مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: 91 ـ 100
(91)
بالعظيم ، وإن كان المثل أعظم من كلّ عظيم ، كما مثل في الاِنجيل على الصدور بالنخالة ، والقلوب القاسية ، بالحصاة ، ومخاطبة السفهاء ، بإثارة الزنابير ، وجاء في كلام العرب : أسمع من قراد ، وأطيش من فراشة ، وأعز من مخ البعوض. (1)
    وربّما يتصور أنّ التمثيل بالاَشياء الحقيرة الخسيسة لا يليق بكلام الفصحاء ، وعلى هذا فالقرآن المشتمل على النمل والذباب والعنكبوت والنحل لا يكون فصيحاً فضلاً عن كونه معجزاً.
    وأجاب عنه صدر المتألهين الشيرازي ( المتوفّى عام 1050 هـ ) بقوله : إنّ الحقارة لا تنافي التمثيل بها ، إذا شرط في المثال أن يكون على وفق الممثل له من الجهة التي يستدعي التمثيل به كالعظم والحقارة ، والشرف والخساسة ، لا على وفق من يوقع التمثيل ويضرب المثال ، لاَنّ الغرض الاَصلي منه إيضاح المعنى المعقول ، وإزالة الخفاء عند إبرازه في صورة المشاهد المحسوس ، ليساعد فيه الوهم العقل ولا يزاحمه ، فانّ العقل الاِنساني مادام تعلقه بهذه القوى الحسيّة لا يمكنه إدراك روح المعنى مجرّداًعن مزاحمة الوهم ومحاكاته ، لاَنّ من طبعه كالشياطين الدعابة في التخييل وعدم الثبات على صورة.
    ولذلك شاعت الاَمثال في الكتب الاِلهية ، وفشت في عبارات الفصحاء من العرب وغيرهم ، وكثرت في إشارات الحكماء ومرموزاتهم ، وصحف الاَوائل ومسفوراتهم ، تتميماً للتخيّل بالحس ، فهناك يضاعف في التمثيل ، حيث يمثل أوّلاً المعقول بالمتخيل ، ثمّ يمثل المتخيل بالمرسوم المحسوس المهندس المشكل. (2)
    ثمّ إنّه سبحانه يذكر أنّ الناس أمام الاَمثال على قسمين :
    1 ـ تفسير البيضاوى : 1/43.
    2 ـ تفسير القرآن الكريم : 2/192 ـ 193.


(92)
     أ : الموَمنون : وهم الذين قال سبحانه في حقّهم : ( فَأَمّا الّذين آمَنُوا فَيَعْلَمُون انّهُ الحَقُّ مِنْ رَبّهِمْ ).
    ب : الكافرون : وهم الذين قال سبحانه في حقّهم : ( وَأَمّا الّذين كَفَروا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللهُ بِهذا مثَلاً ). والظاهر أنّ قولهم ( أراد اللّهُ ) كان على سبيل الاستهزاء بادّعاء الرسول أنّ المثل وحي منزل من الله ، وإلاّ فانّ الكافرين والمنافقين كانوا ينكرون الوحي أصلاً.
    ولا غرو في أن يكون شيء سبب الهداية لطائفة وسبب الضلال لطائفة أُخرى ، وما هذا إلاّ لاَجل اختلاف القابليات ، فمن استعد لقبول الحقّ والحقيقة فتصبح الآيات الاِلهية سبب الهداية ، وأمّا الطائفة الاَُخرى المعاندون الذين صمّوا مسامعهم عن سماع كلمة الحق وآياته فينكرون الآيات ويكفرون بذلك.
    ثمّ إنّ الظاهر أنّ قوله سبحانه : ( يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلاّ الفاسقين ) من كلامه سبحانه ، ولا صلة له بكلام المنكرين ، بل تم كلامه بقوله : ( بها مثلاً ) وهو انّ الاَمثال توَثر في قوم دون قوم.
    ثمّ إنّه يعلّل إضلال غير الموَمنين بفسقهم ويقول : ( وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاّ الفاسقين ) ، والفسق : عبارة عن خروج النواة من التمر ، وفي الاصطلاح : من خرج عن طاعة الله ، سواء أكان مسلما متجرياً أو كافراً فاسقاً.
    وقد أطنب المفسرون الكلام في مفاد الجملة الاَخيرة أعني : ( يُضِلُّ به كثيراً وَيَهْدي بهِ كَثيراً ) فربما يتوهم أنّ الآية بصدد الاِشارة إلى الجبر ، فحاولوا تفسير الآية بشكل يتلاءم مع الاختيار ، وقد عرفت أنّ الحقّ هو أنّ الآية بصدد بيان أنّ المواعظ الشافية والكلمات الحِكَمية لها تأثير معاكس فيوَثر في القلوب المستعدة تأثيراً إيجابياً وفي العقول المنتكسة تأثيراً سلبياً.


(93)
    هذا هو تفسير الآية.
    وربّما يحتمل أنّ الآية ليست بصدد بيان ضرب المثل بالبعوضة كضربه بالعنكبوت والذباب ، بل الآية خارجة عن نطاق ضرب المثل بالمعنى المصطلح ، وإنّما الآية بصدد بيان قدرته وعظمته وصفاته الجمالية و الجلالية ، والآية بصدد بيان أنّ الله سبحانه لا يستحيي أن يستدل على قدرته وكماله وجماله بخلق من مخلوقاته سواء أكان كبيراً وعظيماً كالسماوات والاَرض ، أو صغيراً و حقيراً كالبعوضة والذباب ، فمعنى ضرب المثل هو وصفه سبحانه بصفات الجلال أو الكمال.
    ويدل على ذلك أنّه سبحانه استدل على جلاله وكماله بخلق السماوات والاَرض وقال : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الّذِي خَلقَكُمْ وَالّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الّذي جَعَلَ لَكُمُ الاََرضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ). (1)
    يلاحظ على تلك النظرية بأمرين :
    أوّلاً : لو كان المراد من ضرب المثل وصفه سبحانه بالقدرة العظيمة لكان اللازم أن يأتي بالآية بعد هاتين الآيتين مع أنّه فصل بينهما بآيات ثلاث تركّز على إعجاز القرآن و التحدّي به ، ثمّ التركيز على الجنة وثمارها كما هو معلوم لمن راجع المصحف الكريم.
    وثانياً : انّ القرآن يفسر بعضه بعضاً ، فقد جاء قوله : ( فَأَمّا الّذينَ آمنوا فيعلمون انّه الحق من ربّهم ) في سورة الرعد بعد تشبيه الحق و الباطل بمثل رائع
    1 ـ البقرة : 21 ـ 22.

(94)
يأتي البحث عنه إن شاء الله.
    قال سبحانه : ( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فسالَتْ أَودِيَةٌ بِقَدَرِها ... ) إلى أن قال : ( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الاََمثالَ ) ثمّ قال : ( أَفَمَنْ يَعْلَمُ انّمَا أُنزل إِلَيكَ مِن ربِّكَ الحقُّ كَمَن هو أعمى إِنّما يَتَذَكّرُ أُولُوا الاَلباب * الّذين يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ ولاَ يَنْقُضُونَ المِيثاقَ ). (1)
    تجد أنّ الآيات في سورتي البقرة والرعد كسبيكة واحدة يفسر بعضها البعض.
    ففي سورة البقرة ذكر ضرب المثل بالبعوضة ، كما ضرب في سورة الرعد مثلاً للحق والباطل.
    ففي سورة البقرة قال سبحانه : ( وَأَمّا الّذين آمنوا فيعلمون أنّه الحقّ من ربّهم ).
    وفي سورة الرعد قال سبحانه : ( أَفَمَنْ يَعْلَمُ أنّ مَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبّكَ الحَقُّ كمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الاََلباب ).
    وفي سورة البقرة قال : ( وَما يُضِلُّ بهِ إِلاّ الفاسِقينَ ) ، وفسَّره بقوله : ( الّذين ينقضون عهد الله من بَعْدِ ميثاقِهِ ... ) الخ.
    وفي سورة الرعد ، فسّر أُولي الاَلباب بقوله : ( الّذينَ يُوفُونَ بعَهدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ المِيثاق ). (2)
    فبمقارنة هذه الآيات يعلم أنّ المراد من ضرب المثل هو المعنى المعروف أي التمثيل بالبعوضة لتحقير معبوداتهم أو ما يشبه ذلك.
    نعم ما نقلناه عن الاِمام الصادق ( عليه السلام ) ربّما يوَيد ذلك الوجه كما مرّ ، فتدبّر.
    1 ـ الرعد : 17 ـ 20.
    2 ـ الرعد : 20.


(95)
سورة البقرة
4
التمثيل الرابع
    ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَانَّ مِنَ الحِجارَة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الاََنْهارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُون ). (1)
    تفسير الآية
    جاءت الآية بعد قصة البقرة التي ذبحها بنو إسرائيل ، وقد كانوا يجادلون موسى ( عليه السلام ) بغية التملّص من ذبحها ، ولكن قاموا بذبحها و ما كادوا يفعلون.
    وكان ذبح البقرة لاَجل تحديد هوية القاتل الذي قام بقتل ابن عمه غيلة واتهم بقتله شخصاً آخر من بني إسرائيل ، فصاروا يتدارأون ويدفعون عن أنفسهم هذه التهمة ، فرجعوا في أمرهم إلى موسى ( عليه السلام ) ، وشاء الله أن يظهر حقيقة الاَمر بنحو معجز ، فقال لهم موسى ( عليه السلام ) : ( انّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) ، فلمّ ـ ا ذبحوها ـ بعد مجادلات طويلة ـ أمر سبحانه أن يضربوا المقتول ببعض البقرة حتى يحيى المقتول ويعين هوية القاتل.
    قال سبحانه : ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يحيي اللهُ المَوتى وَيُريكُمْ آياتِهِ
    1 ـ البقرة : 74.

(96)
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون
). (1)
    ومع روَية هذه المعجزة الكبرى التي كان من المفروض أن تزيد في إيمانهم وانصياعهم لنبيهم موسى ( عليه السلام ) ، لكن ـ و للاَسف ـ قست قلوبهم بنحو يحكي سبحانه شدة تلك القساوة و يقول :
    ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كالحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة ).
    وبما أنّ الحجر هو المعروف بالصلابة والقساوة شبّه سبحانه قلوبهم بالحجارة وقال : إنَّ قُلوبهُمْ ( كالحِجارَة أَوْ أَشَدّ قَسوَة ) أي : بل أشدّ قسوة ، فكلمة "أو" موضوعة مكان بل.
    ثمّ إنّ القلوب إمّا بمعنى النفوس الناطقة ، فعندئذ تكون نسبة القساوة إلى الروح نسبة حقيقية. أو انّ المراد منها هو العضو المودع في الجهة اليسرى من الصدر الذي ليس له دور سوى تصفية الدم وإرساله إلى سائر الاَعضاء ، وعندئذٍ تكون النسبة مجازية ، وإنّما نسبت القساوة إلى ذلك العضو ، لاَنّه مظهر من مظاهر الحياة الاِنسانية ، وأوّل عضو يتأثر بالاَُمور النفسانية كالفرح والغضب والحزن والجزع ، فلامنافاة في أن يكون المدرك هو النفس الناطقة ، ومع ذلك يصحّ نسبة الاِدراك إلى القلب.
    ثمّ إنّه سبحانه وصف قلوبهم بأنّها أشدّ قسوة من الحجارة ، وعلّل ذلك بأُمور ثلاثة :
    الاَوّل : ( وَانّ مِنَ الحِجارة لَما يَتَفَجَّرُ مِنْه الاََنْهار ).
    الثاني : ( وَانَّ مِنْها لما يَشَّقّق فيَخرج مِنْهُ الماء ).
    1 ـ البقرة : 73.

(97)
    الثالث : ( وَإنّ مِنْها لما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله ).
    أمّا الاَوّل : أي تفجّر الاَنهار من الحجارة ، كالعيون الجارية من الجبال الصخرية.
    وأمّا الثاني : كالعيون الحادثة عند الزلازل المستتبعة للانشقاق والانفجار المستعقب لجريان الاَنهار.
    وأمّا الثالث : كهبوط الحجارة من الجبال العالية إلى الاَودية المنخفضة من خشية الله.
    ولا مانع من أن يكون للهبوط علة طبيعية كالصواعق التي تهبط بها الصخور وعلة معنوية التي كشف عنها الوحي ، وهي الهبوط من خشية الله.
    وعلى ضوء ذلك فالحجارة على الرغم من صلابتها تتأثر طبقاً للعوامل السالفة الذكر ، وأمّا قلوب بني إسرائيل فهي صلبة لا تنفعل أمام وحيه سبحانه وبيان رسوله ، فلا تفزع نفوسهم ولا تخشع لاَمره ونهيه.
    ومن عجيب الاَمر أنّ بني إسرائيل رأوا بأُمّ أعينهم ليونة الحجارة حيث استسقى موسى لقومه ، فأمر بأن يضرب بعصاه الحجر ، فلمّا ضربه انفجرت منه اثنتا عشرة عيناً بعدد الاَسباط.
    ثمّ إنّ ظاهر الآية نسبة الشعور إلى الحجارة حيث إنّها تهبط من خشية الله ، وهذه حقيقة علمية كشف عنها الوحي وإن لم يصل إليها الاِنسان بأدواته الحسية.
    يقول صدر المتألهين : إنّ الكون بجميع أجزائه يسّبح لله ويحمده ويثني عليه تعالى عن شعور ، فلكلّ موجود من هذه الموجودات نصيب من الشعور والاِدراك بقدر ما يملك من الوجود من نصيب.


(98)
وعلى هذا الشعور تسّبح الموجودات كلّها ، خالقها وبارئها وربّها سبحانه وتنزّهه عن كلّ نقص وعيب.
    ثمّ يقول : إنّ العلم والشعور والاِدراك كلّ ذلك متحقّق في جميع مراتب الوجود ، ابتداء من "واجب الوجود" إلى النباتات والجمادات ، وانّ لكلّ موجود يتحلّى بالوجود سهماً من الصفات العامة كالعلم والشعور والحياة. و ... و ... ولا يخلو موجود من ذلك أبداً ، غاية ما في الاَمر أنّ هذه الصفات قد تخفى علينا ـ بعض الاَحيان ـ لضعفها وضآلتها.
    على أنّ موجودات الكون كلما ابتعدت عن المادة والمادية ، واقتربت إلى التجرد ، أو صارت مجردة بالفعل ازدادت فيها هذه الصفات قوة وشدة ووضوحاً ، وكلّما ازدادت اقتراباً من المادة والمادية ، وتعمّقت فيها ، ضعفت فيها هذه الصفات ، وضوَلت حتى تكاد تغيب فيها بالمرّة ، كأنّها تغدو خلوة من العلم والشعور والاِدراك ، ولكنّها ليست كذلك ـ كما نتوهم ـ إنّما بلغ فيها ذلك من الضعف ، والضآلة بحيث لا يمكن إدراكها بسهولة وسرعة. (1)
    وليست هذه الآية هي الفريدة في بابها ، بل هناك آيات توَكد على جريان الشعور في أجزاء العالم من الذرة إلى المجرّة.
    يقول سبحانه : ( تُسَبّحُ لَهُ السَّمواتُ السَّبْعُ وَالاََرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَىْءٍ إِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً ). (2)
    وبما أنّنا بسطنا الكلام في سريان الشعور إلى أجزاء العالم برمّته في الجزء الاَوّل من هذه الموسوعة ، فلنقتصر على ذلك ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى محلّه.
    1 ـ الاَسفار : 1/118 و 6/139 ، 140.
    2 ـ الاِسراء : 44.


(99)
سورة البقرة
5
التمثيل الخامس
    ( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاّ دُعاءً وَنِداءً صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ). (1)
تفسير الآية
    النعيق : صوت الراعي لغنمه زجراً ، يقال : نعق الراعي بالغنم ، ينعق نعيقاً ، إذا صاح بها زجراً.
    والنداء : مصدر نادى ينادي مناداة ، وهو أخص من الدعاء ، ففيه الجهر بالصوت ونحوه ، بخلاف الدعاء.
    وفي تفسير الآية وجوه :
    الاَوّل : انّ الآية بصدد تشبيه الكافرين بالناعق الذي ينعق بالغنم ، ولا يصح التشبيه عندئذٍ إلاّ إذا كان الناعق أصم ، ويكون معنى الآية : انّ الذين كفروا الذين لا يتفكرون في الدعوة الاِلهية ، كمثل الاَصم الذي ينعق بما لا يسمع نفسه ولا يميز من مداليل نعاقه معنى معقولاً إلاّ دعاءً ونداءً وصوتاً بلا معنى.
    وجه التشبيه : انّ الناعق أصم كما أنّ هوَلاء الكافرين صم بكم عمي لا يعقلون.
    1 ـ البقرة : 171.

(100)
وفي هذا المعنى المشبه هو الكافرون الذين لا يفهمون من الدعوة النبوية إلاّ صوتاً ودعوة فارغة من المعنى.
    والمشبه به : هو الناعق الاَصم الذي ينعق بالغنم ، ولكن لا يسمع من نعاقه إلاّ دعاءً ونداءً.
    وهذا الوجه وإن كان ينطبق على ظاهر الآية ، ولكنّه بعيد من حيث المعنى ، إذ لو كان الهدف هو التركيز على أنّ الكافرين صم بكم عمي لا يعقلون لكفى تشبيههم بالحيوان الذي هو أيضاً كذلك ، فما هو الوجه لتشبيههم بإنسان عاقل أخذ منه سمعه لا يسمع من نعاقه إلاّ صوتاً ونداءً؟
    الثاني : انّ المشبه هو النبي ( صلى الله علثيه وآله وسلم ) ، والمشبه به هو الناعق للغنم ، والمراد ومثلك أيها النبي في دعاء الذين كفروا كمثل الذي ينعق في البهائم التي لا تسمع من نعيقه إلاّ دعاءً ونداءً ما ، فتنزجر بمجرد قرع الصوت سمعها من غير ان تعقل شيئاً ، فهم ـ الكافرون ـ صمّ لا يسمعون كلاماً يفيدهم ، وبكم لا يتكلمون بما ينفع ، وعمي لا يبصرون ، فهم لا يعقلون شيئاً ، لاَنّ الطرق الموَدية إلى التعقل موصدة عليهم.
    ومن ذلك ظهر أنّ في الكلام قلباً أو عناية أُخرى يعود إليه ، فانّ المثل بالذي ينعق بما لا يسمع إلاّ دعاءً ونداءً مثل الذي يدعوهم إلى الهدى لا مثل الكافرين المدعوين إلى الهدى ، إلاّ انّ الاَوصاف الثلاثة التي استنتجت واستخرجت من المثل وذكرت بعده ، وهي قوله : ( صمّ بكمٌ عميٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُون ) ، لما كانت أوصافاً للذين كفروا لا لمن يدعوهم إلى الحقّ استوجب ذلك أن ينسب المثل إلى الذين كفروا لا إلى رسول الله تعالى فأنتج ما أشبه القلب. (1)
    1 ـ الميزان : 1/420.
مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: فهرس