب والرضا إلى الله سبحانه ، فإنّها جميعاً تسند إلى الله سبحانه متجردة عن آثار المادة ، ويوَخذ بنتائجها ، وقد اشتهر قولهم : « خذوا الغايات واتركوا المبادىَ » فالحياء يصدُّ الاِنسان عن إبراز ما
    1 ـ البقرة : 26 ـ 27.

(87)
يضمره من الكلام ، والله سبحانه ينفى النتيجة ، أي لا يمنعه شيء عن إبراز ما هو حق ، قال سبحانه : ( فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُوَْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِ مِنَ الحَقّ ). (1)
    وأمّا ضرب المثل فقد مرّ الكلام فيه ، وقلنا : إنّ لاستخدام كلمة « ضرب المثل » في التمثيل بالاَمثال وجوهاً :
    منها : أنّ ضرب المثل في الكلام يذكر لحال ما يناسبها ، فيظهر من حسنها أو قبحها ما كان خفياً ، وهو مأخوذ من ضرب الدراهم ، وهو حدوث أثر خاص فيها ، كأن ضرب المثل يقرع به أذن السامع قرعاً ينفذ أثره في قلبه ، ولا يظهر التأثير في النفس بتحقير شيء وتقبيحه إلاّ بتشبيهه بما جرى العرف بتحقيره ونفور النفوس منه. (2)
    البعوضة : حيوان حقير يشبه خرطومه خرطوم الفيل ، أجوف وله قوّة ماصة تسحب الدم ، وقد منح الله سبحانه هذا الحيوان قوة هضم ودفع كما منحه أُذناً وأجنحة تتناسب تماماً مع وضع معيشته ، وتتمتع بحساسية فائقة ، فهي تفر بمهارة عجيبة حين شعورها بالخطر ، وهي مع صغرها وضعفها يعجز عن دفعها كبار الحيوانات. وقد اكتشف علماء الحيوان موَخراً انّ البعوضة قادرة على تشخيص فريستها من مسافة تقرب عن 65 كيلومتراً.
    قال أمير الموَمنين علي ( عليه السلام ) في حقّها : « كيف ولو اجتمع جميع حيوانها ، مناطيرها وبهائمها ، وما كان من مراحها وسائمها ، وأصناف أسناخها وأجناسها ، ومتبلدة أُممها وأكياسها ، على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها ، ولا عرفت
    1 ـ الاَحزاب : 53.
    2 ـ تفسير المراغى : 1/70.


(88)
كيف السبيل إلى إيجادها ، ولتحيّرت عقولها في علم ذلك وتاهت وعجزت قواها وتناهت ، ورجعت خاسئة حسيرة ، عارفة بأنّها مقهورة ، مقرة بالعجز عن إنشائها ، مذعنة بالضعف عن إفنائها ». (1)
    يقول الاِمام جعفر بن محمد الصادق 8بشأن خلقة هذا الحيوان الصغير :
    « إنّما ضرب الله المثل بالبعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين ، فأراد الله سبحانه أن ينبّه بذلك الموَمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعته ». (2)
    إلى هنا تمّ تفسير مفردات الآية ، وأمّا تفسير الآية برمّتها فقد نقل المفسرون في سبب نزولها وجهين :
    الاَوّل : أنّ الله تعالى لما ضرب المثلين قبل هذه الآية للمنافقين ، أعني قوله : ( مثلهم كمَثل الذي استوقد ناراً ) وقوله : ( أو كصيّب من السماء ) قال المنافقون : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الاَمثال ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
    الثاني : أنّه سبحانه لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت تكلّم فيه قوم من المشركين وعابوا ذكره ، فأنزل الله هذه الآية. (3)
    ولا يخفى ضعف الوجه الاَوّل ، فإنّ المنافقين لم ينكروا ضرب المثل ، وإنّما أنكروا المثلين اللّذين مثّل بهما سبحانه حال المنافقين ، وعند ذلك لا يكون التمثيل بالبعوضة جواباً لردّ استنكارهم ، لاَنّهم أنكروا المثلين اللّذين وردا
    1 ـ نهج البلاغة : الخطبة186.
    2 ـ مجمع البيان : 1/67.
    3 ـ مجمع البيان : 1/67.


(89)
في حقهما ، فلا يكون عدم استحيائه سبحانه من التمثيل بالبعوضة ردّاً على اعتراضهم.
    وأمّا الثاني ، فقد ورد ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في مكة المكرمة ، لاَنّ الاَوّل ورد في سورة الحج ، وهي سورة مكية ، والآخر ورد في سورة العنكبوت ، وهي أيضاً كذلك. وهذه الآية نزلت في المدينة ، فكيف تكون الآية النازلة في مهجر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جواباً على اعتراض المشركين في موطنه؟
    وعلى كلّ تقدير فالآية بصدد بيان أنّ الملاك في صحة التمثيل ليس ثقل ما مثّل به أو كبره ، فلا التمثيل بالبعوضة عيب ولا التمثيل بالاِبل والفيل كمال ، وإنّما الكمال أن يكون المثل مبيناً لحقيقة وواقعة غفل عنها المخاطب من دون فرق بين كون الممثل صغيراً أو كبيراً.
    وبعبارة أُخرى : إذا كان الغرض التأثير فالبلاغة تقضي بأن تضرب الاَمثال لما يراد تحقيره بحقيرها ولما يراد التنفير بما اعتادت النفوس النفور منها ، فالملاك هو كون المثل مفيداً لما يريد المتكلم تحقيقه ، من غير فرق بين حقير الاَشياء وكبيرها ، وهو سبحانه يشير إلى ذلك المعنى بقوله : ( إِنَّ الله لا يَسْتَحْيي أن يضربَ مثلاً ما بَعوضة ) ( بل ) فوقها في الصغر كالجراثيم التي لا ترى إلاّ بالمجهر ، كما تقول : فلان لا يبالي أن يبخل بنصف درهم فما فوقه أي مما فوقه في القلة.
    ولو أُريد ما فوقه في الكثرة يقول مكانه « فضلاً عن الدرهم والدرهمين ».
    فما في كلام بعض المستشرقين من أنّ الصحيح أن يقول « فما دونه » غير تام. للفرق بين قوله : « فما فوقه » وقوله « فضلاً » و الاَوّل بقرينة المقام بمعنى فما فوقه في الصغر والحقارة لا بمعنى « فضلاً ».
    وربما تفسر الآية بأنّه لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها في


(90)
الكبر ، ولكن الاَوّل هو الاَوفق لمقصود المتكلم. كما يقال عند لوم المتجرى : بأنّك تقترف جريمة لاَجل دينار بل فوقه ، أي نصف دينار ، والمراد من الفوقية هو الفوقية في الحقارة.
    وقد أورد الزمخشري على نفسه سوَالاً ، وهو : كيف يضرب الله المثل لما دون البعوضة وهي في النهاية في الصغر؟ ثمّ أجاب :
    إنّ جناح البعوضة أقل منها وأصغر بدرجات ، وقد ضربه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مثلاً للدنيا ، وفي خلق الله حيوان أصغر منها ومن جناحها ربما رأيت في تضاعيف الكتب العتيقة دويبة لا يكاد يجليها للبصر الحاد إلاّ تحركها فإذا سكنت ، فالسكون يواريها ، ثمّ إذا لوّحت لها بيدك حادت عنها وتجنبت مضرتها ، فسبحان من يدرك صورة تلك وأعضاءها الظاهرة والباطنة ، وتفاصيل خلقتها ، ويبصر بصرها ، ويطلع على ضميرها ، ولعل في خلقه ما هو أصغر منها وأصغر سبحان الذي خلق الاَزواج كلّها مما تنبت الاَرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون. (1)
    وقال البيضاوي : لما كانت الآيات السابقة متضمنة لاَنواع من التمثيل عقب ذلك ببيان حسنه ، وما هو الحق له والشرط فيه ، وهو أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي تعلق بها التمثيل في العظم والصغر ، والخسة والشرف ، دون الممثل ، فانّ التمثيل إنّما يصار إليه لكشف المعنى الممثل له ، ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ، ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه ، فانّ المعنى الصرف إنّما يدركه العقل مع منازعة من الوهم ، لاَنّ من طبعه الميل إلى الحس وحب المحاكاة ، ولذلك شاعت الاَمثال في الكتب الاِلهية وفشت في عبارات البلغاء ، وإشارات الحكماء ، فيمثل الحقير بالحقير كما يمثل العظيم
    1 ـ الكشاف : 1/205 ـ 206.
مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: فهرس