مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: 131 ـ 140
(131)
الزراعة أو في غير وقتها ، فهبّت عليه العواصف فذهب أدراج الرياح ، إذ لا شكّ انّ للزمان و المكان تأثيراً بالغاً في نمو الزرع ، فالنسيم الهادىَ الذي يهب على الزرع ويلامسه والاَرض الخصبة كلها عوامل تزيد في طراوة الزرع ونضارته.
    هذا هو المشبه به ، فالكافر إذا أنفق ماله في هذه الحياة الدنيا بغية الانتفاع به ، فهو كمن زرع في غير موضعه أو زمانه ، فلا ينتفع من إنفاقه شيئاً ، فانّ الكفر وما يتبعه من الهوى يبيد إنفاقه ، ولذلك قال سبحانه : ( إِنَّ الّذينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْني عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَولادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً ).


(132)
الاَنعام
14
التمثيل الرابع عشر
    ( أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِى بِهِ فِي النّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُون ). (1)
    تفسير الآية
    نزلت الآية في حمزة بن عبد المطلب وأبي جهل بن هشام ، و ذلك انّ أبا جهل آذى رسول الله فأخبر بذلك حمزة ، وهو على دين قومه ، فغضب وجاء ومعه قوس فضرب بها رأس أبي جهل وآمن ، وهو المروي عن ابن عباس.
    وقيل : إنّها نزلت في عمار بن ياسر حين آمن وأبي جهل ، و هو المروي عن أبى جعفر ، ولكن الظاهر انّها عامة في كلّ موَمن وكافر ، ومع ذلك لا يمنع هذا نزولها في شخصين خاصين.
    ففي هذه الآية تمثيلات وتشبيهات جعلتها من قبيل التشبيه المركب نذكرها تباعاً :
    1. يقول سبحانه : ( أَوَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ ) وقد شبّه الكافر بـ « الميت » الذي هو مخفف الميّت والموَمن بالحي.
    1 ـ الاَنعام : 122.

(133)
وليست الآية نسيجاً وحدها فقد شبّه الموَمن في غير واحد من الآيات بالحي ، والكافر بالميت ، قال سبحانه : ( فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوتَى ) (1) ( لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيّاًً ) (2) و ( وَما يَسْتَوِي الاََحْياءُ وَلاَ الاََمْواتُ ). (3)
    2. يقول سبحانه : ( وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشي بِهِ فِي النّاسِ ) فقد شبّه القرآن بالنور ، حيث إنّ الموَمن على ضوء القرآن يشق طريق السعادة ، قال سبحانه : ( يا أَيُّهَا النّاسُ قَد ْ جاءَكُم بُرهانٌ مِنْ رَبّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبيناً ). (4)
    وقال سبحانه : ( مَا كُنْتَ تَدري مَا الكِتابُ ولاَ الاِِيمَانُ ولكِن جَعَلْناهُ نُوراً ) (5) ، فالقرآن ينوّر الدرب للموَمن.
    3. يقول سبحانه ( كمَن مَثله فِي الظُلمات لَيْس بِخارجٍ مِنْها ) ، فالمراد من الظلمة إمّا الكفر أو الجهل ، ويوَيد الاَوّل قوله سبحانه : ( اللهُ وَلِيُّ الّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّور ). (6)
    ثمّ إنّه سبحانه شبه الكافر بالذي يمكث في الظلمات لا يهتدى إلى شيء بقوله : ( كَمَنْ مَثَلهُ فِي الظُّلمات ) ولم يقل : كمن هو في الظلمات ، بل توسط لفظ المثل فيه ، ولعل الوجه هو تبيين انّه بلغ في الكفر والحيرة غاية يضرب به المثل.
    هذا هو تفسير الآية على وجه التفصيل.
    1 ـ الروم : 52.
    2 ـ يَس : 70.
    3 ـ فاطر : 22.
    4 ـ النساء : 174.
    5 ـ الشورى : 52.
    6 ـ البقرة : 257.


(134)
    وحاصل الآية : انّ مثل من هداه الله بعد الضلالة ومنحه التوفيق لليقين الذي يميز به بين المحق والمبطل ، والمهتدي والضال ، ـ مثله ـ من كان ميتاً فأحياه الله و جعل له نوراً يمشي به في الناس مستضيئاً به ، فيميز بعضه من بعض.
    هذا هو مثل الموَمن ، ولا يصح قياس الموَمن بالباقي على كفره غير الخارج عنه ، الخابط في الظلمات المتحير الذي لا يهتدي سبيل الرشاد.
    وفي الحقيقة الآية تشتمل على تشبيهين :
    الاَوّل : تشبيه الموَمن بالميّت المحيا الذي معه نور.
    الثاني : تشبيه الكافر بالميّت الفاقد للنور الباقي في الظلمات ، والغرض انّ الموَمن من قبيل التشبيه الاَوّل ، دون الثاني.


(135)
الاَعراف
15
التمثيل الخامس عشر
    ( وَهُوَ الّذِي يُرْسِلُ الرّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ حَتّى إِذا أَقلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ المَوتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون * وَالبَلَد الطَّيّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ وَالّذي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرّفُ الآيات لِقَومٍ يَشْكُرُون ). (1)
    تفسير الآية
    « أقلّ » من الاِقلال ، وهو حمل الشيء بأسره.
    والنكد : العسر الممتنع من إعطاء الخير ، يقال نكد إذا سئل فبخل ، قال الشاعر :
    وأعطي ما أعطيته طيّباًلا خير في المنكود والناكد « البلد الطيب » : عبارة عن الاَرض الطيب ترابها ، ففي مثلها يخرج الزرع نامياً زاكياً من غير كدٍّ ولا عناء ، كلّ ذلك بإذنه سبحانه.
    والبلد الخبيث هي الاَرض السبخة التي خبث ترابها لا يخرج ريعها إلاّ
    1 ـ الاَعراف : 57 ـ 58.

(136)
شيئاً قليلاً ، و كأنّها لا تعطي إلاّ شيئاً قليلاً وهو بالعسر.
    وتصريف الآيات عبارة عن تكررها.
    ذكر سبحانه في الآية الا َُولى بأنّه يرسل الرياح مبشرةً برحمته ، فإذا حملت سحاباً ثقالاً بالماء ساقه سبحانه إلى بلد ميت فتحيا به الاَرض وتوَتي ثمراتها.
    وعاد سبحانه في الآية الثانية إلى القول بأنّ هطول المطر وسقي الاَرض جزء مما يتوقف عليه خروج النبات ، وهناك شرط آخر وهو أن تكون الاَرض خصبةصالحة للزراعة دونما إذا كانت خبيثة ، هذا هو حال المشبه به.
    وأمّا المشبه فهو انّه سبحانه يُشبِّهُ الموَمن بأرض طيبة تلين بالمطر ويحسن نباتها ويكثر ريعها ، كما تشبه قلب الكافر بالاَرض السبخة لا تنبت شيئاً ، فقلب الموَمن كالاَرض الطيبة وقلب الكافر كالاَرض السبخة.


(137)
الاَعراف
16
التمثيل السادس عشر
    ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الّذي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الغَاوِين * وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الاََرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْركْهُ يَلْهَث ذلِكَ مَثَلُ الْقَومِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * ساءَ مَثَلاً الْقَومُ الّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُون ). (1)
    تفسير الآيات
    النبأ : الخبر عن الاَمر العظيم ومنه اشتقاق النبوة ، أخلد إلى الاَرض أي سكن إليها.
    السلخ : النزع ، وقوله : ( أخْلد إلى الاَرض ) لصق بها ، واللهث أن يدلع الكلب لسانه من العطش ، واللهاث حرّ العطش.
    هذا هو تفسير مفردات الآية ، وأمّا المضمون فالآية تمثيل يتضمن مشبهاً ومشبهاً به ، أمّا الثاني فقد اختلفت كلمة المفسرين في المراد منه ، فالاَكثر على أنّ المراد هو بلعم بن باعوراء الذي كان عالماً من علماء بني إسرائيل ، وقيل من
    1 ـ الاَعراف : 175 ـ 177.

(138)
الكنعانيين أُوتي علم بعض كتاب الله ، ولكنّه كفر به ونبذه وراء ظهره ، فلحقه الشيطان وصار قريناً له وكان من الغاوين الضالين الكافرين.
    والاِمعان في الآية يعرب عن بلوغ الرجل مقاماً شامخاً في العلم والدراية ، وعلى الرغم من ذلك فقد سقط في الهاوية ، وإليك ما يدل على ذلك في الآية :
    أ : لفظ ( نبأ ) حاك عن أنّه كان خبراً عظيماً لا خبراً حقيراً.
    ب : قوله : ( الذي آتَيْناهُ آياتنا ) حاك عن إحاطته بالحجج والبيّنات وعلم الكتب السماوية.
    ج : قوله : ( فانسلخ منها ) يدل على أنّ الآيات والعلوم الاِلهية كانت تحيط به إحاطة الجلد بالبدن إلاّ انّه خرج منها.
    ويوَيد ذلك انّه سبحانه يعبر عن التقوى باللباس ، ويقول : ( وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيرٌ ). (1)
    د : قوله : ( فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطان ) يدل على أنّ الشيطان كان آيساً من كفره وقد انقطعت صلته به ، لكنّه لما انسلخ من الآيات لحقه الشيطان واتبعه فأخذ يوسوس له كلّ يوم إلى أن جعله من الضالين.
    إلى هنا تم تفسير الآية الا َُولى ، وأمّا الآية الثانية فهي تتضمن حقيقة قرآنية ، وهي انّه سبحانه تبارك و تعالى كان قادراً على رفعه وتنزيهه وتقريبه إليه ، ولكنّه لم يشأ ، لاَنّ مشيئته سبحانه لا تتعلق بهداية من أعرض عنه واتّبع هواه ، إذ كيف يمكن تعلق مشيئته بهداية من أعرض عن الله وكذب آياته ، ولذلك يقول :
    ( وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها ) أي لرفعناه بتلك الآيات « ولكن ما شئنا » وليس
    1 ـ الاَعراف : 26.

(139)
ذلك للبخل منه سبحانه ، بل لفقدان الاَرضية الصالحة ، لاَنّه أخلد إلى الاَرض ولصق بها ، وكأنّها كناية عن الميل والنزوع إلى التمتع بالملاذ الدنيوية ، ومعه كيف تشمله العناية الربانية.
    ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى وجه آخر لعدم تعلّق مشيئته بهدايته ، وهو انّ هذا الاِنسان بلغ في الضلالة والغواية مرحلة صارت سجية وطبيعة له ، ومزج بها روحه ونفسه وفطرته ، فلا يصدر منه إلاّ التكذيب والاِدبار عن آياته ، فلذلك لا يوَثر فيه نصيحة ناصح ولا وعظ واعظ ، ولتقريب هذا الاَمر نأتي بتمثيل في ضمن تمثيل ، ونقول :
    ( فَمَثَلهُ كَمَثل الكَلْب انْ تَحْمل عَلَيه يَلْهَث أَوْ تَتْركهُ يَلهَث ) ، وذلك لاَنّ اللهث أثر طبيعي لسجيته فلا يمكن أن يخلّص نفسه منها.
    هذا هو المشبه به ، وهو يعرب عن أنّ الهداية والضلالة بيد الله تبارك وتعالى ، وقد تعلّقت مشيئته بهداية الناس بشرط أن تتوفر فيه أرضية خصبة توَهله لتعلّق مشيئته تعالى به ، فمن أخلد إلى الاَرض ولصق بها ، أي أخلد إلى المادة والماديات ، فلا تشمله الهداية الاِلهية بل هو محكوم بالضلال لكن ضلالاً اختيارياً مكتسباً.
    هذا هو حال المشبه به ، وقد عرفت أنّ التمثيل يتضمن تمثيلاً آخر.
    وأمّا المشبه فقد اختلفت كلمة المفسرين فيه ، فربما يقال : إنّ المراد أُمية بن أبي الصلت الثقفي الشاعر ، وكانت قصته انّه قرأ الكتب وعلم أنّ الله سبحانه يرسل رسولاً في ذلك الوقت ، ورجا أن يكون هو ذلك الرسول ، فلمّ ـ ا بعث سبحانه محمداً حسده ومرّ على قتلى بدر فسأل عنهم ، فقيل : قتلوا في حربهم مع النبي ، فقال : لو كان نبياً لما قتل أقرباءه ، وقد ذهب إلى الطائف ومات بها ،


(140)
فأتت أُخته الفارعة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فسألها عن وفاته ، فذكرت له انّه أنشد عند موته :
كل عيش وإن تطاول دهر ليتني كنت قبل ما قد بدا إنّ يوم الحساب يوم عظيم اًصائر مرة إلى أن يزولا ليفي قلال الجبال أرعى الوعولا شاب فيه الصغير يوماً ثقيلاً
    ثمّ قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لها أنشديني من شعر أخيك فأنشدت :
لك الحمدُ والنعماءُ والفضلُ ربّنا مليكٌ على عرش السّماءِ مهيمنٌ إنّ يوم الحساب يوم عظيم ولا شيء أعلى منك جدّاً وأمجدُ لعزّته تعنُو الوجوهُ وتسجدُ شاب فيه الصغير يوماً ثقيلاً
    ثمّ أنشدته قصيدته التي يقول فيها :
وقف الناس للحسابِ جميعاً فشقيّ معذّب وسعيد
والتي فيها :
عند ذي العرش تُعرضونَ عليه يوم يأتي الرحمنُ وهو رحيم يعلمُ الجهرَ والسِراءَ الخفيّا إنّه كان وعدُهُ مأتيّا

مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: فهرس